شهد العراق في الأيام القريبة موجة أمطار غزيرة، يمكن القول بأنها " نظفت" أجواءه مؤقتاً من الملوثات الغازية التي خنقت المواطنين في بغداد وأطرافها، خلال الشهرين الأخيرين. لكن الأزمة لم تُحل، ومن جديد سيتكرر المشهد المقلق- استيقاظ المواطنين مختنقين من التلوث، وسط انتشار روائح خانقة من الكبريت وغيره، لأن أسباب المشكلة مازالت قائمة، وسيضطر المواطنون من جديد لارتداء الكمامات في محاولة لحماية أنفسهم من الآثار الضارة لهذا التلوث.

    والمقلق أكثر هو ان التقارير والتوضيحات الرسمية الصادرة من الجهات الاسمية المعنية بحماية البيئة لم تحدد المصدر الرئيس للتلوث، لتضع حد له. وبذلك تدلل، مرة أخرى، على عجزها عن معرفة الأسباب الحقيقية، ناهيكم عن إيجاد الحلول العاجلة والفاعلة، وهو دليل اَخر على مواصلة التخبط وسوء الإدارة البيئية..

   وفي هذا السياق، قوبِلَت التصريحات الرسمية المتناقضة بردود أفعال قوية، مشفوعة بتصاعد امتعاض واستنكار المواطنين، الى جانب تندرهم واستهزائهم بالتصريحات المتناقضة وغير المقنعة وغير المبنية على دراسة علمية بشأن أسباب  تلوث أجواء بغداد وأطرافها بالملوثات الغازية والروائح الكريهة التي يستنشقها المواطنون مجبرين، ومنها نصيحة المتحدث باسم وزارة البيئة لؤي المختار لأهالي بغداد بـ  "عدم الخروج للشوارع في اوقات الليل و الفجر، وإغلاق النوافذ حتى لا يتنفسوا روائح كريهة ومزعجة ، لحين التحقق من الأسباب المفصلة بناء على دراسات علمية رصينة ، وإيجاد حلول جذرية "..

 رداً على ذلك، تساءل أحد المواطنين:" لماذا لم تجروا الدراسات العلمية الرصينة أحد الآن؟ وما هو شغل مؤسساتكم ولليوم ليس لديها حلول جذرية لمشكلة وخيمة تهدد صحة وحياة المواطنين ؟!!"..

     ومن ردود الأفعال الموضوعية الأخرى:

*  كتب د. رائد فهمي، سكرتير الحزب الشيوعي العراقي موجزاً المشكلة القائمة بالسطور التالية:" التلوث البيئي في العراق بلغ مستويات الأعلى في العالم، وبات يشكل تهديداً اَنياً للصحة العامة. ما يحصل نتيجة طبيعية للإهمال وللسياسات الضارة للحكومات المتتالية. ان مواجهة الأزمة البيئية بفاعلية تتطلب سياسات وإجراءات وفق أولويات عجز عن تأمينها حكم المحاصصة الذي أضعف الدولة وأشاع الفساد".

 *  وأوردت أستاذة الهندسة البيئية د. سعاد ناجي العزاوي في دراسة انتهت منها أخيراً – بحسب الباحث  د. صباح ناهي- قولها إن "العراق من الدول التي تضاعف فيها انبعاث ثاني أكسيد الكربون خلال العقد الماضي بشكل كبير، إذ يحرق 1.7 مليار قدم مكعبة يومياً من الغاز الطبيعي المصاحب للاستخراج النفطي والذي يمثل ما قيمته 2.5 مليار دولار سنوياً، واستورد من إيران مليار قدم مكعبة من الغاز يومياً لإنتاج الطاقة الكهربائية خلال عام 2020، ولو تم استخدام الغاز الطبيعي الذي يتم حرقة في إنتاج الطاقة الكهربائية لكان أنتج ما يقارب 10 ميغاواط سنوياً وشكل انبعاث ثاني أكسيد الكربون في العراق للفترة (2013-2020) ملايين الأطنان"(" Indepemdentعربية"،26/10/2024)..

    ونشرت د. العزاوي مؤشر تلوث الهواء في العراق ليوم 16/10/ 2024، وبلغ 203، اي 10 مرات أعلى من الحدود المقبولة للتلوث التي حددتها منظمة الصحة العالمية. وقالت:" ان مشكلة تلوث الهواء في العراق قائمة منذ أكثر من عقدين، حيث ان محطات توليد الطاقة الكهربائية الحرارية الحكومية الكبيرة والمساهمة بالتلوث قديمة، ويستخدم فيها نفط اسود غير مكرر وديزل. وحيث ان نسبة الكبريت في النفط العراقي هو الأعلى بالعالم. وبدلا من تجديد هذه المحطات وصيانتها او تغييرها بمنظومات تعمل على الغاز الطبيعي النظيف أو حتى الكازاويل، وتركيب فلاتر ومرسبات تمنع هذه الانبعاثات للهواء، كما يتم في كل دول العالم، تتم سرقة التخصيصات المالية من قبل جيوش الفاسدين واللصوص في الوزارات ذات العلاقة، وتبقى هذه المحطات تنفث غازات مضرة للصحة وتزيد من تبعات الاحتباس الحراري والتصحر في العراق. ومن هذه الملوثات اكاسيد الكبريت، والكاربون، وكبريتيد الهيدروجين، والسخام الهايدروكربوني، الذي هو مسرطن، وغازات اخرى، والتي منها ما يعتبر ساما إذا تم استنشاقه بتراكيز عالية لفترات غير قصيرة ".

     وأكدت: " ان هيئة حماية البيئة في العراق لا تستطيع إغلاق هذه المحطات لان الحاجة الحالية للطاقة الكهربائية للعراق هي بحدود 40 ميكاوات، ولا ينتج منها في العراق أكثر من 25 ميكاوات، نصفها فقط من منظومات قديمة، وباقي المحطات تعمل بالغاز الطبيعي. يضاف لذلك ان كل معامل حرق الطابوق وصناعة الاسمنت تستخدم النفط الاسود، مضافا اليها مشكلة حرق النفايات المنزلية وحتى الالكترونية في مواقع متداخلة مع سكن المواطنين، مثل التي في منطقة معسكر الرشيد، والتي تنبعث منها ابخرة مصنفة سمية وخطرة عالميا. ولذلك هنالك زيادة كبيرة بالوفيات وفي الاصابة بالأمراض السرطانية في العراق لا تعلن عنها وزارة الصحة، لان العراق اصلا مصنف ضمن اول 10 أسوأ دول بتلوث الهواء في العالم لأكثر من عشر سنوات"

 *  من جهته، أكد عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية باسم الغرابي: "أن الجهات الحكومية تتحمل المسؤولية الأولى عن التلوث البيئي في العراق، حيث سجلت العاصمة بغداد تلوثا في هوائها بنسبة تصل إلى 70 في المائة. ولم تتخذ الحكومة خطوات فعالة لمعالجة مشكلة التلوث"، موضحًا أن الإحصائيات تشير إلى وجود تلوث في الهواء والماء والتربة دون وجود أية معالجات مناسبة. وأضاف، أن وزارة البيئة تفتقر للإمكانات الفنية والصلاحيات القانونية اللازمة لمواجهة هذا الملف الحرج ("طريق الشعب"،14 /10/2024).

 *  وأفاد مرصد “العراق الأخضر” المتخصص في شؤون البيئة، بأن معامل الاسفلت والطابوق هي المسبب الرئيس لتلوث الهواء في بغداد. وقال عضو المرصد عمر عبد اللطيف، في حديث صحفي ان تلك المعامل، إضافة إلى رداءة الوقود المستخدم في السيارات والمولدات، هي المصادر الرئيسة لتلوث هواء بغداد. فيما لفت إلى ان مصفى الدورة غير معني بهذا التلوث.

 *  وكانت لجنة الصحة والبيئة النيابية ووزارة البيئة، قد حددتا أسباب انبعاث رائحة الكبريت في بغداد بأنها ناجمة عن حرق الوقود الثقيل المتمثل بالنفط عالي الكبريت، وعند حرقه يولد غازات سامة ("الصياح"، 20/10/2024).  

 *  وكان المتنبئ الجوّي صادق عطية قد نشر يوم السبت 12/10/ 2024 على حسابه الشخصي بمنصّة "فيس بوك"(نقلا عن الكاتب لؤي الزبيدي) مقطعًا مصورًا يظهر كمية التلوث في العاصمة بغداد. وكتب ان الدخان الصادر عن مواقع الحرق والطمر هو عبارة عن كورة خاصة بالحرق يستخدمها تجار مواد الصفر والنحاس وكيبلات الكهرباء والوايرات، وهي منتجة لرائحة الكبريت كون بعض المواد الممنوعة هي مواد حربية او أجهزة الكترونية دقيقة وايضا قناني الكلور والزئبق وهو ما يسبب ضررًا كبير على البيئة والانسان.

    وأوضح، انه وصله بان مواقع التلوث تقع في نهاية منطقة العبيدي، جهة الرئاسة، شريط سدة ديالى وشطيط، ونفس الدخان جهة العماري والباوية ومعمل الثرمستون، ونفس الدخان جهة الدورة وجسر ديالى والسيدية، فضلا عن مواقع طمر البلديات".

   وأكمل، كل ما في الأمر ان هنالك اتفاق بين تجاره السكراب والمواد المعاد تدويرها وبعض أصحاب الاراضي الكبيرة على استغلال فترة الليل وانعدام الرقابة الامنية والبيئة وايضا طمع أصحاب الاراضي وتأجيرها لأصحاب المواد لغرض استخدام الارض كموقع حرق وتدوير او استخراج المواد لغرض بيعه."

   *  وأكد عضو مجلس النواب ياسر الحسيني أن "رائحة الكبريت والتلوث الملحوظين في الفترة الأخيرة ناجمان عن مصانع تعمل ليلاً بقضايا الأكسدة ومناطق طمر صحي غير ملائمة"...

   هذه الطروحات، وغيرها، أحرجت المسؤولين في وزارة البيئة، بل وأربكتهم. وتلافياً لما حصل أقدمت وزارة البيئة على تصحيح الموقف، كما يبدو، فأجملت، في مؤتمر صحفي في13/10/ 2024، أسباب المشكلة في احتراق النفط الأسود من محطات توليد الطاقة، ومعامل الاسفلت والطابوق، اضافة الى إضرام النيران في مطامر النفايات غير الصحية في أطراف العاصمة.

       وأوضح الوكيل الفني في الوزارة لشؤون البيئة د. جاسم الفلاحي: " يعود ارتفاع مؤشرات تلوث الهواء في مدينة بغداد لبؤر تلوث مرصودة في حدود المحافظة من قبل فرقنا المنتشرة ميدانياً، والمثبتة في التقارير والبلاغات التي تصدر عن هذه الوزارة. وتتمثل البؤر بمحطات توليد طاقة الكهرباء والتي تستخدم الوقود الثقيل (النفط الأسود) مثل: محطة توليد الكهرباء في الدورة، ومعامل الاسفلت المؤكسد وغير المؤكسد، ومعامل الطابوق المنتشرة في حزام وضواحي بغداد، بالإضافة الى مواقع تراكم النفايات، والمطمر غير الصحي، خصوصا مواقع معسكر الرشيد، والنهروان، والنباعي، والتاجي بالإضافة الى ما تتعرض له من حرق عشوائي وخاصة أثناء الليل". وأشار أيضاً الى "كور الصهر غير القانونية والتي تنتشر بين الأحياء السكنية، والتي يصاحبها انبعاثات غازية ضارة، مع الاخذ بنظر الاعتبار وجود ظهور طقسية في هذه الاثناء والمتمثلة بتغير درجات الحرارة، وتغير اتجاهات الرياح، مع ازدياد معدلات الرطوبة، مع اعتبار تراكم مثل هذه الانبعاثات الضارة والتي تظهر على شكل ضباب أو غيوم تحتوي على ازدياد في تراكيز الغازات الضارة ومنها ثاني اوكسيد الكبريات وغازات الميثان، وغيرها، مع تداعياتها الصحية المتوقعة"..

   وسرعان ما انطلقت من "القطط السمان"  مطالبات بنقل مصفى الدورة ومحطة الكهرباء الى خارج أطراف بغداد، الأمر الذي دعا أستاذ الأعلام والباحث في الشأن السياسي د.غالب الدعمي ان يتساءل:" لماذا ازدادت الدعوات بنقل مصفى الدورة ومحطة الكهرباء بالتزامن مع انتشار رائحة الكبريت ؟ " وقال بأنه لا يستبعد ان هذه الرائحة الكبريتية يقف خلفها الفساد لذي يخطط للاستيلاء على ارض مصفى الدورة ومحطة الكهرباء الكائنة على نهر دجلة".

   وعلق الكاتب سمير داود حنوش: "أخيراً، يبدو أن الجميع اتفق على المسبب الذي ينطبق عليه شعار “رُبَّ ضارة نافعة”، عازين السبب في ارتفاع نسبة التلوث في العاصمة إلى مصفى الدورة في بغداد وبجانبه محطة كهرباء الدورة".. وتساءل: " هل هناك نيّة لإبادة جماعية للعراقيين قد تحدث لهم من خلال الهواء الفاسد الذي يستنشقونه؟ لا أحد يعلم، لكن المؤكد إن الإجراءات الحكومية لا ترتقي لمستوى الأزمة التي تتصاعد يومياً..

 

عرض مقالات: