في عالم اليوم هناك ثلاث قوى أساسية متصارعة، هي عبارة عن ثلاث دول. أما القوى، الدول الأخرى المنخرطة في الصراع، فليست سوى أدوات مستخدمة من جانب القوى الثلاث المشار أليها وهي:
الدولة الأعظم اقتصاديا وعسكريا وإعلاميا الولايات المتحدة الأمريكية.
الدولة الناهضة والمنافسة أقتصاديا والأكبر ديموغرافيا ـ مليار ونصف مليار انسان ـ الصين.
الدولة الأغنى من حيث الموارد الطبيعية، والأكبر مساحة، والأعظم نوويا وصاروخيا روسيا الاتحادية.

أمريكا والصين تخوضان الصراع بعيدا عن الحيز الجغرافي لكل منهما، وتستخدمان دولا أو كتلا أخرى كأدوات في هذه الصراع، الأدوات الأمريكية هي الكتلة الأوربية ممثلة بالناتو والأتحاد الأوربي، أما أداة الصين ـ وهذا ما يمكن أن يشكل مفاجأة للبعض ـ فهي روسيا.
روسيا ليس لديها من أدوات، ربما باستثناء بليروسيا، الصغيرة والضعيفة، والتي لا تتجاوز طبيعة دورها استخدام أراضيها في بعض النشاطات العسكرية الروسية في الحرب الدائرة في أوكرانية، مقابل توفير الحماية لها من جانب موسكو في وجه الأطماع الإستراتيجية البولندية ببعض أقاليمها.
ومع أن روسيا تبدو طرفا أساسيا في الصراع، إلا ان تورطها فيه ناجم عن حالة قهرية وليست أختيارية، ومن أجبرها على التورط في الصراع هي الولايات المتحدة الأمريكية التي تحارب أي صعود أقتصادي أو عسكري أو سياسي، لأي من بلدان العالم بما فيه البلدان المصنفة علنا على أنها بلدانا حليفة، وتجد في مثل هذا الصعود تهديدا لموقعها كقطب دولي واحد ووحيد، يمتد مجاله الحيوي ليشمل العالم كله بجميع قاراته.

تدرك واشنطن أن روسيا بمساحتها الهائلة ـ حوالي سبع مساحة اليابسة في كوكبنا ـ وما تحتويه هذه المساحة من ثروات طبيعية، يمكن أن تشكل منافسا خطيرا حتى على الصعيد الأقتصادي، أضافة إلى المنافسة على الصعيد العسكري، التي تفوقت روسيا في بعض جوانبها، ولا يقتصر الأمر هنا، على الترسانة النووية الأعظم التي تمتلكها، بل كذلك تقدمها في تكنولوجيا الصواريخ فرط الصوتية. أما على الصعيد الأقتصادي فقد نجحت روسي،ا بعد انتقالها الى نمط وعلاقات الأنتاج الرأسمالية، وفي غضون عقدين من الزمان فقط، في احتلال المركز الحادي عشر بين الدول الأقوى إقتصاديا في العالم، وأدى هذا الى ضمها الى مجموعة الدول السبع الكبرى اقتصاديا لتكون ثامنتها، وليتغير أسم المجموعة لوقت قصير ألى (( مجموعة الثمانية )) قبل أن تخلق المخابرات الأمريكية أحداث الميدان في أوكرانيا، وتغيير النظام الحاكم في كييف بعملية تمرد سياسي ممول، استهدف من جانب أمريكا، جر أوكرانيا الى حلف الناتو، واستخدام شبه جزيرة القرم المحاذية للحدود الروسية، كقاعدة للحلف، بعد ما كانت على مدى عشرات سنين سابقة، قاعدة لأسطول البحر الأسود الروسي. أمر حمل موسكو على دعم التوجهات الأنفصالية لدى سكان القرم وأقليم الدونباس، وتشجيعهم على تنظيم استفتاء بالأستقلال عن أوكرانيا والعودة الى السيادة الروسية.


تلك التطورات أفضت الى توتير العلاقات بين روسيا وبلدان أوربا الأطلسية، وبينها وبين أمريكا، أمر أدى الى إخراج روسيا من مجموعة الثمانية وعودتها كما كانت ((مجموعة السبعة )). لكنها لم تؤد الى قطع الوشائج الاقتصادية بين روسيا وبلدان الاتحاد الأوربي، كونها كانت تخدم الجانبين، توفر لبلدان أوربا عصب أقتصادها، الغاز والنفط، بأسعار بالغة التدني، وهذا ما أعترف به مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوربي جوزيب بوريل، الذي قال أن الرفاهية الأوربية كانت قائمة على تدني أسعار الطاقة الروسية. وفي المقابل استفادت روسيا من وشائجها الأقتصادية مع بلدان الاتحاد الأوربي في تطوير برامجها العسكرية والتكنولوجية ودعم قطاعاتها الاقتصادية في جميع المجالات. فكان لابد للولايات المتحدة من قطع هذا المسار، وهنا جرى استثمار الجماعات التي أوصلها تمرد الميدان المدعوم أمريكيا الى السلطة في أوكرانيا، فحرضت على أن تثبت في دستور أوكرانيا هدفان خطيران بالنسبة لروسيا وهما، استعادة شبه جزيرة القرم الى السيادة الأوكرانية، والأنضمام الى حلف الناتو، الذي لا يمكن من دونه تحقيق الهدف الأول، أي استعادة القرم.

سعت موسكو الى تجنب السيناريو الكارثي الذي رسمت خطوطه في واشنطن، مدركة أن الطرف صاحب القرار في هذا التحرك هو الولايات المتحدة ، فوجهت الى الأدارة الأمريكية وإلى قيادة حلف الناتو، مذكرة حذرت فيها من أقتراب بنى حلف الناتو من حدودها، وطلبت ضمان حياد أوكرانيا وعدم ضمها الى الحلف، منطلقة من أن طلب ضمها يستهدف جر الحلف الى صدام عسكري مباشر مع روسيا، استنادا الى المادة الخامسة من ميثاقه التي تلزم جميع بلدانه بالمشاركة في الحرب الى جانب أي بلد عضو، يكون في حالة حرب مع بلد آخر. لكن روسيا مستندة الى قراءتها للموقف، وضعت في حسابها الرد الأمريكي الأكثر رجحانا، وهو الأصرار على المضي في دعم الطلب الأوكراني، الذي كان معرقلا من ألمانيا وفرنسا، ولم يكن في وسع موسكو المراهنة على استمرار باريس وبرلين في عرقلة المساعي الأمريكية لضم أوكرانيا، وبينت تطورات الأحداث صواب القراءة الروسية، إذ لم تمارس العاصمتان الأوربيتان أي ضغط على واشنطن لنزع فتيل الأزمة عبر القبول بحياد أوكرانيا، أو أنهما لم تكونا قادرتان على فعل ذلك. وأضطرتا إلى تبني الموقف الأمريكي الذي يقول أن لكل دولة حق طلب الأنضمام للحلف، وللحلف حق الموافقة على أي طلب أو رفضة. بما يضع رأس موسكو تحت مقصلة البند الخامس لميثاق الحلف. وبالنتيجة تحت المقصلة الأمريكية الرامية الى أكثر من هدف في مخطط استخدام أوكرانيا ساحة لصراع مع روسيا تتورط فيه البلدان الأوربية، التي كانت تتطور أقتصاديا بشكل أقلق واشنطن وحملها على فرض عقوبات أقتصادية على الاتحاد الأوربي، وعلى تشجيع التوجهات البريطانية للأنسحاب من الاتحاد.

ومع عبور أول عسكري روسي لحدود أوكرانيا في الرابع والعشرين من شباط ـ فبراير 2022، صارت بلدان الاتحاد الأوربي رهينة في يد واشنطن ترسم لها خطواتها، وتدفعها الى أتخاذ أجراءات تتعارض مع مصالح شعوبها، وأولها بالطبع حرمان أوربا من مصدر الرفاهية الذي تحدث عنه بوريل، من الغاز والنفط الروسيين. ثم حثها على التبرع بشكل لا ينقطع بالأموال والأسلحة والعتاد، للجهات المرتبطة بواشنطن التي تحكم كييف. مما يعرقل نموها الأقتصادي، ولا يزيل فقط خطر مسار تطور المنافسة الأقتصادية الأوربية لواشنطن، بل يجعل من بلدان أوربا رهينة، لا يمكنها التحرر من التبعية السياسية والأقتصادية وحتى العسكرية لأمريكا، ويسهل استخدامها كأداة في الصراع لاستنزاف روسيا.

على الجانب الصيني لا تخفي الإستراتيجية الأمريكية التي تعلنها الخارجية الأمريكية والكونغرس الأمريكي تصنيف الصين باعتبارها الخطر الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة ونظامها العالمي. وليس أمام الصين في مثل هذا الحال من سبيل، سوى إشغال الولايات المتحدة باهتمامات أخرى، وكان مما يتوافق مع هذا التوجه، أضطرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى تأمين موقف صيني داعم، بأي قدر ممكن لبلاده في مواجتها العسكرية مع الولايات المتحدة والناتو في أوكرانيا. بكين قبلت بهذا الدور، مع أحتفاظها بتحديد حجم الدعم وسعته، بما لا يجرها الى صدام مباشر مع الولايات المتحدة، وبهذا تحولت روسيا إلى أداة من أدوات الصين للصراع مع واشنطن، وعامل تأجيل مرغوب فيه للمواجهة الحتمية بين الصين والولايات المتحدة، بشأن تايون بما يتيح لبكين ما يكفي من الوقت والقدرات، لتوفير مستلزمات الأنتصار، وانشاء ما تنادي به دوما من نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، أكثر عدلا من نظام القطب الواحد.

وربما لا تتطلع الصين الى عالم متعدد الأقطاب إلا كخطوة أولى للعودة الى نظام القطب الواحد الذي تحتل هي فيه موقع القيادة بدلا من الولايات المتحدة. ولا ريب أن قادة الكرملين يتطلعون بدورهم الى ذات الهدف، أي تعدد للأقطاب كخطوة أولى لآحتلال روسيا مكانة القطب الأوحد، وكل طرف من الأطراف الثلاثة يخفي هذا التطلع بمختلف الشعارات.

كل الأطراف تقبل بكل الخسائر المحتملة من اجل تحقيق تطلعاتها، وفي اللحظة الراهنة من الصراع لا تجني روسيا وأوربا سوى الخسائر، بينما تراكم أمريكا والصين الفوائد بمستويات مختلفة، وليس بأمكان أحد التكن بما سيتنهي اليه الصراع، وبما يمكن أن يتحقق في النهاية من حسابات الربح والخسارة.

يبقى السؤال الأهم: هل ستندلع حرب عالمية ثالثة؟ وهل ستبقى حربا بالأسلحة التقليدية أم ستفجأ البشرية بتحولها الى حرب نووية تؤدي الى فناء شامل؟
المرجح أن كل الأطراف ستسعى لتجنب السيناريو النووي، فلا رابح منه، لكن ليس بإمكان أحد ضمان ذلك.