توالت في الفترة التي أعقبت قرار الحزب الشيوعي العراقي مقاطعة الانتخابات البرلمانية المزمع اجراؤها في العاشر من شهر تشرين الأول ( اكتوبر) القادم، جملة من التصريحات والتكهنات والمزاعم التي سرحت بأفكار ناشريها في اجواء لا يحسدون عليها من متاهات الخيال، وعبرت عن فكر لا يمكن القول عنه في أجواء السياسة العراقية المعقدة، سوى أنه فكر لا يعي ماهية العمل السياسي الذي يدور في وطننا منذ أكثر من ثمانية عشر عاماً ومنذ أن جاء الاحتلال لوطننا بإسقاط دكتاتورية البعث وتفويض قوى الإسلام السياسي ورهطها من دعاة القومية العنصرية لتحل محل البعثفاشية المقيتة  في إدارة شؤون هذا البلد الذي لم يجن شعبه من الحكام الجدد غير المآسي والتخلف على كل المستويات وزيادة اللصوص الناهبين لخيرات الوطن وقوت اهله، وذلك من خلال التجارة بالدين والقومية والطائفية والمناطقية، هذه الهويات التي باعت الهوية العراقية ولم تزل تتاجر بها حتى اليوم في اسواق الدعارة واللصوصية وانتهاك لكل القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية.

وفي أسواق التجارة هذه التي يبدأ نداء الدلالين على البضاعة بالبسملة والحوقلة، تبلورت بورصة تعامُل جديدة على اسواق التعامل الاقتصادي ألا وهي بورصة الأصوات الانتخابية التي تزداد مراكزها مع التحضيرات للانتخابات البرلمانية أو البلدية وينشط الوكلاء وتجار هذه البورصة ببذخ الأموال اللازمة لذلك، ترافقها إجراءات تصحيحية اخرى، مدفوعة الثمن طبعاً، في هذا المركز الانتخابي أو ذاك كالحريق المفاجئ لصناديق الاقتراع مثلاً أو ضياع بعض هذه الصناديق أو احتواء بعضها على اصوات تفوق بأعداد كبيرة العدد السكاني المدعو للانتخاب في هذه المنطقة الانتخابية او تلك. لا ضير من ذلك ما دام القائمون على اعلان النتائج النهائية لهذه الانتخابات اناس ممن يوثق بهم لا شائبة في مفوضيتهم المستقلة جداً والتي اتخذت من مبدأ اليد التي تتوضأ لا تسرق منهاجاً لها في ادارة الانتخابات والتأكد من نتائجها بتلك الحيادية التي تنبثق عن بورصة الأصوات ودلاليها والتي خرجت من ايادي الوضوء.

والأصوات التي انطلقت بعد اعلان الحزب الشيوعي العراقي مقاطعته انتخابات تشرين الأول المقبل، بعد أن سبق ذلك بكثير من الطروحات التي أشارت الى العوامل الأساسية التي تعيق مسيرة العملية الانتحارية، وما صدر عنه من بيان بشأن ذلك، فسره البعض على أن هذه المقاطعة ما هي الا مناورة من الحزب للحفاظ على كيانه الحالي الذي لا يسمح له بالحصول على اصوات تؤهله للفوز في الانتخابات. لنناقش هذه المزاعم بكل جدية وهدوء نرجو أن لا يغيض من يهمهم الأمر في هذا النقاش.

اولاً : لقد خاض الحزب الشيوعي العراقي جميع الانتخابات بما في ذلك الاستفتاء على الدستور ولم يحصل على مقاعد برلمانية أو في مجالس المحافظات في بعضها، هذا صحيح، إلا انه لم يقاطع العملية الانتخابية بالرغم من النتائج التي حصل عليها في دورتين انتخابيتين قبل انتخابات 2018 وما سبقها من انتخابات المجالس البلدية التي حصل فيها الحزب على بعض المقاعد التي تخلى عنها بعدئذ احتجاجا على مسار العملية السياسية وخاصة اعتراض الحزب على اجراءات القمع ضد ثوار تشرين والتنكيل بهم من خلال القتل والاختطاف والهجوم بالأسلحة المختلفة الذي ساهمت به مليشيات الأحزاب الإسلامية، خاصة الشيعية منها. أي أن مشاركة الحزب الشيوعي العراقي في الانتخابات لم تكن مرتبطة بما سيحصل عليه من مقاعد أو لا، بل إنها مرتبطة بالقناعة التامة بالعملية الديمقراطية التي تشكل الانتخابات الحرة النزيهة احدى واجهاتها. وحينما تأكد الحزب بأن جميع نداءاته التي اطلقها لتصحيح مسار العملية الانتخابية المهددة بانفلات السلاح الذي مارس الجرائم ضد المنتفضين والناشطين في منظمات المجتمع المدني والرافضين لسياسة المحاصصات والنهج الذي يسير عليه نظام الحكم في العراق وانتشار مراكز التجارة بالأصوات امام سكوت مفوضية ادارة الانتخابات التي لم تتوفر فيها الاستقلالية التي ترافق اسمها وغير ذلك الكثير من المعوقات الخدمية والفنية التي لم يعجز الحزب عن تكرارها في كل مناسبة يتيحه له الإعلام الخارجي، فضلاً عن نشاط اعلامه الداخلي في هذا المجال، بادر الى إعلان التعليق في المشاركة اولاً متوخيا ردة فعل ايجابية من الأحزاب الحاكمة التي تدير العملية الانتخابية، إلا أن هذه الاحزاب الفاسدة مشغولة بأثرائها الفاحش والاستمرار في نهج اللصوصية والعمالة والمحاصصات واهمال كل ما ينادي به الشعب من خدمات، فلم يبدو منها اي إجراء ينم عن تصحيح مسار العملية الانتخابية، وهذا مما جعل الحزب الشيوعي العراقي يعلن عن مقاطعته لهذه الانتخابات.

ثانياً: ان ما يغيض البعض هي الطريقة التي سلكها الحزب الشيوعي العراقي لاتخاذ قرار المقاطعة. نعم تغيض اولئك المتطفلين على العمل السياسي والذين نعتوا أنفسهم هم بسياسيي الصدفة والذين لا يفقهون من العمل السياسي سوى تأجيج العواطف الطائفية أو القومية أو المناطقية ليكسبوا بذلك قاعدة شعبية يفتقرون لها كما يفتقرون للمبدأ السياسي الذي يعملون على أساسه. لقد أجري الحزب الشيوعي العراقي استفتاءً بين كل اعضائه من القاعدة وحتى القيادة ليتخذ اعضاء الحزب بأنفسهم قراراً بشأن المشاركة في الانتخابات او مقاطعتها، حيث جاءت النتيجة بالأغلبية لصالح المقاطعة التي أعلن عنها الحزب بعدئذ بعد مخاض طويل من النقاشات التي لم يكن يفكر بها كثير من الأحزاب التي أعلنت عن مقاطعتها قبل أو بعد أن يعلن الحزب عن خطوته هذه.

إن ما يفخر به الحزب الشيوعي العراقي حقاً هو تبنيه والتزامه بالديمقراطية داخل وخارج صفوفه وممارستها بالرغم من كل الظروف التي تحيط بعمله وبالرغم من كل اجراءات القمع والملاحقة والسجون والإعدامات التي مر بها الحزب، خاصة في عقود عمله السري، والتي لم تساعد على تجذير العمل الديمقراطي داخل الحزب.

إن اجراء الاستفتاء هذا الذي يبدو اجراءً غريباً على بعض القوى والأحزاب السياسية العاملة على الساحة العراقية، خاصة تلك القوى التي لم تعرف من السياسة سوى تلقي الأوامر من قادتها، مهما كان قادتها سواء من ذوي الخبرة بالعمل السياسي أو من الجهلة المتطفلين عليه، حتى أصبح ما قاله الجواهري الكبير: تطير ان طار او تهوى إذا وقعا، ينطبق عليها تماماً، ولا يخجل بعضها من التفاخر بهذا الخنوع الصنمي، بل بالعكس فإن البعض قد يعتبره الطريق الوحيد الى السعادة في الدنيا وفي الآخرة.

إن كل ما نستطيع ان نقوله لكل هذه القوى على الساحة السياسية العراقية: تعلموا من الشيوعيين العراقيين ما هي السياسة، خاصة تلك السياسة المؤمنة بالإنسان اولاً واخيراً والمؤمنة بالوطن الذي لا بديل عن هويته التي تخليتم عنها لهوياتكم الطائفية او القومية او المناطقية والتي يحترمها الشيوعيين العراقيين إلا انهم لا يستبدلونها بهويتهم الأساسية، الهوية العراقية اولاً واخيراً.

ثالثاً: وقد يكون هذا بيت القصيد بالنسبة للزاعمين بان مقاطعة الحزب للانتخابات تنبثق من حساباته التي تشير الى عدم حصوله على مقاعد في البرلمان. نقول لهؤلاء مهما اختلفت اهدافهم في نشر هذه المزاعم ما يلي:

الأصوات التي حصل عليها الحزب الشيوعي العراقي والتي لم يستطع من خلالها الفوز بمقاعد برلمانية في الانتخابات التي جرت عامي 2010 و2014، ولذلك اسباب اخرى لا تتعلق بقلة او كثرة الأصوات لا مجال لتفصيلها هنا وهي معروفة للجميع. والأصوات التي حصل عليه في انتخابات 2018 والتي جاءت له بنائبين، وما قبلها من حصول الحزب على مقاعد في بعض مجالس المحافظات، ان جميع هذه الأصوات هي اصوات ملتصقة بالحزب حقاً وقد اعطته صوتها بقناعة ومبدأية ثابتة تشكل القاعدة الأساسية التي يعمل عليها الحزب والتي ينطلق منها في تبني مواقفه الوطنية وسياسته الجماهيرية.

انها اصوات نساء ورجال لا يرون في الحزب سوى ساحة سياسية تؤمن بالمبادئ الإنسانية وبقوى الشعب التي تشكل السياج الواقي لهذا الحزب الذي لولا هذا السياج الشعبي الواقي لما استطاع على الاستمرار في تواجده على الساحة السياسية العراقية ما يقارب التسعة عقود من الزمن ، رغم كل ما لحق بالحزب من اجراءات القمع منذ العهد الملكي وحتى يومنا هذا الذي لم يزل فيه بعض مرددي الأسطوانات المشروخة عن الشيوعيين يدارون تخلفهم الفكري وعمالة بعضهم وانتماءهم لغير العراق واهله ، والذين يعبرون عن جهلهم بهذا الحزب المناضل العتيد بتاريخه المتجذر في ارض العراق .

ان المتقولين على الحزب يمثلون توجهات لا تعي حجم خطوة الاستفتاء النضالية التي أقدم عليها الحزب الشيوعي العراقي للإعلان عن مقاطعته للانتخابات والتي تضاف الى كل تاريخه النضالي الذي لا يفهمه متلقو الأوامر الجاهزة التي لا رأي لهم فيها. الأصوات التي يحصل عليها الحزب الشيوعي العراقي في الانتخابات هي اصوات الإرادة لا أصوات الترديد، والفرق واضح في نوعية الصوت الذي يعبر عما يريد والصوت الذي يقال له لما يعبر عنه. وإن كان عدد المرددين في مجتمع ما يفوق عدد الإراديين فما على الخيرين في هذا المجتمع إلا ان يواصلوا العمل على إسعاف الناس من هذه التبعية المرتبطة بالجهل والعوز وتغييب العقل.

رابعاً: ان الأصوات التي يحصل عليها الحزب الشيوعي العراقي لا علاقة لها بتجارة بورصة الأصوات التي يسخرها تجار الدين للعرض والطلب في اسواق محاصصاتهم. إنها اصوات نقية نقاء الذهب الخالص تتناسب مع المصادر التي يمول الحزب بها حملاته واحتفالاته وكل نشاطاته. الحزب الشيوعي العراقي بمصادر تمويله الداخلية لا يشكل منافساً للمال السياسي المسروق من قبل الاحزاب الحاكمة والذي تسيره ليس لخدمة بورصة الانتخابات فقط، بل لتسليح عصاباتها ايضاً ولاستغلال ما اوقعت به كثير من الناس في مآزق الفقر والمرض والجهل مستخدمة هذا المال في هذه الأجواء التي يعلو فيها أنين الجائعين وآلام المرضى وكل من اوقعتهم سياسة المحاصصات اللصوصية في متاهاتها ومزالقها.

لذلك فإن هذه الأصوات، وإن كانت قليلة لا تحقق هدف التمثيل في المجلس النيابي، كما يعبر عن ذلك البعض، فإنها اصوات حرة، اصوات اصحاب ارادة وفكر واع وشخصيات لا تبيع ضمائرها لمن هب ودب بمجرد انه استحوذ على المال السياسي. اصوات ثابته في تعاملها مع مبادئ نقاء الضمير وليس بيعه في بورصة الأسواق الانتخابية، اصوات تؤمن بمقولة تشارلز داروين:

"" لا يمكن لجمهورية أن تنجح إلا حتى تحتوي مجموعة معينة من الأشخاص المتشربين بمبادئ العدل والشرف.""

والشيوعيون العراقيون، مع غيرهم من المؤمنين بهذه المبادئ في مجتمعنا، هم من هؤلاء الأشخاص.

عرض مقالات: