في الفترة من 30 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري الى 12 كانون الأول/ ديسمبر القادم، ينعقد في دبي المؤتمر الثامن والعشرون لأطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ (COP28)، والذي جرت له الإستعدادات من قبل الأطراف الحريصة على قدم وساق منذ عدة أشهر، ضمن الهدف الجماعي الطموح: تحقيق نتائج طموحة لإبقاء الاحترار العالمي بحدود 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، عبر تخفيض الأنبعاثات المسببة للإحتباس الحراري، وزيادة تمويل العمل المناخي للبلدان النامية، وتنامي الاستثمارات على وجه السرعة في التكيف مع المناخ المتغير والتخفيف من وطأة تغيراته، مع استمرار تزايد الاحتياجات وسط أزمة المناخ المتفاقمة.
وخصص المؤتمر ضمن برنامجه الحافل أياماً لمناقشة ومعالجة أزمة المناخ وتداعياتها الصحية، ضمن الاهتمام الدولي المطلوب لمعالجة هذا التهديد ذي الأهمية العالمية. ويوم اَخر للشباب، والأطفال، والتعليم، والمهارات. ويوم اثالث ستناقش خلاله المساواة بين الجنسين ضمن قضايا أخرى.
وتؤكد التقارير أن الإستعدادات لـ"كوب 28" في دبي أصبحت جاهزة من قبل غالبية الأطراف،وقد إستعد كل طرف من الأطراف المعنية بإعلان موقفه من المشكلات الساخنة المطروحة على المؤتمر الأممي، والمساهمة في إيجاد الحلول والمعالجات المطلوبة لها.
وتنتظر الدول النامية، والفقيرة بخاصة،على أحر من الجمر، إعادة عرض مشكلاتها الساخنة، بما فيها خسائرها وأضرارها الناجمة عن تفاقم التغيرات المناخية غير المسؤولة عن الغالبية العظمى من أسبابها، موثقة إياها بدراسات ومصادر علمية، ساعية لتحقيق طموحاتها بالحصول على دعم ومساعدات عاجلة وفاعلة للتخفيف من أعبائها.
بذات الوقت،ستنقل وفود أطراف عديدة تجاربها الناجحة في مجالات المشكلات الساخنة المطروحة على مؤتمر دبي الأممي، الى جانب زج النساء والشبيبة في المشاركة الطوعية الجدية والفاعلة في حماية البيئة ومواردها الطبيعية، وفي مكافحة التغيرات المناخية وتداعياتها، تاركة للدول المعنية خيار الإستفادة منها، مع إعادة التذكير بان النجاح في هذه المجالات الحيوية لن يتحقق بدون توفير الأسس والمحفزات والضمانات الثابتة للشرائح الإجتماعية المذكورة، وفي مقدمتها متطلبات الحياة الحرة الكريمة، الآمنة والمستقرة، المفعمة بالصحة والبيئة السليمة، وبالرفاهية والسعادة.وسيكون من حق هذه الأطراف ان تتفاخر وتتباهي أمام وفود العالم بمنجزاتها الحقيقية والملموسة والمتنامية لصالح صحة وحياة ونمو ورفاهية الأمومة والطفولة والشبيبة، من الجنسين، المبنية على واقع قائم ومعاش، ثابت ومستدام، لا مبالغة أو تزوير فيه..
فما هو موقف الحكومة العراقية من القضايا الهامة المطروحة على المؤتمر الأممي؟
وما الذي أعدته للوفد العراقي الذي سيشارك فيه ؟
بالرجوع للتصريحات الرسمية، فأن "العراق إستعد مبكراً لمؤتمر دبي"، بكن من يدقق يجد في الواقع يؤكد أنه متأخر جداً، اخذين بنظر الإعتبار ان الأطراف الأخرى أصبحت مستعدة منذ نحو 9 أشهر، وأقلها 6 أشهر، وأعلنت عن أجندتها وبرامج وفودها المحددة، بعد ان تمت دراستها وإقرارها من قبل المختصين المعنيين في بلدانها..
المعلومات الرسمية المنشورة تؤكد ان (اللجنة الوطنية للتغيرات المناخية) قد "عقدت أول إجتماع لها في 13/7/2023، برئأسة وزير البيئة المهندس نزار ئاميدي، وبحضور وكلاء الوزارات المعنية واعضاء اللجنة كافة، لمناقشة تحضيرات العراق لمؤتمر دبي واعداد الوفد التفاوضي الوطني له".تلكم كانت " اهم المحاور التي تم مناقشتها بالتزامن مع تنفيذ توجيهات رئيس مجلس الوزراء بضرورة تعزيز العمل المناخي واتخاذ اجراءات فاعلة من قبل القطاعات الحكومية وغير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني كافة " .
وعقدت اللجنة إجتماعها الثاني يوم 26/7/2023 برئاسة وزير البيئة، وبحضور وكلاء الوزارات المعنية، وممثلي برنامج الأمم المتحدة الانمائي (UNDP).وحضر الأجتماع أيضاً رئيس لجنة الصحة والبيئة البرلمانية الدكتور ماجد شنكالي، وسفير جمهورية العراق في الامارات، وممثل عن هيئة حماية وتحسين البيئة في اقليم كوردستان – العراق عبر دائرة تلفزيونية الكترونية.
وناقش الأجتماع مرة أخرى، نصاً: " اهم التطورات بشأن التحضيرات للمؤتمر، وتشكيلة الوفد الوطني التفاوضي له، بالإضافة الى الاستماع الى العرض المقدم من قبل (برنامج الأمم المتحدة الأنمائي) لخطة العمل الموضوعة مع وزارة البيئة للتهيئة للمؤتمر".
ولعل أبرز ما جاء في التقرير الذي نشر عن الإجتماع هو مداخلة الدكتور أمجد شنكالي الذي نبه فيها بكل صراحة وموضوعية الى وجود إخفاقات للوفود العراقية في المؤتمرات السابقة، ودعا الى تجاوزها، والحاجة الماسة لفريق وطني للتفاوض، يمتلك مهارات تفاوضية عالية ويجيد اللغة الأنجليزية جيداً.
في ضوء الإجتماعين المذكورين لمسنا إرباك وتخبط في التحضيرات وضبابية مقصودة في عدم الإفصاح عن التفاصيل، وكأنها " أسرار دولة "!!. فقد نُشِرَ بأن: " تحضيرات هذا العام جاءت من خلال إعمام مكتب رئيس الوزراء بضرورة أن تكون هناك استعدادات بما يليق بالعراق كونه أصبح من أكثر الدول تأثراً بالتغيرات المناخية"- كما صرح مدير "مديرية التغييرات البيئية" في وزارة البيئة، يوسف مؤيد، في 9 اَب الماضي. لكنه لم يشر الى تأريخ صدور الإعمام، الذي تؤكد توجيهاته على ضرورة الإستعدات المطلوبة لمشاركة العراق في مؤتمر دبي.
والمفارقة، هي إنشغال (اللجنة الوطنية للتغيرات المناخية) في إجتماعين متتالين بتشكيلة الوفد، أكثر من إنشغالها بتحديد أجندة العراق، وبرنامج الوفد، والمهمات المطروحة عليه، ومتطلبات نجاحه بالمفاوضات التي سيجريها مع الأطراف..وهنا ينطبق المثل الشعبي:" جَلبَوا العلف قبل الحصان ". فليس من المعقول ان يجري إختيار أعضاء الوفد قبل تحدبد القضايا والمهمات التي ستناط بالوفد. وتحديد القضايا والمهمات يستلزم دراسة مستفيضة،وبعد إقرارها يتم إختيار أعضاء الوفد. ويشترط بإختيارهم ان يمتلك كل واحد منهم المؤهلات المطلوبة لينضم لفريق، لأن كل مهمة تستوجب ان ينفذها فريق، وليس فرداً.
وتواصل الإنشغال بالوفد، فبعد 6 أسابيع، وتحديداً في 13 أيلول الماضي،أعلن السيد مؤيد:" أن الحكومة تعمل على تطوير فريق تفاوضي أساسي في المؤتمر، مكون من 13 ـ 18 شخصاً، يمثلون وزارات البيئة والزراعة والمالية والتخطيط والنفط والكهرباء والصناعة والتربية والتعليم العالي والإسكان والإعمار، للتفاوض حول مواضيع الصافي الصفري للكربون، والتخفيف، والحوض الكربوني،وسوق الكربون الطوعي، والتكيف، والخسائر والأضرار، وتمويل المناخ، ونقل التكنولوجيا، وبناء القدرات، والشفافية "..
وهذه القضايا تستوجب، بلا شك، ان يمتلك كل عضو من أعضاء الوفد التفاوضي، التخصص والكفاءة والقدرة التفاوضية، الى جانب إجادة اللغة الأنجليزية إجادة تامة. وإلا، ستتكرر الأخفاقات السابقة للوفد.
فهل جري إعداد الوفد التفاوضي وفق المؤهلات المطلوبة، أم وفق مبدأ المحاصصة الطائفية والإثنية ؟
ولعل الأهم،هل تم تنفيذ ما طالب به الدكتور شنكالي اللجنة الوطنية للتغيرات المناخية بتلافي الإخفاقت، أم بقي حبراً على ورق ؟
والمفارقة الثانية، هي ما أعلنه مدير عام دائرة التوعية والاعلام البيئي بوزارة البيئة، امير علي الحسون، في 11 اَب الماضي:" العراق سيشارك في المؤتمر بأكبر وأفضل وفد على مستوى الدول في مؤتمرات الأطراف التي أقيمت سابقاً ".ولم يوضح ما هي معايير "الأفضل"، التي تم تبنيها، وكيف " تم التأكد " من ان الوفد العراقي "سيكون الأفضل" والمؤتمر لم ينعقد بعد.. أليس التقييم (ناجح،أفضل، فاشل) يجري عادة بعد إنتهاء الفعالية ؟!!
والسؤال الآخر: ما هي "المميزات" التي "برز فيها" الوفد العراقي في المؤتمرات السابقة ليكون وفده الى مؤتمر دبي "الأفضل" ؟..أهي إمتلاكه للمهارات التفاوضية العالية، والتخصص، والكفاءة، والمقدرة، وإجادة اللغة الأنجليزية بمستوى "أفضل" من بقية وفود العالم ؟!!
والسؤال الثالث: ما ضرورة " العدد الأكبر" للوفد العراقي ؟ وما مبرراته ؟ وما فائدة الإصرار عليه، وقد شارك العراق في المؤتمر السابع والعشرين في شرم الشيخ، في العام الماضي، بوفد يتألف من أكثر من 200 عضواً ؟.. فما الذي قدمه ذلك الوفد الكبير جداً، وما الذي حققه للعراق، وما الذي ربحه العراق من مشاركته في المؤتمر السابق، حتى يتم إرسال "أكبر وفد" على مستوى الأطراف في دبي ؟!!
في ضوء الإخفاقات السابقة،نقول بكل صراحة ان الإصرار على المشاركة بأكبر عدد، غرضه: إما للتباهي، ولا نعلم ما فائدة ذلك للعراق، وإما إمعاناً بمبدأ المحاصصة وفرض الأحزاب المتنفذة للمنسوبين والمحسوبين لها في تشكيل الوفود والإيفادات للخارج، رغم علمها بأن ومعظمهم لا يمتلك المؤهلات المطلوبة. وهي الظاهرة المخجلة، التي تمارسها الطبقة السياسية المهيمنة منذ عقدين من الزمن، فيذهب أغلب هؤلاء لا لخدمة العراق، وإنما للسياحة والإستجمام،على حساب الدولة. ولا أحد في السلطات الثلاث يحاسب من أرسلهم، ولا حتى سؤاله عما أنجزه الموفدون للدولة أو لمؤسساتهم، لقاء المبالغ السخية التي صرفت عليهم.
وهذا ما حصل في مؤتمر شرم الشيخ، في العام الماضي. فقد أخبرني أحد الزملاء المصريين من المشاركين بالوفد المصري للمؤتمر، عندما أراد وزملاؤه الألتقاء بأعضاء من الوفد العراقي للتعارف ولتبادل المعلومات والتنسيق، فوجدوا غياب غالبية الـ 200 عراقي عن أعمال المؤتمر بعد الجلسة الأفتتاحية.وعندما سألوا عنهم قال لهم عراقي: إنهم "في إستراحة "، وتبين ان "الإستراحة" هي التسوق والسياحة. وتساءل الزميل: أ يليق هذا بالعراق الذي نعرفه ؟!!
إقتراناً بذلك، نشير الى مبادرة عراقية إيجابية سيشهدها مؤتمر دبي - سيترأي الوفد العراقي رئيس الحكومة المهندس محمد شياع- كما أعلن مدير عام دائرة التوعية والاعلام البيئي بوزارة البيئة، امير علي الحسون.
وقبل الخوض في أهمية هذه المبادرة المهمة، لابد من طرح التساؤل التالي:
هل سيسمح رئيس الحكومة ان يرافقه للمؤتمر وفد فرضه نهج المحاصصة المقيت، ولا علاقة لغالبية أعضاءه بعلم البيئة، ولا بالمناخ والتغيرات المناخية، ولا يمتلك الكفاءة والقدرة التفاوضية،ولا يجيد اللغة الأنجليزية، فيحرجه أمام قادة العالم، ويسيء للعراق ؟
نلفت إنتباه رئيس الحكومة الى هذه المسألة، إدراكاً منا لأهمية مشاركته في المؤتمر، لا سيما وهي المرة الأولى التي يترأس فيها الوفد العراقي رئيس الحكومة بنفسه.وستتضاعف الفائدة طبعاً عند مرافقته بوفد محترم بما يمتلكه من المؤهلات المطلوبة. فمن شأن ذلك ان يعود بالفائدة على العراق لإستثمار المؤتمر لصالح مساعيه بالحصول على دعم دولي فعال للحد من التغيرات المناخية.
من هذا المنطلق، المطلوب من رئيس الحكومة ان يتأكد بنفسه من أن جميع أعضاء الوفد المرافق له يمتلكون التخصص والكفاءة والخبرة والمقدرة، ولا علاقة للأحزاب المتنفذة في إختيارهم..ليخصص من وقته بضعة ساعات لا أكثر ليتأكد أن جميع أعضاء الوفد المرافق له هم من المتخصصين والأكفاء والمؤهلين لمؤتمر دبي.وأنهم يمثلون حقاً وفعلآ القطاعات والوزارات المعنية بالتغير المناخي، كالزراعة والموارد المائية والنفط والكهرباء والبيئة والصحة، إضافة الى منظمات مجتمع مدني وناشطين وخبراء وأكاديمين وأساتذة جامعات، من الكفاءات وذوي المؤهلات المطلوبة.
ونأمل أيضاً ان يتمخض حضور رئيس الحكومة، والكلمة التي سيلقيها، واللقاءات التي سيجريها مع قادة الدول، عن نتائج ملموسة وجدية لخدمة المصلحة الوطنية، وبما يليق بالعراق.
وإستطراداً،عسى ان تكون كلمة رئيس الحكومة، هذه المرة، صريحة وواضحة، ولا لبس فيها- لا كما حصل في كلمته أمام الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي جاء فيا( نقلآ عما نشر عنها): "ان الحكومة العراقية تمنح الأولوية لتمويل العمل المناخي؛ كونهُ الأكثر عرضةً لتأثيرات التغيرات المناخية "، ناسياً أو منتاسياً عدم وجود مخصصات مالية لمواجهة المشكلات البيئية، حتى الساخنة، ومنها التغيرات المناخية، في ميزانية عام 2023. وعدا هذا، قال مرة:"العراق يواجه تحديات في تمويل أهداف التنمية المستدامة"، وأخرى: "العراق أحرز تقدما في تحقيق أهداف التنمية المستدامة". وبكلامه هذا ناقض تصريحات المسؤولين العراقيين المتكررة بحاجة العراق الى دعم دولي كبير للحد من التغيرات المناخية الحاصلة فيه من خلال "صندوق المناخ الأخضر" المخصص للدول الأكثر هشاشة وتأثراً بالتغيرات المناخية. وناقض أيضاً ما حذر منه البنك الدولي بشأن التأخر في التنمية ودعوته للحكومة العراقية، في اَيار 2023: " ان تسرع بردم فجوة التنمية، وخلق مجتمع متصدٍ لمشكلات وتبعات التغيّر المناخي". ونبه الى :" أنَّ التأخر في التنمية قد يُعرِّض الاستقرار الاجتماعي وآفاق التنمية الاقتصادية إلى الخطر"..
هذا التناقض والإرباك في الخطاب، جعل المتتبعين للشأن العراقي ان يتساءلوا بحق: ما دام العراق "قادر" على تخطي التحديات- كما لمحت كلمة رئيس حكومته- فلماذا إذاً يطلب المساعدة الدولية ؟
في السياق ذاته، نشير الى تصريح مدير (دائرة التغييرات المناخية) في وزارة البيئة يوسف مؤيد، الذي جاء فيه: "ان العراق يشارك العالم همومه المناخية "، الذي يوحي بتقليد نبرة خطابات حكومات الدول العظمى وهي تتفرج على معاناة الدول الفقيرة والنامية الأكثر تضرراً وخسائراً من تأثير التغيرات المناخية، معلنة كذباً بأنها " تشاركها" همومها، وهي المسؤول الأول عما تعانية من تغيرات مناخية وتداعياتها المتفاقمة.. والعراق ليس دولة عظمى لـ" يشارك هموم العالم"، وإنما هو خامس أكثر دول العالم هشاشة تجاه التغيرات المناخية،التي تعصف به وتسحق مواطنيه، متفاقمة عاماً بعد اَخر. وهو ذاهب لمؤتمر دبي- كما أعلن المسؤولون- ليطلب المساعدة الدولية للتخفيف من وطأتها.
ونتوقف عند برنامج الوفد العراقي لمؤتمر دبي، الذي من المفترض ان يكون قد أُعِدَ بعد دراسة مستفيضة، بمشاركة علماء وبيئيين وأكاديميين متخصصين، وأن يركز على معاناة العراقيين الوخيمة الناجمة عن تفاقم التغيرات المناخية وتداعياتها الكارثية، المهددة للأمن الغذائي ولصحة وحياة المواطنين، وأن تكون الأضرار والخسائر موثقة بدراسات وإحصائيات ومصادر علمية.
ويفترض ان يطلع الرأي العام العراقي على أجندة الحكومة ومهمات الوفد العراقي وبرنامجه الكامل للمؤتمر، طالما ليست "أسرار دولة". لكننا لليوم لم نطلع على برنامج مفصل منشور. ولا نعلم ما الضير ان تنشر (اللجنة الوطنية للتغيرات المناخية) مسودة البرنامج ليطلع عليه المعنيون ويشاركوا في مناقشته وإغنائه. فهذا ما قامت وتقوم به الدول المتحضرة، طارحة المسودة للمناقشة، وتقوم القنوات التلفزيونية والأذاعة والصحف المحلية بالتعريف بها، وبكامل برامج وفدها الى مؤتمر دبي، ومثله فعلت لبرنامج مؤتمر شرم الشيخ، والذي قبله، وتجري حوارات ونقاشات بشأنه. ودائماً تطرح الكثير من الأفكار والآراء والمقترحات التي تغني البرنامج. وبعدئذ، تقوم اللجنة المعنية بتجميع كل ما طُرحَ ويُغني المسودة، وتقوم بدراسته، وتأخذ بما تراه مناسباً ومهماً، وفي ضوء ذلك تُعيد صياغة البرنامج، ومن ثم إقراره.
وتلكم عملية ديمقراطية حقيقية، مجربة وناجحة، تجسد مبدأ العمل الجماعي وتشجع المشاركة الجماعيية للمشكلات التي تستلزم معالجات وتنفيذات جماعية. والعملية تتمخض دائماً عن فوائد كبيرة للمهمة الأساسية..
المؤسف، ان ذلك لا يحدث في العراق.
وثمة مسألة أخرى هامة، ألا وهي تخوف البيئيون العراقيون، ونحن منهم، من ان يزج الوفد العراقي نفسه بقضايا جدلية ومحرجة للعراق أمام وفود العالم، مثل: تمكين الشباب والنساء والأطفال في القيادة ورسم السياسات وإتخاذ القرارات، والمساواة بين الجنسين، والتباهي بـ"نجاحات" مزعومة، الخ، متمنين عليه أن يركز، بدلآ من ذلك، على المشكلات البيئية الساخنة، وتداعيات التغيرات المناخية المتفاقمة، وحاجة العراق الماسة للمساعدة الدولية العاجلة، العلمية والتكنولوجية والفنية وغيرها التي من شأنها التخفيف من وطأة التغيرات المناخية.
مرد التخوف، هو تصريحات المسؤولين التي أطلقوها خلال الشهرين الأخيرين، ومنها:" سيشهد المؤتمر للمرة الأولى تنظيم العراق جناحاً خاصاً به، حيث بدأت الوزارة الاستعدادات المبكرة له، بعد تسلمها تأكيداً نهائياً بتنظيمه. وهنالك أجندة كاملة وتضم جميع القطاعات الموجودة في البلد، كالحكومية ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص وممثلين عن الإقليم، من خلال تنظيم فعاليات جانبية وثقافية تعكس قصص النجاح وتمثل الإرث الثقافي للعراق خصوصاً بمجالي المرأة والشباب".
وجرى الحديث عن "أجندة كبيرة و مشاريع و خطط خاصة تمتت دراستها وإعدادها بشكل عال من قبل الوزارات الحكومية وبإشراف وزارة البيئة".
لكن المسؤولين لم يفصحا، كالعادة، عن أية تفاصيل عن تلك الفعاليات والأجندة والخطط والمشاريع الخاصة، ولا عن ماهية قصص النجاح في مجالي الشباب والمرأة.
ونتسأءل: أهي غير ما أشار إليه رئيس الحكومة السوداني في مقر الأمم المتحدة:" العراق بدأ بتنفيذ المساهمات المحددة وطنياً، ومنها إستثمار الغاز المصاحب لإنتاج طاقة نظيفة لتحقيق هدف ( صفر شعلة) بحلول 2030"، ولم يوضح، هو الآخر، متى بُدءَ بالمشاريع الإستثمارية ؟ وما هي ؟ وأين تقع؟ وما النتائج المتحققة منها ؟ بينما يعاني المواطنون العراقيون من إنقطاع الكهرباء ساعات طويلة يومياً، الى جانب المتاعب الصحية الناجمة عن التلوث الناجم عن عمليات حرق الغاز المصاحب .
علماً بان " المساهمة المحددة وطنياً للعراق بشأن الغير المناخي" أصدرتها وزارة البيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 2015، وتم تحديثها في عام 2021، وهي وثيقة لـ" مساهمة وطنية طوعية ورؤية تمثل سياسة العراق العليا في التعامل مع مشكلة تغير المناخ، وطنياً ودولياً، وتأتي الوثيقة إستجابة لما ورد في إتفاق باريس الذي أقر في المؤتمر الحادي والعشرين لأطراف الأتفاقية الإطارية لتغير المناخ(COP 21) "- كما نصت مقدمتها.
ولليوم، لم تنشر الجهات العراقية المعنية بتنفيذ المساهمة المذكورة ما الذي تم إنجازه منها خلال السنوات الثمان المنصرمة، وتحديداً ما الذي حققه العراق في مكافحة التغيرات المناخية منذ إعتمادها.
أما ما أعلنه المسؤولون عن تنظيم العراق في مؤتمر دبي لـ"جناح خاص، وفعاليات جانبية وثقافية تعكس قصص النجاح، وتمثل التراث الثقافي للعراق بمجالي المرأة والشباب"، والتي لم ينشر أعلام وزارة البيئة ولا وسائل الإعلام الأخرى تفاصيل عنها، فيستشف من عدم الإفصاح عنها لحد اليوم ان الوفد العراقي بـ "جناحه الخاص"، وبـ"فعالياته الجانبية والثقافية" ذاهب، كما يبدو، لا ليُعَرِفَ وفود العالم بالواقع البيئي الكارثي الراهن، وبتداعيات التغيرات المناخية المتفاقمة، وبتوضيح رؤية العمل المناخي للعراق لغاية 2030 ، التي وعد بها رئيس الحكومة في كلمته التي إفتتح بها "مؤتمر العراق الأول للمناخ " في البصرة، في اَذار الماضي.. ولا هو ذاهب لإستثمار المؤتمر الأممي، والتأثير إيجاباً في مفاوضاته لصالح البلد، بما فيها المساعدة الدولية المتعددة، العاجلة والجدية والفاعلة، الذي هو بأمس الحاجة إليها ومن شأنهاعانته في معالجة مشكلاته البيئية الساخنة وبخاصة التخفيف من وطأة التغيرات المناخية على صحة وحياة وأمن مواطنيه..
وإن صح ذلك، فهذا يعني ان الوفد لم يضع القضايا المهمة السالفة ضمن أولوياته، ويضع نفسه أمام شكوك جدية بأن له أغراض أخرى مرسومة، الى جانب ذهابه للتباهي والمفاخرة بماضي العراق السحيق وأرثه التليد، ولإستعراض " قصص نجاح" مزعومة في مجالي الشباب والنساء،تقدم معالم لوحة مشوهة تُغطي على واقع حال الشبيبة والمرأة العراقية ومعاناتهما المريرة. وبذلك تكون غايته تلميع سمعة الطبقة السياسية الفاسدة، والتضليل على سجلها المخزي في مجال حقوق الإنسان وإنتهاكاتها المتواصلة بحق الشبيبة والأمومة والطفولة العراقية. وسيكرر ما قامت وتقوم به الطبقة السياسية المتنفذة المهيمنة على مقدرات البلد من ضحك على الذقون، وإستغفال عقول المواطنين البسطاء بـ " انجازاتها" الكاذبة.
على أنه إن فعل ذلك، فسيثبت أمام وفود العالم سذاجته وجهله بما يعرفه العالم عن الواقع المزري والمعاناة اليومية المريرة للشرائح المذكورة، وهي أكثر شرائح المجتمع العراقي ضحية لمنظومة الفساد والمحاصصة الطائفية والإثنية ونهب أموال الدولة وأفقار غالبية العراقيين وأذلالهم، محولة حياة الشباب والنساء والأطفال الى جحيم لا يُطاق.
وليعلم الوفد بان الذاكرة الحية لم تنس أبدا ًشباب وشابات العراق وثورتهم المليونية السلمية في تشرين 2019 ومطالبتهم السلمية بإستعادة وطنهم الذي سلبه منهم سياسيو الصدفة والطائفيون والفاسدون وتجار الدين والحرامية والمليشيات وعصابات الجريمة المنظمة. ولا كيف جابهتم السلطة بفلقمع الدموي والقتل العمد، وسقط منهم أكثر من ألف شهيد وأكثر من 30 ألف جريح وجريحة، منهم 7 اَلاف مقعد ومقعدة جسدياً، وعشرت المئات من المعتقلين والمعذبين والمغيبين.
واليوم، يعيش نصف سكان العراق تحت خط الفقر.ومنهم 13 مليون في فقر مدقع.. ويعيش 6 ملايين عراقي وعراقية في 4679 تجمعاً من العشوائيات المنتشرة في العراق، التي إنتشرت بعد عام 2003، والتي تفتقر الى أبسط مقومات عيش الإنسان.
وأكدت دراسات علمية ان نسب البطالة بلغت أكثر من 40 في المائة.ثمة 35 % من الشباب العراقي عاطلين عن العمل، بما فيهم خريجوا كليات وأصحاب شهادات عالية.
وفي ظل غياب الخطط الاستراتيجية الحقيقية والبرامج العملية الداعمة للشباب في العراق،غياباً تاماً، تفاقمت حياته المعيشية، جنباً الى جنب تصاعد نسب البطالة والفقر،وإضطرار حتى الحريجين من الشباب العمل في أعمال لا ترتقي لمستوى تحصيلهم العلمي، ولجأ البعض الآخر الى الانخراط في أعمال غير أخلاقية وقانونية.وثمة المئات من إحتاروا الهجرة مجبرين ومغامرين بحياتهم.
بالمقابل، أصبح من كانوا يتسولون في الخارج يمتلكون الملايين والمليارات التي نهبوها من أموال الدولة. ومنهم من يستلم رواتب تقاعدية مليونية لقاء بضعة سنوات، وحتى أشهر، قضوها في مجلس الحكم أو مجلس النواب أو في الوزارات ومن أصحاب الدرجات الخاصة،إضافة لرواتب حمياتهم، مع أنهم ليسوا في الوظيفة.
ومن سرقاتهم السافرة وجود أكثر من 400 ألف فضائي في الوظائف الحكومية،خالياً، ويستلم الآلاف من المنسوبين والمحسوبين على الأحزاب والمليشيات المتنفذة 6 و 5 رواتب شهرياً، دون وجه حق. وهناك " المجاهدين الرفحاويين" وإمتيازاتهم، حيث تستلم العائلة الواحدة منهم 8 – 12 مليون دينار شهرياً. والفضيحة ان من بينهم "مجاهدين" من تجار الدين والمخدرات والتهريب والقمار والدعارة، بينما المتقاعد الذي خدم البلد أكثر من 30 عاماً يستلم 600 و 500 ألف دينار شهرياً،وتعيش عائلته الحرمان.
والسلطة التي تحتضن "المجاهدين" المزيفين تحتضن أيضاً ممارسي الظلم والجور والعنف وإنتهاك كرامة المرأة. فوفقاً لبيانات وزارة الداخلية، بلغ معدل حالات اعتداء الزوج على الزوجة ضمن ظاهرة العنف الأسري في البلاد 57 في المئة من إجمالي الحالات. ويصل العدد سنويا الى أكثر من 35 ألف حالة عنف أسري مبلّغ عنها. علماً بأن أضعاف هذا العدد لا يتم الإبلاغ عنها لأسباب اجتماعية وعشائرية. ومازال المتنفذون الفاسدون، المتشدقون بالدفاع عن “الأخلاق” و”احترام” كرامة البشر، يرفضون وبشدة، تشريع القوانين، ومنها قانون العنف الأسري، الضامنة، لقيام حياة عائلية سليمة.
وهناك حالات الطلاق المتزايدة،والتي بلغت في شهر اَب 2023 وحده 6973 حالة ، بمعدل نحو 235 حالة طلاق يوميا، ونحو 10 حالات في الساعة الواحدة- حسب مجلس القضاء الأعلى. وقد تصدرت بغداد القائمة. علماً بأن هذه الآفة الاجتماعية شملت أكثر من 73 ألف حالة طلاق خلال عام 2022.
وعدا المطلقات، هناك مئات اَلاف الأرامل اللواتي يعانين من شظف العيش وصعوبات إعالة أطفالهن.
وفي هذا الواقع المزري، تبرز ظاهرة عمالة الأطفال الفقراء واليتامى، التي شملت 7 في المائة من أطفال العراق الذين لم يبلغوا السن المطلوبة. وغالبية هؤلاء الأطفال يعانون من الاستغلال والإساءة.وبفضل "بركات" الطغمة الحاكمة يعيش أطفالنا على مساعدات الدول الأخرى إسوة بأفقر الدول الفقيرة، وهم يعانون من الفقر والأمراض.ووفقاً لإحصائيات وزارة التخطيط ثمة مليون و 200 ألف طفل عراقي محرومين من الغذاء والصحة والتعليم، وبقية حقوقهم، ويتعرضون للعنف والأمراض
والى جانب هؤلاء ثمة اَلاف المعوقين والمعوقات جسدياً ويعيشون في ظروف لا إنسانية.
وهنالك النازحين والمهجرين عن مدنهم وقراهم وبيوتهم وأراضيهم ويعيشون في مخيمات يعانون فيها ظروفاً قاسية، صيفاً وشتاءاً، وتشكل لطخة عار في جبين الطغمة الحاكمة.
وأما الأمن والأمان فهما لليوم مفقودان، ويعاني المواطنون من جرائم القتل اليومي، ورمي الجثث على قارعات الطريق، وعجز الأجهزة الأمنية عن الكشف عن الجناة.
وأخيراً وليس اَخراً، ظاهرة الإنتحار المتفاقمة، التي تحدث يومياً (بمعدل حالتين)، وقد حصدت حياة اَلاف الشباب والشابات، وهي في تصاعد مستمر وسط الشباب والشابات. ويعود سببها الرئيس للإحباط الناجم عن الإهمال المتعمد من قبل السلطة، وتفاقم ظروفهم المعيشية،وتفشي البطالة، وقلة فرص العمل، الى جانب انتشار المخدرات، والأمراض النفسية والعقلية، وعجز الحكومة عن معالجتها.
و ذلكم غيض من فيض معاناة الأمومة والطفولة والشبيبة العراقية من " بركات" الطيقة السياسية الفاسدة.
فهل سيتجاهل الوفد العراقي كل هذه الوقائع والحقائق المريرة والشاخصة ليقدم "قصصص نجاح" كاذبة ؟