قد لا تتسع مجموعة من القواميس لاحتواء جرائم حزب البعث بعد ان جاءت به المخابرات المركزية الامريكية على قطارها المشؤوم في الثامن من شباط عام 1963.

لقد تميزت جرائم انقلابيي الثامن من شباط ليس ببشاعتها وابتعادها عن كل القيم الأخلاقية فقط، بل انها امتازت ايضاً بكونها مورست على مجاميع بشرية بكاملها اصبحت تشكل عامل انشراح للجلادين حينما يرون ضحاياهم وقد تراصفت جثثهم وضاقت بها القاعات التي أعدها مجرمو البعث لهذا الغرض.

إحدى هذه الجرائم الجماعية التي خطط لها ونفذها مجرمو الثامن من شباط هي تلك الجريمة البشعة المعروفة باسم " قطار الموت ".

إن المتابع لحيثيات هذه الجريمة، وقد كُتب عنها الكثير، سيخرج بالقناعة الكاملة بأن الأعجوبة التي جعلت قائد القطار يعلم بماهية " حمولته " مما دعاه لمخالفة أوامر من امره بان يسير بقطاره ببطئ تحت وطأة اشعة شمس تموز على العربات الحديدية المعدة لنقل حمولات البضائع والتي كانت مليئة بمئات من السجناء السياسيين الذين أراد الجلادون نقلهم إلى سجن نكرة السلمان بهذه الطريقة القذرة.

لئن حالفنا الحظ نحن سجناء البصرة لأن ننجو من قطار الموت لعدم وجودنا في بغداد بعد فشل الثورة الشجاعة لحسن سريع ورفاقه الأبطال، فإنه لم ينجنا من " قافلة الموت " التي نقلتنا من البصرة إلى نكرة السلمان عبر الطريق الصحراوي الغير مطروق إلا من المهربين والذي كان يُطلق عليه طريق إبصية. وإبصية هذه نقطة تأتيها شرطة الكمارك بين فترة واخرى. وقد يتحدث البعض عن قافلتين من هذا النوع سلكت أحدهما طريق الناصرية عبر الصحراء والتي ضمت السجناء السياسيين العسكريين وغير العسكريين الذين نُقلوا إلى نكرة السلمان. أما الثانية التي نقلت العسكريين من معسكر محمد القاسم إلى نكرة السلمان فهي التي سارت على طريق إبصية هذا بسيارات نقل خشبية كان يُطلق عليها آنذاك (دَك النجف).

كان عدد هؤلاء السجناء في قافلتنا هذه مائة سجين تقريباً تم حشرهم في هذه السيارات التي انطلقت بهم عبر الصحراء تقودها سيارة مسلحة من سيارات الشرطة لتصل إلى قلب الصحراء التي لا أثر فيها لأي نوع من الحياة في منتصف نهار أوائل تموز. ولو أن السفر في مثل وسائط النقل هذه وتحت هذه الأجواء تحت الشمس اللاهبة في هذه الصحراء قد تم بشكل اعتيادي لكانت الصعوبات الناجمة عن ذلك غير ذي أهمية تُذكر. إلا ان غوص عجلات السيارات في رمال الصحراء وعدم استطاعتها الحركة قد جعل السجناء أمام خيارين احلاهما مرٌّ علقم. فإما المكوث في الصحراء والتعرض للموت عطشاً وإما تمهيد الطريق لعجلات السيارة من خلال الحفر في الرمال في الوقت الذي لم يكن سواق هذه السيارات قد استعدوا لحالة مثل هذه كوجود آلات الحفر في سياراتهم مثلاً. وفي الوقت الذي ظلت فيه سيارة الشرطة تتفرج على الموقف، وكأنها كانت متوقعة لموقف كهذا، كان لابد من استعمال الأيدي لإزاحة الرمال من امام عجلات السيارات. هذا الجهد الذي يرافقه تعرض الجسم إلى العرق وفقدان الأملاح مما يتطلب تعويضه بتناول الماء الذي لم يكن متوفراً بكمية كافية لهذا العدد الكبير من السجناء. واستمرت هذه الحالة في قطع الصحراء حتى خارت كل القوى في منطقة ما في قلب الصحراء لم يكن من المستطاع اجتيازها بالنظر لفقدان القوة الجسدية لدى السجناء الذين أخذ منهم العطش مأخذه. والغريب في الأمر ان سيارة الشرطة اختفت فجأة ولم يعلم اي أحد سبب اختفائها وظل سائقو السيارات في حيرة من أمرهم لا يعلمون ماذا يفعلون. واستمر الوضع على هذا الحال حتى المساء حيث انحسرت الشمس وانخفضت درجات الحرارة اللاهبة، إلا ان ذلك لم يعط السجناء القوة الكافية للاستمرار في الحفر، فانتشروا يلقون أنفسهم على الأرض بانتظار المجهول. وبعد ان حل وقت الغروب فوجئ الجمع الملقى على الأرض بوصول سيارة حمل (لوري) محملة بالرقي والخبز والمساحي. ما كان أطعم ذلك الركي الذي لم يفارق مذاقه في ذلك اليوم ما تبقى من العمر. وعلى تلك الرمال التي بدأت تكتسب حرارة ليل الصحراء شيئاً فشيئاً انهالت الأكف بقبضاتها التي استعادت قوتها فجأة لتهشم الركي وتقطع الخبز، فيتناول الجمع أحلى وألذ وجبة طعام.

من الطبيعي ان لا يتبادر إلى الذهن تحت وطأة مثل هذه الظروف ان يجري الاستفسار اولاً عن كيفية وصول هذه السيارة وإلى هذا المكان الغير مطروق بالذات. إلا أننا علمنا بعدئذ بأن سيارة الشرطة التي تركتنا اخبرت رفاقنا السجناء في نكرة السلمان بالأمر، فلم يتوانوا عن الاتصال بدائرة السجن واجبروها على ان تسمح لهم بتهيئة سيارة الحمل هذه وملئها بهذه البضاعة التي وصلتنا في الوقت الذي يمكن ان نسميه بالوقت الضائع فعلاً.

وصلت هذه القافلة إلى سجن السلمان بعد منتصف الليل تقريباً وهي تعاني من الإرهاق والهزال، فتوزعت في باحة السجن على غير هدى، إذ لا مجال لتوزيع القادمين الجدد على قاعات السجن العشرة (القووايش) التي أخذت تمتلئ تدريجياً لتصل إلى الآلاف التي تفوق بكثير العدد الرسمي المسموح به.

إن نجاة سجناء قافلة الموت هذه الذين خُطط لهم الموت في الصحراء التي راح ضحيتها فعلاً الرفيق صلاح احمد الذي حاول الهرب من سجن السلمان لكنه لم يستطع التغلب على لهيب الشمس الحارق الذي استشهد تحته، يشكل اعجوبة اخرى حينما علم سجناء السلمان بوضع رفاقهم في الصحراء وأسرعوا الى انقاذهم.

جرائم انقلابيي القطار الأمريكي يسرح الكثير منهم ويمرح اليوم على ملاعب الأصدقاء من ركاب الدبابة الأمريكية، فالكل يشترك في إطاعة السيد المُطاع حتى وإن تنوعت اشكال الطاعة سواءً كانت في عربة قطار او على ظهر دبابة، المهم هو made in USA .

عرض مقالات: