تمثل جدلية المتغيرات الاجتماعية التي يشهدها العالم، ومن مظاهرها الانتفاضات والاحتجاجات الجماهيرية خلال القرن الحادي والعشرين، واحدة من أهم قضايا الفكر الاجتماعي المعاصر، خاصة ببعدها العالمي، وأيضا لأنها دحضت الحسابات الفكرية عن تلاشي الصراع الطبقي في حقبة الانتصار النهائي للرأسمالية. ولأن مضمون الاحتجاجات يعكس بشكل جلي الأزمات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والفكرية المحتدمة في المجتمعات الرأسمالية المتطورة، أو التي مازالت تعيش مرحلة انتقالية كما في العراق حيث فشل النموذج الديمقراطي الذي فرضه الاحتلال في 2003 والمعتمد على المحاصصة الاثنية والطائفية التي فصّلتها النخب السياسية التي تسلطت بعد الاحتلال الامريكي، على مقاساتها السياسية ومصالحها الاقتصادية. ووصلت الى طريق مسدود تحاول معالجته بالعنف المفرط ضد المعارضين وبأساليب شبه فاشية، أحيانا بقرع طبول معاداة اليسار والشيوعية وتصوير الاحتجاجات كظاهرة عابرة مصنّعة من الخارج تفتقد الى الجذور العراقية. فهي تتنكر لحقيقة أن انتفاضة تشرين الحالية هي امتداد للتظاهرات والانتفاضات التي شهدها العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في 1921 كانعكاس لفعل القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي نتيجة التناقضات المحتدمة في المجتمع العراقي، والتي لم تتولّد بدفع وتآمر خارجي بل في مجرى تطور المجتمع ونضج عوامل داخلية وموضوعية أدت الى اندلاعها. ولكن لانتفاضة تشرين 2019 ميزات خاصة كون أغلب ابطالها من جيل الألفية الذي نما وعيه في ظل الحكم التسلطي الحالي ووصل الى الاستنتاج بأن العيش غير ممكن في ظل الظروف الحالية. وأيضا اختلافها نوعيا عن التظاهرات خلال عقود القرن العشرين، كونها حدثت مع الثورة الرقمية. فقد شهدنا تعاظم الحركات الاحتجاجية في العالم وبدون قيادة واضحة، وكانت أشبه بتسونامي سياسي وتميزت بدور فاعل للشباب فيها والحضور الفعال للمرأة والاستخدام المكثف لمنصات التواصل الاجتماعي وعدم بروز هيكلية قيادية تقليدية برموز واضحة. وشملت هذه الاحتجاجات قارات عدة في امريكا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا واوروبا والشرق الاوسط.

ومن مميزات الانتفاضة عراقياً التحول من الشعارات الجزئية حول القضايا المطلبية الحياتية الى المواقف السياسية الوطنية العامة كي لا تضيع الحلقة الرئيسة وهي الخلاص من الطغمة الفاسدة المتحكمة بالدولة العراقية عبر انتخابات مبكرة حرة ونزيهة عادلة تحت اشراف دولي بعد أكبر عملية تزوير انتخابية في 2018. وجابهت الطغمة السياسية الحاكمة الانتفاضة بشن إرهاب الدولة والقمع المفرط والذي أدى الى استشهاد أكثر من 700 من المحتجين واصابة 30 الفاً بجروح. واُستخدمت الميليشيات لتنظيم عمليات الخطف والاغتيال والقنص.

وكان ملفتا للانتباه في الندوة الحوارية الافتراضية التي نظمتها مجلة “الثقافة الجديدة” في 9 تشرين الأول 2020 حول الانتفاضة أن أحد الاستنتاجات تتمثل في ابتعادها عن الايديولوجيات السياسية والدينية والتنظيم الحزبي التقليدي وعدم بروز رموز قيادية واضحة، بل كانت بحراً متلاطماً من الشباب الغاضب المحتج على سرقة الوطن العراقي. اما تنظيمها الفعلي فهو بنية تحتية من اللجان التنسيقية والمبادرات الفردية التي نمت وتطور دورها وفاعليتها بما ينسجم مع الحاجة الموضوعية اليومية لإدارتها وضمان ديمومتها والحفاظ على سلميتها والتصدي لمحاولة الأحزاب الاسلامية والميليشيات المنفلتة لحرف مسارها وخلق التبريرات لقمعها مثل الهجوم على القوى الأمنية او حرق الممتلكات العامة او الخاصة.

هذا المتغير العالمي في صعود نمط جديد من الاحتجاجات كان موضع انتباه بعض الأكاديميين. فأحد فرسان الحرب الباردة زبنغيو بريجنسكي أشار في 2008 الى أن العالم يستيقظ على ثورات غير مسبوقة يتجلى فيها وعي ونشاط سياسي واسع وعميق. 

وقد فسر بعض المحللين عدم وجود هيكلية قيادية واضحة في هذه الثورات بأنها وسيلة دفاعية من المنتفضين لمنع تشخيص قيادات ميدانية تستهدفها أجهزة القمع والقناصين. لكن هذا هو نتيجة وليس سببا، والذي يرتبط بما يشهده العالم من امكانات جديدة في البنية التحتية للاتصال والتواصل الاجتماعي توفرت للجميع وخاصة الشباب لأنهم الأكثر استخداما للشبكة العنكبوتية التي تحولت الى أدوات في غاية الفاعلية لتبادل المعلومات وتنسيق المواقف السياسية والاجراءات العملية ايضا في تحشيد عشرات الالوف من الشباب. وذلك بالمقارنة بالتنظيم الذي يعتمد على الهيكلية والمركزية ووجود هيئات قيادية تعتمد الاجتماعات كأهم الوسائل لتبادل المعلومات ومناقشة المعطيات واتخاذ القرارات المناسبة وتحويلها الى خطط عملية ومن ثم متابعتها وتقييمها. ولكن بسبب سرعة المتغيرات في الاحتجاجات تطورت أساليب وأدوات للتواصل تتناغم مع الجماهير الشبابية الغفيرة التي تريد لها دورا مباشرا في عملية التحشيد والمشاركة واتخاذ القرارات عبر استخدام المنصات الرقمية التي تطورت فيها وسائل للتنظيم الاجتماعي في كسب وتطوير الوعي الاحتجاجي وتنظيم الدعاية والتحريض.

وقد تناول هذا الموضوع الدبلوماسي البريطاني السابق كارني روس الذي استقال من منصبه كممثل بريطانيا في الامم المتحدة احتجاجا على السياسة البريطانية، وخاصة موقفها من شبهات وجود اسلحة دمار شامل لدى النظام العراقي السابق. وأصدر كتابا بعنوان “ثورات بلا قيادة “، قدم فيه تحليلاً لظاهرة عولمة الاحتجاجات ودور الشباب والتكنولوجيا الرقمية، والتي برزت على شكل ثورات وانتفاضات اتسمت بعدم وجود هيكلية قيادية تقليدية، وأيضا عدم وجود أطر وضوابط كالتي سادت في الحركات الفوضوية في القرن التاسع عشر. الاّ أن الفكر السائد في احتجاجات القرن الحادي والعشرين هو يساري نتيجة الوعي المجتمعي العالي وقوة التضامن العالمي. وقد طور كارني روس برنامجا من تسع نقاط يتيح للمواطن أن يمتلك المبادرة في هز النظام السياسي وإن لم تفلح في تغييره.

وأشار روس في كتابه الى أن الثورات بدون قيادة في القرن الحادي والعشرين تعتمد على المبادئ التالية:

  1. طبيعة ودور التواصل الاجتماعي الرقمي وخلق ديناميكية تضم الجميع يتحول فيها الفرد الى جمهور وحركة مستمرة، ويجعلها أكثر شعبية ويعطيها مشروعية ومقبولية واسعة. وتأتي قوتها ليس في وجود ضوابط وقواعد تنظيمية صارمة بل في قدرتها على تجميع الأصوات المخلصة ونشاطها الصادر من القلب الذي لم يمسه الفساد ودافعه الشعور بالظلم والحيف.
  2. الأهم هو الأفعال وليس الأقوال.
  3. إتباع آلية تشاركية في النقاش واتخاذ القرارات تشمل كل من لهم مصلحة في تغيير الواقع.

فعندما تفشل الأدوات البرلمانية في تحقيق مهماتها يجب أن تعود مهمة اتخاذ القرارات الهامة الى اصحابها الشرعيين وهم الشعب. وقد شهدنا ذلك في بعض المحافظات العراقية في اجبار مدراء دوائر على الاستقالة ومحاصرة مركز المحافظة. الاّ أنها ذات طابع اعلامي ولا تؤدي الغرض، وهو المس بالواقع الحكومي التنفيذي المحلي. والبديل هو تشكيل إطار ظل يقوم بدور المراقبة والإشراف على نشاط الجهاز التنفيذي، وخاصة في حالة انهيار الواقع الإداري. ومن خصائصها انها تشيع الروح التشاركية وهي التي تحدد الشعارات المطلبية الجزئية. أي أنها رديف للتنسيقيات وليست بديلاً لها.

هذه الاحتجاجات تهز السلطة وتسهم في اصلاحها، الاّ أن الإطاحة بالنظام السياسي قد يتطلب تحويلها إلى ثورة واستخدام العنف المسلح (لأن الاحتجاج هو عنف سلمي) وخاصة عندما يتصاعد قمع السلطة الوحشي، وقد يصبح آخر الخيارات بعد استنفاذ كافة الأساليب السلمية. لكن هذا الانتقال الى الثورة والعنف اللاسلمي خطير جدا، بل ان النظام التسلطي يدفع الاحتجاجات نحو ذلك كي تسهل مهمة الانقضاض عليها. وهذا ما تقوم به مثلا “الجيوش الالكترونية” في العراق، التي تحاول ان تثير حالات من الإحباط والغضب وروح الانتقام وتشكل ضغطا في خيم الاحتجاج نحو حمل السلاح. ولكن للثورة المسلحة شروطها وقوانينها وآليات تنظيمها وظروف موضوعية وذاتية ناضجة لإشعالها وتتطلب أشكالاَ أرقى أخرى من التنظيم كي يتسنى لها النجاح. فالحذر كل الحذر من التسرع، بل إتباع سياقات التصعيد السلمي المتواصل وتطوير مبادرات جديد.