انتهت المعركة السياسية بين القوى السياسية داخل مجلس النواب العراقي وخارجه حول التعديلات المراد إدخالها على مشروع قانون المحكمة الاتحادية؛ انتهت بإقرار القانون مبدئياً بمعظم مواده بما فيها التي أُدخل عليها تعديلات، إلا أن المجلس أرجأ البت في بعض فقرات مواد القانون وعلى الأخص تلك المتعلقة بعضوية خبراء الفقه الإسلامي في عضوية المحكمة مما يُعد مكسباً أولياً جزئيا للقوى السياسية التي تناضل من أجل مدنية الدولة والحفاظ على طابعها الدستوري الديمقراطي بعيداً عن أي وصاية دينية أو مذهبية أحادية الجانب لا تتفق وطابع الشعب التعددي. ولم تكن المساجلات التي جرت حول هذه المسألة تحديداً هي الأولى من نوعها؛ إذ كانت القوى السياسية الوطنية الديمقراطية متيقظة لخطورة تلك الفقرة (المادة 92- ثانياً) منذ وقت مبكر، فعلى سبيل المثال تقدم النائب السابق رائد فهمي سكرتير عام الحزب الشيوعي في عام 2019 بمذكرة إلى رئاسة مجلس النواب تتضمن مقترحات بنصوص معدلة لبعض فقرات المواد تزيل اللبس والإشكالية حول الفقرات السابقة التي تتنافى وروح الدستور وطابعه الديمقراطي. والحال لم يتزايد الاهتمام بإقرار مشروع القانون اعتباطاً، فمع بدء العد العكسي لانتخابات اكتوبر القادم التشريعية في العراق والمنتظر أن تتم حتماً في ظل ظروف توازنات جديدة مختلفة عن الانتخابات السابقة فرضتها هبة تشرين / أكتوبر الجماهيرية 2019 ضد فساد واستبداد أحزاب الإسلام السياسي الموالية لإيران في السلطة؛ شهدت الساحة السياسية منذ مطلع الشهر الجاري مساجلات حامية الوطيس حول تعديل مشروع قانون المحكمة الاتحادية المطروح على مجلس النواب بتركيبته الحالية المعروفة والقائمة على المحاصصة الطائفية، وقد تمحور الصراع كما أسلفنا حول دور "خبراء الفقه الإسلامي" فيما إذا دورهم استشاري، وهذا رأي أغلب كبار الخبراء القانونيين، أو أعضاء أصليون في المحكمة كسائر الأعضاء، وهو ما يتعارض مع روح الدستور الآخذ بمدنية الدولة وبنائها الدستوري الديمقراطي، ومن المعروف أن قانون المحكمة يخولها المصادقة والنظر في الشكاوى والطعون المرفوعة حول نتائج الانتخابات. وكان من الواضح ثمة رغبة مبيتة من قوى الإسلام السياسي داخل البرلمان وممثليها في الحكومة لتمرير القانون بما يعطي "فقهاءها" حق الفيتو إذا ما تم اعتمادهم كأعضاء في المحكمة لا مُجرد خبراء استشاريين، لكن تلك الرغبة المحمومة لم تمر بسهولة في ظل المناخ الجديد المتولد بفضل التضحيات الهائلة التي قدمها شباب الانتفاضة، فقد تصدت الغالبية العظمى من قوى المجتمع المدني والنقابات والأحزاب المعروفة بتأييدها لمطالب انتفاضة تشرين ضد تمرير القانون بثغراته الآنف الذكر بعضها، ومنها نقابة المحامين ومجلس السلم والتضامن واتحاد الحقوقيين العراقيين، كما أصدرت في منتصف شهر آذار الجاري عشرات الأحزاب الديمقراطية ومعها مئات الشخصية الوطنية والأكاديمية بياناً مشتركا أكدت فيه أهمية ألا يتنافى قانون المحكمة مع النسيج الوطني للشعب العراقي القائم على التعددية الدينية والمذهبية والقومية والسياسية، وهو ما دفع البرلمان جراء الضغوط السياسية والشعبية من خارجه إلى تأجيل المواد موضع الخلاف، وهنا تكمن بالضبط دروس المعركة الأخيرة التي يتوجب على القوى الوطنية والديمقراطية الاستفادة منها فلولا مواقفها المشتركة والموحدة لما أمكن على الأقل تأجيل تلك الفقرات والمواد الخلافية الخطيرة، وهي بلا شك إذ تنتظرها معارك سياسية متعددة مع القوى المتنفذة المتشبثة بالسلطة منذ نحو عقدين والتي لن تتخلى عنها بسهولة؛ حيث كانت ومازالت مرتعاً للفساد والفاسدين باسم الدين، هي بحاجة لرص صفوفها الآن أكثر من أي وقت مضى . 

عرض مقالات: