تضخمت ديون بلدان الجنوب في السنة الاولى من الجائحة بمستويات خطيرة، الامر الذي دعا تلك البلدان الى اتباع سياسات  تقشف أكثر من ذي قبل. تلك الضائقة التي استهدفت عمال عالم الجنوب لا تنحصر تداعياتها ضمن الحدود المحلية، بل أن الصراع ضد عبودية الديون عابرللحدود وتمتد اثاره لتطال العمال في كل مكان.

 بينما تعود بلدان الشمال بعد عام من الجائحة لافتتاح البارات وأماكن الطعام، فان دول الجنوب لا تواجه تبعات الفايروس فحسب، بل خرجت بأزمات ديون خانقة تهدد معيشة وأنماط حياة الملايين لسنوات قادمة.

 منذ بدء الجائحة العام الماضي ، توقفت الأنشطة الاقتصادية في جميع أنحاء العالم. وبينما كانت الدول الأكثر ثراءً، في الغالب ، قادرة على شق طريقها خلال الأزمة ، لم تكن دول جنوب الكوكب تتمتع بالقدرات اللازمة لتجاوز المحنة. وجدت الدول النامية -التي تعاني أصلاً من نقص الموارد والاستغلال المفرط- نفسها في مواجهة  تقلّص الإيرادات، و هجرة رأس المال ، وعدم القدرة على سد الاحتياجات الاجتماعية الملحة، وفوق كل هذا مواجهتها لابتزاز كارتيل من الدائنين  الذين لا  يرغب أحدهم خسارة أي نقص في سداد الديون. خشية من التخلف عن السداد على نطاق واسع، كان رد فعل الدائنين مثيراً،  فقد قدم صندوق النقد الدولي (IMF) عرضاً لإلغاء ديون محدود ورمزي إلى حد كبير ولمجموعة منتقاة من 25 دولة.  وكانت مبادرة دول مجموعة العشرين لتعليق خدمة الديون تقوم فقط على تأجيل المدفوعات لا إطفائها ، وهي متاحة فقط للبلدان منخفضة الدخل، و تستثني البلدان ذات الدخل المتوسط ​​مثل كولومبيا والسلفادور والفلبين التي غالبًا ما تكون في أمس الحاجة إليها. كما أن البرنامج المعروف لمجموعة العشرين لمعالجة الديون- والذي يهدف إلى تسهيل إعادة هيكلة الديون إلى ما بعد التعليق المؤقت - يعاني هو الآخر من قصور مماثل. كما أنه ضيق النطاق ، ومصمم من قبل الدائنين ومن أجلهم، وهوعاجزعن حماية البلدان المشاركة من خطورة تخفيض تصنيفاتها الائتمانية.  لم تلزم أي من المبادرات الرئيسية القطاع الرأسمالي الخاص بشكل حاسم للمشاركة في تخفيف عبء ديون الجنوب العالمي، مما يترك الديون العائدة للقطاع الخاص دون مساس تقريبًا، علماً ان تلك الديون تصل في بعض البلدان إلى ما يقرب من 70 في المائة من إجمالي العبء. وبدلاً من ذلك، طالب قادة أقوى دول العالم مجتمعين القطاع الخاص بتقديم المساعدة طوعاً، وكأن حل الازمة الاقتصادية يتم بالدعوات و الصلوات.

  بعد مرور أكثر من عام على انتشار الوباء، لم تصحّ التوقعات بحدوث عجز عن سداد الديون بشكل واسع، لكن أولئك الذين نجوا من العاصفة قد دفعوا أثماناً باهظة. في العام الماضي وحده ، دفعت الدول النامية (باستثناء الصين) مبلغًا مذهلاً بلغ 194 مليار دولار إلى الدائنين الخارجيين، ولتحمل هذه المدفوعات، اضطرت الدول المتعثرة إلى خفض الإنفاق الاجتماعي وطلب زيادة في الاقتراض لتغطس بشكل أعمق في ضائقة الديون. ارتفعت ديون البلدان النامية نتيجة الأزمة من معدل ما يقارب 40 في المائة ​​من الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 60 في المائة. باختصار، أدى النظام المالي العالمي ما هو مُصمم له: توفير مساحة تنفس كافية لتجنب حالات العجز عن السداد، لحماية الدائنين من القطاع الخاص على حساب الدعم العام، وبالتالي تعميق الأزمة الأساسية وإجبار دول الجنوب على المزيد من الأرتهان.

  أزمة الديون هي مأساة في حد ذاتها ، يتفاقم بسببها، الفقر، والبطالة، والتخلف، ونقص الرعاية الصحية ، والبؤس لعدد لا يحصى من الناس في جميع أنحاء جنوب الكرة الأرضية. إنه أمر يستدعي غضبنا ومعارضتنا المنظمة على  آلية وأسس ادارة الديون. علما أن أزمة ديون الجنوب العالمي ليست مشكلة لجنوب الكرة الأرضية فقط، إنها أزمة للعمال في كل مكان. 

يجب على الطبقة العاملة في شمال الكرة الأرضية أن تنضم إلى رفاقنا الجنوبيين ضد هذا النظام المالي - ليس بدافع الإيثار فقط، ولامن أجل المصلحة الذاتية، ولكن من باب التضامن والكفاح المشترك.

 في غمرة (السباق العالمي نحو القاع) عمال العالم بأجمعهم هم الخاسرون:

 ( السباق نحو القاع Race to the Bottom : مصطلح اقتصادي يشير الى سلوك الحكومات في تنافسها لجذب رؤوس الأموال وذلك باعفاء الشركات الاجنبية من الضرائب أو تخفيضها، وإعفائها من الضوابط إتجاه اجور أو حقوق العمال أو مسؤولياتها فيما يتعلق بتلويث البيئة ،.. الخ.. المترجم )

 ديون الجنوب العالمي ليست عرضاً طارئاً بل خاصية من خصائص النظام الاقتصادي العالمي. فإحدى وظائفه الرئيسية تتمثل في تعزيز نفوذ الدائنين لفرض أجندتهم الخاصة على بلدان الجنوب.  لجأت 85 دولة الى صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل إضافي منذ بدء الوباء، في محاولة يائسة لسداد مدفوعاتها، ولتجنب تخفيض تصنيفها الائتماني على أيدي وكالات التصنيف الائتماني ذات النفوذ القوي.

وقد استخدم صندوق النقد الدولي بدوره سلطته - على اعتباره الملاذ الأخير كمقرض - لفرض حزمة شروطه المعتادة من التقشف وإلغاء الضوابط والخصخصة. وفقًا لأحد تقارير منظمة أوكسفام ، فإن أكثر من 80 في المائة من قروض صندوق النقد الدولي المقدمة خلال الوباء جاءت مع شروط تخفيض ميزانية القطاع العام،  واتباع تدابير تقشفية لسنوات قادمة.

إن تداعيات هذا الاستهداف الممنهج ضد الطبقة العاملة لا ينحصر ضمن الحدود المحلية. لقد مكّنت هيكليه النظام  المالي العالمي - الذي تم تطويره منذ السبعينيات - رأس المال من التنقل بحرية بين البلدان بحثًا عن أكثر الظروف ربحية. و لهذا فإن الدول الطامحة للسيادة تدخل في مواجهة بعضها البعض في سباق يائس نحو القاع  Race to the Bottom. عندما تستغل برامج صندوق النقد الدولي حاجة البلدان المثقلة بالديون لفرض إصلاحات شاملة مناهضة للعمال ، فإن المتضررين ليسوا عمال ذلك البلد وحدهم.

عندما تحدث أزمة ديون في السلفادور مثلاً، وتتلقى قرضًا من صندوق النقد الدولي، يتضمن شروطًا لتسريح العمال من القطاع العام ، وتخفيضات في الأجور ، و تقليص في تدابير الحماية من البطالة - كما فعلت العام الماضي -، فتفكر شركة امريكيه بنقل مصانعها الى السلفادور لوفرة العمالة الرخيصة والقابلة للاستغلال بسبب اجراءات الصندوق الدولي، وبهذا تكون النتيجة أن العمال السلفادوريين يتحملون العبء الأكبر من هجوم صندوق النقد الدولي، ولكن في الولايات المتحدة أيضاً العمال المسرّحون بسبب انتقال المصانع للسلفادور - في أحسن الأحوال - يفقدون القدرة التفاوضية على الأجور، وفي أسوأ الأحوال ينضمون الى جيش العاطلين. الآن تأمّل هذا السيناريو على نطاق عالمي.

إذن إستهداف العمال في أي مكان هو اعتداء على العمال في كل مكان. وديون الجنوب العالمي تمثل سلاحا قويا لاستهدافهم.

 الصحة في العالم كلٌّ مترابط:

   الحاجة إلى التسديد للدائنين إضافة إلى شروط التقشف التي يفرضها المقرضون مثل صندوق النقد الدولي، كان له الأثر أيضاً في العجز عن توفير خدمات الصحة العامة في جميع أنحاء جنوب الكرة الأرضية عام 2020 ، خلال إحدى أكبر الأزمات الصحية في العصر الحديث ، أنفقت البلدان النامية في المتوسط على سداد القروض وفوائدها بما يقارب مرة ونصف مقدار ما صرفته على الرعاية الصحية العامة. في خضم أزمة صحية عالمية غير مسبوقة، اضطرت الدول النامية إلى الدفع لدائنيها بدلاً من حماية صحة شعوبها. كان التحويل الصافي البالغ 194 مليار دولار من البلدان النامية إلى الدائنين الخارجيين وحده كافياً لتحصين كل فرد في العالم النامي. وعلى الرغم من أن قروض صندوق النقد الدولي الطارئة المتعلقة بفيروس كورونا المستجد COVID-19 تم استثناءها من وصفات التقشف الخاصة بالأنفاق على الصحة أثناء الوباء ، فمن المتوقع أن تدخل هذه التعديلات المالية حيز التنفيذ في السنوات القادمة، ففي خمسين دولة ، من المتوقع أن تكون التخفيضات في الميزانية العامة أكبر من إجمالي الإنفاق الحالي على الرعاية الصحية. 

باختصار، في خضم أزمة صحية عالمية غير مسبوقة، اضطرت البلدان النامية إلى الدفع لدائنيها بدلاً من حماية صحة شعوبها. 

مرة أخرى ، تداعيات هذا الامر يمتد الى ما وراء حدود البلدان. مع استمرار انتشار الفيروس في معظم أنحاء بلدان الجنوب ، بدأت تظهر طفرات وراثية جديدة أكثر فتكًا ومقاومة للقاحات، وما يفاقم الازمة الاصرار على عدم التنازل عن احتكار الملكيه الفكرية للقاحات وقوانينها القائمه أصلا على التمييز. إن إعطاء دول الشمال العالمي الأولوية للدائنين من القطاع الخاص على الصحة العامة يهدد بإطالة الوباء وعاقبته تطاردنا جميعًا. فإذا ماعاد للانتشار نوع جديد أو جائحة جديدة في الشمال، ستكون الطبقة العاملة مرة أخرى هي التي تتحمل التكلفة.

 الدائنون ومعالجة الاحتباس الحراري : 

  إن تراكم الديون والتقشف القسري يهددان  جنوب الكرة الأرضية بضياع عقد آخر من التنمية، وفي ظل هذه الظروف ، من الصعب أن نتخيل أن كفايةً من الموارد العامة ستتوفّر للاستثمارات المطلوبة لمواجهة أزمة المناخ العالمية الملحة. كما قال خبير الديون دانييل مونيفار: "الاستمرار في هذا المسار [الديون] ينذر بتلاشي أي أمل لتحقيق الالتزامات المنصوص عليها في اتفاقية باريس للمناخ"٠

بسبب استنزاف الأموال العامة قد تضطر البلدان التي ترغب بالقيام بعمل ما بشأن تغير المناخ إلى اللجوء لاعتماد أكبر على التمويل الخاص، و المعروف أن السير بنهج - رأس المال أولاً - لا يُحكم عليه بالفشل فحسب، بل يعزز قوة الممولين على حساب العمال في كل مكان.

 كان من المفترض أن تكون جائحة كورونا حافزاً لإعادة التفكير جذريًا في القواعد التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي وإعادة البناء بطريقة تعالج التهديد الوجودي بسبب تغير المناخ، إلا إن رأسماليي الكوارث *-  كأولئك السؤولين في إدارة بايدن - يستغلون الأزمة بدلاً من ذلك لتنفيذ توجهاتهم في مواجهة أزمة المناخ العالمي بالخصخصة. 

مرة أخرى، فإن نتيجة هذا الفشل في مواجهة أزمة المناخ ، وتعزيز العلاقة الهرمية الحالية بين رأس المال و قوة العمل ، لن يكون محسوسًا في جنوب الكرة الأرضية فحسب، بل سيكون كارثة تفوق التصور على الكادحين في كل مكان.

 كسر الأغلال:

   أزمة ديون دول الجنوب هي في الحقيقة نوع من أنواع  العنف والاستغلال ضد شعوب تلك البلدان. ولكن من استهداف القوة العاملة العالمية ، إلى ما تسببه من تدهور في الصحة العالمية ، إلى تقويض العمل في مواجهة ازمة المناخ العالمية ، فإن ديون عالم الجنوب هي أيضًا أزمة للعمال في شمال الكرة الأرضية. هذا أكثر بكثير من مجرد مواءمة بالمصادفة للمصالح بين مجموعتين منفصلتين، فالمصالح المشتركة للطبقة العاملة العالمية هي سمة مميزة للاقتصاد العالمي الرأسمالي.

 تعمل حكومات الشمال العالمي جنبًا إلى جنب مع رأس المال لاستغلال سكان جنوب الكرة الأرضية. وفي المقابل فأن قطاعًا صغيرًا من عمال بلدان الشمال قد يتلقى فتاتًا بما يكفي من تلك العوائد لتخفيف المعارضة ضد النظام.

 في الواقع ، إن معاناة عمال الجنوب والشمال مرتبطة ببعضها البعض، وكذلك انعتاقنا الجماعي. بينما يكافح الناس في جميع أنحاء جنوب الكرة الأرضية ضد التقشف وشروط قروض النقد الدولي، ويطالبون بإطفاء الديون، يجب علينا في شمال الكرة الأرضية أن نتبع قيادتهم ونتحد معهم في المقاومة. هذا يعني، على المدى القصير ، تنظيم نشاطاتنا لإجبار حكوماتنا على إلغاء شامل للديون السيادية بما في ذلك ما للقطاع الخاص، وقد تشمل التدابير الآنيه الأخرى ضخ السيولة المطلوبة من خلال تخصيص ثلاثة تريليونات من (حقوق السحب الخاصة **) وإعادة توزيعها ، بما فى ذلك  انجاز مستلزمات المعالجة الدولية المقترحة لقانون الجائحة. لكن الإغاثة الفورية وحدها لا تكفي لمعالجة جذور عبودية ديون الجنوب العالمي تماما، يجب أن نحلم بشكل أكبر نحو إعادة هيكلة جذرية للاقتصاد العالمي. إعادة صياغة هذه القواعد -  في صفقة عالمية خضراء جديدة - لن تشمل فقط الإلغاء الفوري للديون، ولكن أيضًا إنشاء آلية دائمة لتسوية الديون تحت رعاية الأمم المتحدة ؛ إلغاء التقشف في شروط القرض؛ التغيير الجذري الكامل أو حل واستبدال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ إعادة صياغة قواعد التجارة والاستثمار للمساعدة في وضع حد (للسباق نحو القاع٠٠٠٠٠ راجع التعريف أعلاه.. المترجم ) ؛ التمويل العام غير المسبوق وغير المشروط والتعويضي من الشمال إلى الجنوب وغير ذلك. مثل هذه الأجندة في التغيير الجذري ضرورية. إلا أن ذلك لن يكون ممكناً طالما يتم التعامل مع نضالات الجنوب العالمي على أنها منفصلة عن كفاحنا. بدلاً من ذلك ، يجب أن ندرك أن الأغلال التي تقيد بلدان الجنوب تثقل كاهلنا جميعًا .

بالوحدة القوية والمتماسكة العابرة لحدود البلدان يمكن للطبقة العامله كسر تلك الأغلال مرة واحدة وإلى الأبد.

 هوامش

 * حق السحب الخاص SDR: تسمى أيضاً الذهب الورقي وهي وحدة عملة معتمدة في صندوق النقد الدولي لإجراء حسابات الأعضاء، وهي افتراضية ولا وجود مادياً لها, وقد اعتمدت بسبب الشكاوى من تذبذب قيمة الدولار، وتحتسب قيمتها بالقياس مع أربع عملات وهي الدولار والين واليورو والجنيه الإسترليني، وتتم مراجعة قيمتها كل 5 سنوات .............  المترجم

 ** رأسمالية الكوارث هو مصطلح صاغته الكاتبة الكندية نيومي كلاين في كتاب لها بعنوان " عقيدة الصدمة"، ويعني إستثمار الكوارث الطبيعية أو الحروب او الكوارث التي تعقب إثارة الطائفية أو الفوضى الناشئة عن قلب الأنظمة، استثمارها لفرض اقتصاد نيولبرالي وفرض الشروط التي تسهل لرأس المال الاعتياش والتربح على إستغلال قوة العمل وثروات الشعوب وأسواقها, ومن التجارب التي تسهب في توثيقها وتحليلها في الكتاب، المرحلة التي اعقبت إنقلاب بينوشيت في شيلي، الحرب على العراق، وتصفية برامج الرعاية الإجتماعية والسكن الشعبي والتعيم والصحة العامة في أعقاب اعصار كاترينا  في نيواورليانز بأميركا......المترجم 

 نشر المقال في موقع الاشتراكيين الديمقراطيين في أميركا

 https://jacobinmag.com/2021/06/debt-crisis-global-south-poverty-unemployment-working-class

 

عرض مقالات: