في التاسغ والعشرين من حزيران 2021 توفي وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامسفيلد في مدينة تاوس، نيو مكسيكو، عن عمر ناهز الـ 88 عاماً، دون معاناة، تاركاً وراءه كم من الجرائم  ضد الإنسانية ، دون أن يُعاقب عليها..

 كان دونالد رامسفيلد ( 1933- 2021)  واحداً من بين أهم السياسيين المحافظين والصقور في الولايات المتحدة الأمريكية، عاصر فترات حكم أربعة رؤساء، وهم ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد ورونالد ريغان وجورج دبليو بوش. وشغل عدة مناصب حكومية رفيعة، اَخرها منصب وزير الدفاع في عهد الرئيس الجمهوري جيرالد فورد، في الفترة 1975 -1977، وهي  فترة الحرب الباردة، بين المعسكرين الغربي والسوفيتي، التي أججها بإطلاقه خلال فترة قيادته للجيش الأمريكي برامج حربية مبتكرة، مثل القاذفة الاستراتيجية ( B-1)، وصواريخ كروز، وتنفيذ خطة إعادة تسليح البحرية ونشرها على نحو واسع.وبذلك بزت الولايات المتحدة الاتحاد السوفييتي. وعين في المنصب ذاته خلال فترة إدارة الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش في الفترة 2001 – 2006..

 لقد عُرفً رامسفيلد  بنزعته البيروقراطية الماكرة والغطرسة الصلفة.ويعتبر احد أقوى رؤساء البنتاغون، الذي قاد الحروب الأمريكية في وقته. واشتهر بكونه صقر حرب، وكبير مهندسي الحروب. وقد إرتكب أفظع جرائم الحرب والجرائم الإنسانية خلال فترة قيادته للبنتاغون..

 عقب أحداث 11 أـيلول/سبتمبر 2001 الأرهابية، التي أطاحت ببرجي التجارة العالمي وقتل نحو 3000 شخص، شن البنتاغون بقيادة رامسفيلد حرباً وحشية على أفغانستان، راح ضحيتها اًلاف الأفغانيين الأبرياء، بذريعة الإطاحة بنظام طالبان المتهم بإيواء تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن، المتهم بمسؤوليته عن الهجمات الإرهابية. وبعد عقدين كاملين من الغزو والمجاظر المريعة خرجت جيوش أمريكا وحلفاءها من أفغانستان مجللة بالخزي والعار، و لتستمر الحرب الأهية الدامية التي أججوها إلى يومنا هذا.

 وبعد سنتين، قاد وزير الدفاع رامسفيلد حرباَ مدمرة أخرى على العراق، بذريعة "إمتلاكه" لأسلحة الدمار الشامل،من دون إستحصال  إذن من مجلس الأمن الدولي.وأستخدمت القوات الأمريكية الغازية في عام 2003 للمرة الثانية أحدث أنواع الأسلحة المتطورة والأشد فتكاً من أسلحة  اليورانيوم المشعة،والتي طالت المناطق السكنية المكتضة والمستشفيات والمستوصفات والمدارس والدوائر والمحال التجارية، وغيرها. فدمرالغزو البنى التحتية كلياً، وتسبب الإحتلال بإنهيار الدولة العراقية ومؤسساتها.وفاقمت الحرب من الكارثة الصحية والبيئية التي سببتها أسلحة حرب عام 1991، ومن أبرز معالمها: إنتشار الأمراض السرطانية القاتلة، والولادات المشوهة، والولادات الميتة، وعلل مرضية أخرى غير قابلة للعلاج..يقدر إجمالي عدد المرضى المصابين والمتوفين بنحو مليونين.

وتنصل البنتاغون بقيادة رامسفيلد مرة أخرى،وبكل صلافة، من واجباته وإلتزاماته الدولية تجاه المدنيين والبيئة العراقية   ذات العلاقة بالنزاعات العسكرية.

 وعدا هذا، سلمت سلطة الأحتلال العراق ( الجديد) لسياسي الصدفة، وللطائفيين، والفاسدين، والإنتهازيين. ومهدت الطريق لهيمنة المليشيات المسلحة وعصابات اللادولة، والأرهاب والقتل. فسقط  اًلاف الضحايا من المدنيين الأبرياء.ولحد اليوم لا يتوفر في العراق لا أمن ولا إستقرار ولا حياة حرة كريمة..

 لقد ارتكبت خلال فترة قيادة رامسفيلد للحرب على العراق، جرائم  فظيعة. فالى جانب كونه أحد رموز إجتياح العراق وتدميره،، وصاحب نظرية «الصدمة والترويع» التي استخدمت كاستراتيجية إرهاب سياسي في العراق بعد الاحتلال، فهو المسؤول الأول عن الإنتهاكات الفضيعة بحق العراقيين، خاصة في سجن أبو غريب الشهير.فقد كشفت تحقيقات دولية  في عام 2004عن إشراف رامسفيلد بنفسه على أعمال التعذيب ووفق أوامره، للمعتقلين العراقيين والتنكيل بهم بوحشية أثناء الاستجواب والتحقيق فيالسجن المذكور. وهو المسؤول الأول عن تأسيس سجن غوانتنامو سيء الصيت،وأساليب التعذيب فيه،التي هي بأوامر صادرة منه.    

ويتحمل رامسفيلد المسؤولية أيضاً عن التكلفة الجسيمة للضحايا العسكريين والمدنيين في الحرب على أفغانستان والحرب على العراق، بما فيها التكلفة الباهظة لجنود بلاده، إذ قتل 4400 أمريكي.وعدا هذا،هدر مبلغ ضخم تجاوز الـ 700 مليار دولار، مدفوعة من ضرائب الأمريكيين..وقد سميت حروب رامسفيلد  بـ "مستنقع الولايات المتحدة" الذي جيش الرأي العام الدولي والداخلي ضد الإدارة الأمريكية.

 لقد جوبهت سياسات مهندس الحروب الشهير باستنكار شديد وإدانة واسعة، وبإنتقادات لاذعة. وقد لاحقه أمريكيون شجعان في أماكن عديدة، حيثما صادفوه فيها، واصفياً إياه بـ " مجرم حرب"، صارخين في وجهه: "قاتل اَلاف الأبرياء".

 واتهمه بعض الجنرالات المتقاعدين بعدم الكفاءة والغطرسة في إدارة الملفات، ووجهت إليه تهم بإخفاء حقائق الجرائم والأخطاء التي تم ارتكابها في فترة ما بعد الحرب الباردة.وأدانه "مركز الحقوق الدستورية بنيويورك" باعتباره مهندس البرنامج الأمريكي للتعذيب، وسماحه للجنود باستخدام الكلاب وأبشع أنواع التنكيل والإذلال في معتقل غوانتانامو.

 في عام 2006 أجبر رامسفيلد على تقديم استقالته،عقب كشف تقرير لمجلس الشيوخ الأمريكي عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق، ونفى علاقة العراق بتنظيم القاعدة. وتزايدت الانتقادات لرامسفيلد بشأن إدارته للحرب، مبرراً فشله بأن "الحرب على الإرهاب قد أسيء فهمها". وان "الإطاحة بحكم صدام حسين إستحقت كل الجهود المبذولة..:

دونالد رامسفيلد.. رحيل "مجرم الحرب" والمهندس الأول لغزو العراق وأفغ

وحضيت وفاة رامسفيلد بما يستحق. فقد كتب موقع The Intercept عنوانا مثيرا: "وداعا دونالد رامسفيلد مجرم الحرب التافه".ونوه الى "نجاحه في القيام بأمور فظيعة طوال حياته، في حين ظل مبتذلا للغاية"، مشيراً الى  إصداره الأوامر عقب 6 ساعات من اصطدام الطائرة الأولى بالبرج الشمالي لمركز التجارة العالمي، بـ" شن هجمات واسعة النطاق على أهداف ذات صلة وغير ذات صلة. أي أنه، لم يكن- كما يقول الكاتب جون شوارتس، معنيا بشكل خاص بمن هو المسؤول عن الهجمات المذكورة، وإنما أراد مقتل آلاف الأميركيين فرصة مؤاتية للقيام بكل ما تريده إدارة رئيسه جورج دبليو بوش.وفي تلك اللحظة كان رامسفيلد يفعل أفضل ما قام به طوال حياته، ألا وهو تحويل معاناة الآخرين التي لا توصف إلى الغايات المنشودة، التي سولتها له نفسه وحلفاؤه السياسيون"..

 ولفت جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، إلى أن رامسفيلد إعلن في مذكراته، المنطق الذي اتبعه خلال إدارة بوش، مجادلا بقوة بأن تورط أمريكا لم يكسر أفغانستان ولا العراق. وإن حل الفساد في أفغانستان أو بناء ديمقراطية علمانية في الشرق الأوسط ليست مشاكل يجب على أمريكا معالجتها. إنها ليست مجتمعاتنا المحطمة ليتم إصلاحها".

 وذكّرت "التايمز"قراءها بأن هنري كيسنجر- وزير الخارجية    ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، وصف رامسفيلد ذات مرة بأنه "أكثر الرجال الذين قابلهم على الإطلاق قسوة"..

 وكتب المحرر في موقع Daily Beast سبنسر أكرمان: "دونالد رامسفيلد، قاتِل 400 ألف شخص، يموت بسلام".،وقال: "لا تحزنوا على وزير الدفاع الأسبق، احزنوا على ضحاياه. فقد كان هناك عدد كبير للغاية لا يمكن حصره..". وأضاف: إن الأمر المأساوي الوحيد في وفاة رامسفيلد هو أنه لم يمت في سجن عراقي، وهو الذي نجا طوال حياته داخل دوائر الأمن القومي من عواقب القرارات التي اتخذها والتي كلفت نهاية عنيفة ومخيفة لمئات الآلاف من الناس".وقال: "من الصعب وضع قائمة فعلية للوفيات التي كان رامسفيلد مسؤولا عنها، والأوامر كانت تمنع تجميع أعداد الجثث أو الكشف عنها، وهي إستراتيجية علاقات عامة اعتمدت بعد تآكل الدعم لحرب فيتنام".وأضاف: أن لامبالاته تجاه معاناة الآخرين لم تكن فريدة من نوعها بين صانعي السياسة الأميركيين بعد 11 سبتمبر/أيلول، لكن ابتهاجه بها يؤكد الجوهر القاسي للمؤسسة التي يتبعها".

 لقد رحل مجرم الحرب رامسفيلد الى القبر، اَخذاَ معه  لعنة التأريخ الحديث، بوصفه كبير مهندسي الحروب الأمريكية الأخيرة، ولعنة اَلاف المفجوعات والمفجوعين والثكالى والأرامل واليتامى من ضحايا حروبه وأسلحتها الفتاكة..

لكنه، رحل دون ان ينال العقاب العادل.. سألت أحد القساوسة السويديين من المعارضين لغزو العراق وإحتلاله ومن المتابعين لتداعياتهما: ما رأيك بالجرائم التي إقترفها رامسفيلد وفلت من عقاب الدنيا..فهل سيفلت من العقاب في الآخرة ؟

    أجاب: مثل هذه الجرائم لا يغفر لها الرب، والأكيد ان مصير مرتكبها جهنم ..

عرض مقالات: