يكاد الحزب الشيوعي العراقي وبشهادة الكثيرين، الحزب السياسي الوحيد في العراق الذي يمكن اطلاق تسمية المؤسساتية عليه ولأسباب كثيرة، ومنها تجسيده لكل صفات الحزب السياسي من حيث البرنامج والنظام الداخلي وآليات العمل التنظيمية الداخلية التي يتبعها في كل مفاصل عمله، والتي تجددت وتطورت عبر مؤتمراته العشرة التي عقدها على مر حقبة تاريخية طويلة نسبيا وصلت الأربعة والثمانين عاماً، وأيضاً عبر تفرده بطرح مسودات ومقترحات برنامج عمله ونظامه الداخلي لعموم الشعب قبل عقده لمؤتمراته الوطنية، وعلنية نظامه الداخلي المنشور في كل وسائل الاعلام وبخلاف احزاب كثيرة يجهل المواطن أنظمتها الداخلية..
ولأهمية المجلس الاستشاري الحزبي في تنظيم الحياة الداخلية للحزب فقد أفرد له النظام الداخلي مادة كاملة هي المادة (12) تشير الى تركيبته المتكونة من أعضاء اللجنة المركزية، ويبلغ عددهم حسب ما أقره مؤتمر الحزب العاشر الأخير (31) رفيقة ورفيقا، اضافة الى سكرتيري اللجان المحلية ومسئولي لجان الاختصاص وأعضاء لجنة الرقابة المركزية. وينص نظام الحزب على دورية عقد اجتماعات المجلس الاستشاري كل أربعة أشهر أو عند الضرورة بدعوة من اللجنة المركزية.
جسدت اللجنة المركزية للحزب هذا الحق والنص في دعوتها لانعقاد المجلس الاستشاري الأخير في (15) حزيران بسبب الظروف الموجبة التي تخص آخر تطورات الوضع في العراق والمتعلقة بالعملية الانتخابية ومخرجاتها، وما حققه تحالف "سائرون" من موقع متقدم في الانتخابات الأخيرة وأيضاً ما يخص تشكيل الحكومة الجديدة وما سيسبقها من ائتلافات سياسية ضرورية لتشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر، وكما ورد في مقدمة البيان.
جاء انعقاد المجلس في هذه الظروف الصعبة استجابة لدعوات الرفاق في هيئات التنظيم المختلفة وبما فيهم رفاق اللجنة المركزية، ومع دعوات كثيرة من محبي ومؤازري الحزب ورفاقه وأصدقائه ومن أجل أن يكون صوت الشيوعيين واضحاً ومسموعاً في المنعطفات السياسية.
لقد جرت العادة ووفق آليات العمل التنظيمية ونظام الحزب الداخلي ان تعمم نتائج اجتماعات وتوصيات المجلس الاستشاري على المنظمات الحزبية في رسائل داخلية أي أن المجلس الاستشاري من شؤون الحزب التنظيمية الداخلية.
الجديد في ما يخص المجلس الاستشاري الأخير انه قد أصدر بياناً موجها لعموم الشعب وللرأي العام ولجميع رفاق الحزب وأصدقائه يتضمن فحوى المواضيع والتوصيات التي ناقشها، وهي مبادرة صحيحة ومطلوبة في ظروفنا الحالية ومن أجل إطلاع الرأي العام عموما على أفكار ورؤى الحزب الشيوعي العراقي في التحالفات والتفاهمات وطريقة تشكيل الكتلة الأكبر والحكومة عموماً، وهذا ما يدعو ويشجع لمناقشة وحوار بيان المجلس الاستشاري ومن أجل الاشارة للجوانب المضيئة والمهمة فيه.
سبق انعقاد المجلس الاستشاري اصدار المكتب السياسي للحزب تصريحا في (14) حزيران
وبعد الاعلان عن تحالف سائرون والفتح، وفيه تأكيد صريح على أهمية وضرورة التمسك ببرنامج "سائرون" كأساس في أي تفاهمات وخطوات قادمة (وفِي لقاءات سائرون ومفاوضاته كافة جرى تأكيد الثوابت التي تضمنها مشروعه للتغيير والإصلاح التي تلبي رغبة الناس والناخبين، خصوصا من منحوا ثقتهم لتحالف سائرون، فغدا ذلك أمانة في عنق التحالف وهدفا يسعى الى تحقيقه).
كل منصف ومتتبع للوضع السياسي ولتوجهات وعمل الحزب وبيانات قيادته سوف لن يجد فرقا جوهريا بين ما أكده تصريح المكتب السياسي من ثوابت وتوجهات وبين تلك التي تبناها المجلس الاستشاري للحزب، والجميع يعلم أن المكتب السياسي هو مثله مثل أي مكتب حزبي في عموم منظمات الحزب تنتخبه اللجنة التي يمثلها، وهنا فالمكتب السياسي هو مكتب اللجنة المركزية المنتخب من قبلها والتي من حقها أن تبدله أو تغيره اذا استجدت ضرورات ذلك.
لا أظن أن السعي لإيهام الناس بتعارضات بين مكتب الحزب السياسي وبين لجنته المركزية وبالتالي تصوير الأمر وكأن سياسة الحزب يتم رسمها وصياغتها من قبل (أقلية متنفذة) في الحزب كما يصورون، سوف يلاقي القبول والمصداقية.
هذا الأمر يذكرني بحديث سياسي مهم للرفيق الراحل زكي خيري في منطقة ألفيك في ستوكهولم وأمام حشد من العراقيين، حينما قال عن كيفية اتخاذ القرارات في اللجنة المركزية، في أن كل فترة عمله في اللجنة المركزية للحزب والتي كان يقودها الرفيق الراحل عزيز محمد قد شهدت حوارات ديمقراطية في اللجنة المركزية وقبل اتخاذ أي قرار حزبي، وأن الرفيق عزيز محمد لم يكن دكتاتوريا في التفكير، ولا أيضا طريقة العمل في اللجنة المركزية..
من الممكن الحصول على الحقيقة أكثر في هذا الشأن بالرجوع الى أحاديث ومقابلات عن فترة الجبهة الوطنية واللقاءات مع حزب البعث المقبور التي سبقت الاعلان عن الجبهة الوطنية، وكيفية اشتراك ما أمكن من الكوادر والرفاق في هذه النقاشات، ورغم ظروف الحزب السرية المعروفة، والذي توج بنقاشات اللجنة المركزية واتخاذها القرار.
لقد كان المجلس الاستشاري محقا في اهتمامه بما حققه تحالف سائرون من موقع متقدم في انتخابات مجلس النواب، وفي دعوته الصريحة للحكومة والأحزاب لتجنيب البلاد المخاطر.
إن الاشارة الصحيحة في البيان الى كون الدواعش والقوى الارهابية وكل القوى التي تريد سوءاً ببلدنا ما زالت تتربص بشعبنا وتريد اشاعة الفوضى والخراب مهمة جدا، خصوصاً وان أيتام البعث وعصاباته والإرهابيين والدواعش والمتربصين بالعملية السياسية رغم زلاتها الكثيرة لم يسلّموا نهائيا بعد هزائمهم في نينوى والانبار وصلاح الدين وأطراف بغداد، وهم في انتظار الانقضاض بعد اشاعة التطاحن والفرقة بين الاحزاب السياسية ودفع الحال لحالة اللاحل..
هذا الموضوع لا يعني بكل الاحوال تأجيل التناقضات الرئيسية والكبيرة بين مشروعين مختلفين أولهما يدعو للتغيير والصلاح والثاني تحاصصي رجعي ومضر.
هناك مضامين متشابهة بين مشروع التغيير والإصلاح الذي يتبناه الحزب الشيوعي العراقي وبكون هذه المنطلقات تشكل حجر الزاوية في أطار تحالف سائرون، وحيث أن برنامج سائرون الوطني يتضمن العديد من المنطلقات التي ناضل من أجلها الشيوعيون العراقيون وعموم أهل اليسار والمدنية، ولا زالوا اليوم أيضا وأن النجاح الذي حققه تحالف سائرون لم يأت بمعزل عن تبنيه لمشروع التغيير والإصلاح وخوض العملية الانتخابية تحت رايته..
في موضوع تأمل احصائي عن الانتخابات ودلائلها يشير بصدق الدكتور منقذ داغر رئيس المجموعة المستقلة للأبحاث الى أن ما حققه تحالف سائرون لم يأت بمعزل عن وجود الأحزاب والقوى الأخرى سوية مع حزب الاستقامة وتيار الصدريين، وهي اشارة مهمة ومنصفة للأصوات المليونية التي ارتضت هذا البرنامج الواعد لسائرون وباركت تحالف اطرافه الذين أجلوا تناقضاتهم الايدلوجية لصالح التقارب في سبيل قضايا الناس والدفاع عن مصالحهم ورغبتهم في وطن مدني وعدالة اجتماعية بعيدا عن أس المحاصصة الطائفي.
سببّ الاعلان المفاجئ لتحالف "سائرون" والفتح وبالطريقة التي تمت، الكثير من ردود الأفعال المتباينة، ورغم ان المواطن لم يطلع حتى اليوم على نص معين لوثيقة أو تفاهمات من الممكن الاستناد اليها للحكم بين مطابقتها لبرنامج سائرون من عدمه.
ان اللجنة التي شكلها تحالف "سائرون" من احزابه الستة يفترض أن تكون المخولة وفي الواجهة في كل التفاهمات والتحالفات وعلى اهمية إطلاع الرأي العام العراقي على توجهات وتفاصيل تشكيل الكتلة الأكبر والحكومة اللاحقة، ومن المهم الاشارة الى الفرق الجوهري بين برنامج سائرون وظروف تشكيله وما تم الاتفاق عليه في احزابه المؤتلفة من برنامج وسياسة، وبين سعي التحالف لتكوين الكتلة الأكبر، اذ ان الموضوع هنا يخص أحزابا وقوى سياسية ليست قريبة من برنامجه وسياسته والتفاوض معها لا من اجل صياغة تحالف جديد بل لهدف وطني أسمى وهو تشكيل الحكومة..
لا أرى من واقعية في وجهات النظر الداعية الى انسحاب الحزب في الوقت الحالي من تحالفه في "سائرون"، خصوصاً وأن نتائج الانتخابات لم يتم المصادقة عليها بعد، ولم يتم التخلي عن برنامج سائرون الاصلاحي التغييري، ولا زالت الدعوات قائمة بالضد من المشاريع الطائفية التحاصصية وفق الطريقة القديمة التي فشلت.
موضوع التحالفات ليس كمثل حاجة السوق التي نشتريها اليوم لنستبدلها أو نرجعها حين لا تعجبنا، فهي مواقف والتزامات وبرامج، وأن هذه المواقف والبرامج في ما يخص "سائرون" قد تم اختباره شعبيا عبر التأييد المليوني الذي منحه الشعب، وموضوع مواقف الناس من البرنامج والتحالف مهم جدا في هذه المرحلة، وهو المعيار والأساس الذي يحدد شعبية ومكانة هذه القوى أو تلك في النهاية...
أغلبية الذين يطالبون بخروج الحزب الشيوعي العراقي من تحالف "سائرون" كانوا قد تبنوا منذ البداية موقفا معارضا لدخول الحزب في هذا التحالف، ويبدو الموقف أحيانا رغم احترامه في الحالتين وكأنه (ألم نقل لكم منذ البداية...) أو انتظارا لتخطئة الموقف الحزبي بارادوية الموقف والإصرار عليه.
مواقف الحزب تخضع لإرادة رفاق الحزب وقرارهم وهم ليسوا مكبلين لإرادة أحد، وهذه المواقف يفترض أن تستند في كل مرة الى الموقف الطبقي السياسي الذي يستند الى مصالح الجماهير الشعبية ووفق الاستناد الى الموقف الجمعي لرفاق الحزب..
إن خروجا للحزب من "سائرون" الآن لا يمنح المقبولية له من قبل جماهير الشعب خصوصا وأن الآخرين المتحالفين معه في "سائرون" لا زالوا يعلنون تمسكهم ببرنامج "سائرون" ومنطلقاته، ووجود الكثير من الدوافع لبقاء الحزب وإصراره على امكانية الاشتراك في جهود عملية لتشكيل الحكومة والشروع بتنفيذ الوعود التي صوتت الناس على أساسها
في حال تنكر قوى معينة من داخل تحالف "سائرون" لبرنامجه وإصرارها على اعادة التحالف الطائفي الشيعي أو التحالف المكوناتي كورد و عرب و سنة، وكما كان وأثبت فشله، فأن الشيوعيين العراقيين غير ملزمين باستمرارهم في هذا التحالف ومن حقهم اختيار الموقف المعارض والذي ينسجم مع مواقفهم السابقة في تحالفهم ومنها (نبذ المحاصصة الطائفية والتصدي للفساد وحصر السلاح بيد الدولة وتقديم الخدمات للناس وتامين البطاقة التموينية وتنويع الاقتصاد الوطني وضمان استقلالية القرار العراقي)، وفي هذا الوقت فأنهم لن يخسروا شيئا وسيكسبوا تعاطف ومساندة الناس، وسيخسر الآخرون كثيرا لتنكرهم لوعودهم.. دعوة لكل الوطنيين والمخلصين للوطن ومحنته أن يمنحوا جهود التعمير والإصلاح والتغيير الفرصة.
في كل تحالفاتهم السياسية حرص الشيوعيون على استقلال حزبهم السياسي والفكري والتنظيمي، وتأكيد المجلس الاستشاري مهم في هذا الصدد ومع تصاعد بعض دعوات (التخوين والابتعاد عن المبادئ).
لقد ربط بيان المجلس الاستشاري بواقعية وفطنة بين ما حققه تحالف سائرون من نجاح في الانتخابات الاخيرة وبين تبنيه لمشروع التغيير والإصلاح الذي اعتمده الحزب في مؤتمره العاشر.
بيان المجلس الاستشاري كان واضحا في اشارته لعدم استعداد الشيوعيين المشاركة في اي تشكيل حكومي في حال عدم اعتماده على المطالب الأساسية لمشروع التغيير والإصلاح وتضمين برنامجه لضمانات تحقيقه، وبصورة أكثر وضوحا الاشارة بأن ديمومة تحالف سائرون يرتبط باستمرار تبنيه لمشروعه ووضعه قيد التنفيذ.
تأكيدات بيان المجلس الاستشاري مهمة وضرورية، حول منطلقات الحزب في التحالفات عموما والتي هي خدمة الشعب وكادحيه والدفاع عن مصالحهم، وضمان استقلال العراق وسيادته وحريته في اتخاذ قراراته، خصوصا مع تصاعد التكهنات والتفسيرات التي تذهب يمينا وشمالا حول تفاصيل مواقف الحزب في تحالفه وسعيه الوطني، والتي تذهب بعيدا في بعض الاحيان لتصوير الأمر وكأن الموقف نزوات شخصية تارة أو لغاية تحقيق مصالح شخصية تارة أخرى مختصرة زمنا طويلا ومعاناة واصرارا في ساحات الاحتجاج ووسط الميادين والساحات في عموم مدن الوطن، ومخاضاً فكرياً وسياسياً وسط منظمات الحزب والقريبين منه باتجاه كيفية أن يكون للحزب حضوره الجماهيري ومكانته.
الشيوعيون صريحون في دعوتهم وتحذيرهم من الالتفاف والتراجع على ارادة التغيير والإصلاح التي تبنوها وتبناها تحالف سائرون، والتي ستبقي الاوضاع كما هي وقد تسوء.
عبر تاريخه المجيد والطويل ظلت واحدة من أسباب بقاء الحزب الشيوعي العراقي ورغم كل صنوف التنكيل والظلم واللاعدالة التي تعرض لها، هي تمسكه بالقواعد والمبادئ الثورية الشيوعية في وحدة العمل والتنظيم واستنادهم الى الخبرة الثورية للأحزاب الشيوعية وللرفيق فهد مؤسس وباني الحزب ورفاقه، وكل الجهد الجمعي لعموم الشيوعيين الذين طوروا هذه المبادئ عبر المؤتمرات العشرة للحزب.
الذي يتمعن في بيان المجلس يجد الربط الموضوعي الصائب بين الدعوة لاستمرار عطاء الحزب في كافة المجالات ومنها التحالفية، وبين أهمية تعزيز تماسك الحزب وإرادته الموحدة، والتي تعني عدم تعدد المواقف والتكهنات، بل الموقف الحزبي الواحد في النهاية، وهذه الارادة الموحدة ليست كما يتصورها البعض بكونها مصاغة في غرف مغلقة أو وفق أهواء عدد من الرفاق أو القادة، بل نتيجة منطقية لسياقات النقاشات الديمقراطية البناءة وعبر السياقات الحزبية المعروفة، وأيضا من خلال التفاعل مع آراء جماهير الحزب وأصدقائه ومناصريه..