لعلها من وحي السراب أو الخيال أو الحلم أو الأمنية.. لاحت للعراقيين -بعض العراقيين- منتصف شهر أيار المنصرم بارقة أمل، حيث شدوا الرحال إلى صناديق ظن أغلبهم أنها أشبه بـ (صندوگ العجايب) حيث من المفترض أن الأخير يحوي من الخيرات أحسنها، ومن الفوائد أفضلها، ومن النتائج أصدقها، ومن الحلول أنجعها، تلك الصناديق هي صناديق الاقتراع.

  وهناك بين الذين توجهوا الى صناديق الاقتراع والذين امتنعوا، وبين المصدق والمكذب، وبين المؤيد والمعارض، خيوط رفيعة يكاد يقطعها اليأس من جهة، ويصل بينها التفاؤل من جهة أخرى، أما التفاؤل فتحدده ثلاثة معطيات؛ أولها الفعل وثانيها الفعل وثالثها الفعل.. شريطة أن يكون الفعل بمستوى القول والوعد والعهد، إذ شهد المواطن العراقي في سابق السنين ثلاثة معطيات ولدت لديه القنوط، أولها القول وثانيها القول وثالثها القول، ولم يك ثمة شيء غير القول يدخل أسمعه كرها أو طوعا، شاء أم أبى!.

  والقول والتقول والتصنع فيهما، هو شأن دأب عليه ساسة البلد ومسؤولوه، ولاسيما ممثلو الشعب في مجلس النواب، منذ انبثاق التجربة الديمقراطية المزعومة ودخول حريات الرأي والتعبير إلى البلد، حتى بات اي تصريح لأي نائب فيه -فضلا عن رئيسه- مشوبا -بنظر أغلب المواطنين- بالمكر والخديعة، ومايزيد الطين بلة ويحوّل شكوك المواطن الى يقين، ويحيل ظنه الى حقيقة مؤكدة، هو مايلمسه بعد اطلاق هذا النائب او ذاك الوعود والعهود، من مماطلة بالتنفيذ وتسويف بالتطبيق، علاوة على الانحياز الى جهة خارجية او داخلية، متفقين في ذات المخططات والغايات التي تبعد كل البعد عن مهمة النائب وما أقسم عليه، وتنأى كل النأي عن المهنية، وتحيد عن المصلحة العامة، وكل هذا قطعا له أهداف مرسومة وخطة موضوعة مسبقا.

  إذن، القول والفعل هما المحك الذي يضع المسؤول نفسه عليه، واذا كان الأول يسبق الثاني بكثير، فان الثاني يعطي الصورة الحقيقية للقائل ويميزه عن المتقوِّل، كما يعكس مصداقيته ونيته فيما قاله. والحال ذاته يتضح جليا في نكث العهود وإخلاف الوعود، فهي تعكس جملة خصال، اولها الغدر.. وثانيها الكذب.. وثالها الضِعَة وسوء الخلق.. وما قصدت من كلامي هذا غير برلماننا في دوراته السابقة، حيث اتضح تمام الوضوح البون الشاسع بين القول والفعل، وبين الوعد والوفاء، وبين القائل والمتقول. فالعجب -كل العجب- ممن يعرف الحكم على الكاذب ويمارس الكذب، وممن يرى مصير الخؤون والغدار ولايتوانى عن الخيانة والغدر، فإذا كان هذا ديدن برلماناتنا السابقة، فما الذي ياترى يكون عليه برلماننا المقبل؟ وان لم يطلع السابقون على ماسجل التاريخ بحق المتقولين، فإني أوجز للاحقين منهم حكاية لعلهم يتعظون.

 فقد روى لنا التاريخ عن شخص يعرف بإخلافه المواعيد حتى أضحى مثلا تتداوله الألسن في كل نادٍ.  إذ يروى أن رجلا يدعى (عرقوب) أتاه أخ له يسأله شيئاً من المال او المعونة، فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة، فلك طلعها. فلما أطلعت أتاه أخوه على الموعد، فقال له عرقوب: دعها حتى تصير بلحاً، فلما أبلحت أتاه فقال: دعها حتى تصير زهواً، فلما أزهت قال: دعها حتى تصير رطباً، فلما أرطبت قال: دعها حتى تصير تمراً، فلما أتمرت.. عمد إليها عرقوب فقطعها ولم يعط أخاه منها شيئاً. فقال فيه شاعر:

وعدت وكان الخُلف منك سجية 

 مواعيد عرقوب أخاه بيثرب

  فصار عرقوب بفعلته هذه معروفا بإخلافه الوعد، بعد المماطلة والتسويف به، وما شان الإخلاف وأزرى به انه إخلاف مع أخيه..! فما أٌقرب حكاية عرقوب على ما كان من نواب مجلسنا السابقين، حيث إخلاف الموعد كان مع أبناء جلدتهم. فهل يريد اللاحقون من النواب دخول التاريخ من ذات الباب الذي دخل منه عرقوب؟

عرض مقالات: