يكتسب موضوع المؤسسة العسكرية في العراق وظروف نشأتها وتكوينها، والأزمان والمهمات والتغييرات التي ارتبطت ببنيتها وتكوينها ومهماتها أهمية استثنائية اليوم حيث يدور صراع محتدم حول شكل الدولة وبنيتها ووظائف مؤسسات السلطة في الفترة القادمة.

ومن أجل الوصول لاستنتاجات ومقاربات وجدوى فكرية تساعد في فك جدلية التشابك بين مؤسسة القوات المسلحة العراقية (الجيش) وما نشأ وترعرع من مؤسسات عسكرية نظامية وغير نظامية أخرى موازية لها، وفي أزمان وأسباب متباينة ومن قبل جهات ومصالح مختلفة، حيث يفترض الفهم النظري للمصطلحات والمفاهيم وبالاستناد الى ما تجود به تجربة الماركسية والحركات الثورية وأدوات التحليل العلمي.

في المنجد اشارة لتجيش القوم بمعنى تجمعوا أي أن الجيش جماعة. وحين تتجيش هذه الجماعة أو القوم فأنها تمثل الجيش، والملاحظة الأبرز هنا هي موضوع التحشد والتجمع..

والجيش Army يعني القوات المسلحة لدولة ما، وهي مشتقة من كلمة لاتينية Arma.

وما يفرق الجيوش عن الجماعات المسلحة أو ما يعرف بالمليشيات هو أن تسمية الجيوش ارتبطت تاريخيا بالدول والبلدان وبمهمات حماية هذه البلدان من العدو الخارجي بالأساس وأيضاً بمهمات الحفاظ على أمن البلاد داخليا إذا تطلب ذلك، بعكس الجماعة المسلحة أو المليشيا والتي يمكن حتى لشخص ذي نفوذ ومال وسلطة من تكوينها وتسليحها وتجييرها لخدمة مصالح وأهداف محددة، وأحيانا تكون هذه المليشيات معارضة لجيش الدولة، وأحيانا أخرى تأتمر بإمرته وتنفذ نفس واجباته. ويشترك الجيش والمليشيا Milita- Miles في صفة مشتركة وهي امتلاك وحمل السلاح إذ ان المليتير أو رجل المليشيا هو شخص مسلح ومحارب يقوم بذلك مقابل ثمن أو راتب او دون ذلك لأسباب عقائدية أو وطنية، وبعد تخليه عن صفته المدنية والتحاقه بالواجب العسكري المؤقت.

كانت مواقف الشيوعيين من الجيش تتمثل باحترام افراده والدعوة لعدم تحقير صغار الضباط والجنود، ومحاولة حصر مهمات الجيش بقضايا الدفاع عن الوطن وعدم اقحامه بأجندات ومصالح سلطة هذا البلد أو ذاك.

من الممكن للجيش والقوات المسلحة تبني مواقف وطنية وتكون في الصدارة، كما في ثورة تموز 1958 حين تلاحمت قوى العسكر مع جبهة الاتحاد الوطني في اسقاط الديكتاتورية، او في ثورة اكتوبر البلشفية 1917 حين تلاحم الجنود مع العمال، ويوم صحت فكرة لينين ومعارضته لشعار ابعاد الجيش عن السياسة باعتباره يخدم القيصر والبرجوازية.

المليشيا أو التنظيم المسلح أو الجماعة المسلحة، هو جيش يتشكل عادة من قوات غير نظامية، ويمكن أن تكون تابعة للجيش النظامي أو الأحزاب والحركات السياسية، أو قوات جهوية او دينية وفي حدود جغرافية محددة، وعادة ما يكون كتنظيم شبه عسكري يتشكل وينمو في مناطق التوتر والحروب والصراعات.

دائماً ما يقترن مفهوم الجيش بالدولة ومؤسساتها، وطالما أن نشوء الجماعات والدول قديم جدا، فأن الجيوش بأشكالها البدائية ارتبطت مباشرة بهذه الحقب من التاريخ..

وهناك رأي يرى أن أول من ابتدأ بفكرة العسكرة والتجييش هو حمورابي سادس الملوك البابليين حين دعا الى عسكرة المجتمع وفرض التجنيد الالزامي.

وقديما نص دستور سويسرا في 1798على تكريس مبدأ جيش المواطنين وحظر وجود قوات عسكرية، أي بمعنى ان الجيش السويسري قد نظم وفقاً لنظام الجماعات والمليشيات، وأن يأخذ كل فرد من المجتمع دوره ومهماته المحددة في الدفاع عن الوطن..

والذي يتمعن في البدايات الأولى لنشأة وتاريخ تكون الولايات المتحدة الأمريكية يلاحظ موضوع الحرية بامتلاك السلاح عند الافراد والجماعات وبشكل واسع ولسبب حماية هذه المجموعات التي بدأت بالتشكل وكونت دولة امريكا المتحدة لاحقا، وأيضا حتى اليوم هناك انتشار لاحدود له للسلاح عند الأفراد وحتى عند عدد من المجاميع التي تتمرد بهذا الشكل أو ذاك على الدولة، ولكنها مسيطر عليها ضمن حدود وسلطات الدولة.

وفي ايام الحرب العالمية الثانية وفي فترة حكومة فيشي في فرنسا في اربعينات القرن الماضي وبمساعدة الغستابو الألماني تأسست منظمة ارهابية مليشياوية مسلحة لمطاردة مناضلي المقاومة الفرنسية المناهضين للاحتلال الألماني، وقد تميزوا بارتدائهم الرداء الأسود.

وطالما تعتبر الدولة ومؤسساتها شكلا من اشكال البناء الفوقي حسب توصيف الماركسية، فأن الجيش كمؤسسة من مؤسسات الدولة أو من مؤسسات القوى والجماعات التي تنشئه، ومعه كل التشكيلات العسكرية النظامية وغير النظامية، يبقى هو أيضا ضمن توصيفات البناء الفوقي، وغالباً ما يكون الاداة التي تستخدمها السلطة من أجل تكريس مصالحها وحسب نوعية وشكل الحكم فيها.

وبما أن فكرة المادية التاريخية تشير الى أن البناء الفوقي للمجتمع هو نتاج بناءه التحتي، فان فهم أشكال ومهمات الجيوش وادوارها، يفنرض ان يستند لشكل العلاقات الاقتصادية ووسائل الانتاج ومستوى تطوره والقوة العاملة في هذا البلد أو ذاك..

عبر الرجوع الى التشكيلات الأولى للجيش العراقي في 1921، يتوجب علينا التوقف عند الدور الذي قام به الانكليز في تكوبنه والمهمات التي انيطت به والتي لخصوها في الدفاع عن مصالح المستعمر في تلك الحقبة، ولكن هذا الدور لم يرق للضباط الوطنيين فيه والذين عبروا بأشكال مختلفة عن التمرد والروح الوطنية ومناهضة المستعمر، والتي توجت لاحقا في ملحمة ثورة 14 تموز وإنهاء حلف بغداد والتبعية الأجنبية.

 الغريب أن الفوج الأول الذي شكل نواة تأسيس الجيش العراقي سموه (فوج موسى الكاظم) تيمنا بأحد أئمة الشيعة موسى الكاظم، في الوقت الذي استند تكوين هذا الجيش على ابناء الطائفة السنية ومنهم عدد من الضباط الكورد السنة والتركمان، وكانت هذه خطيئة مبرراتها ضعيفة بالنسبة لابتعاد الشيعة، ومنها الدعوة لتقديم أهمية المقاومة الشعبية للمحتلين الإنكليز على فكرة الانخراط في جيش نظامي، وبسبب فتاوى علماء الشيعة بعدم السماح لأبناء الطائفة الشيعية بالانخراط في الجيش، والذي ترك أثاراً كبيرة على تركيبة الجيش. ويمكن الاستدلال على ذلك من تركيبة الضباط الاحرار الذين نفذوا ثورة 14 تموز، اذ لم تضم صفوفهم سوى ضابط شيعي واحد هو العميد الركن ناجي طالب. هذا الموضوع لعب دورا مضراً لاحقاً حين استخدمه الديكتاتوريون والحكام كورقة في تأجيج الصراعات الطائفية وفي تبني وتأييد مواقف العدوان والحروب الداخلية والخارجية بحجج ديماغوجية.

في الفترة بين تأسيس الجيش العراقي 1921 وحتى ثورة 14 تموز 1958 لم تشهد البلاد قيام مجاميع مسلحة بالشكل الواسع، عدا الحركة المسلحة للكورد المطالبين بالحقوق القومية والذين تمتد حركتهم لبدايات القرن الماضي، وهي امتداد لحركة سياسية شاملة مطالبة بالحريات والحقوق.

وإذا كان السلاح يمثل موضوعاً مهما في تكون المجموعات المسلحة، فأن حيازة عدد كبير من الأغوات والإقطاعيين في أرياف العراق على السلاح، هم وعدد من حاشيتهم، كان بمثابة الحاضنة الجنينية الاولى لتكريس فكرة المجموعات والجهات المسلحة والميليشيات، وتحت سلطة هذا السلاح كان يمكن لهم التحكم في فرض الضرائب والأتاوى على الفلاحين، وعصيان الدولة في أحيان أخرى.

في الأول من آب 1958 سمح عبد الكريم قاسم بتشكيل المقاومة الشعبية، وربطها مباشرة بوزارة الدفاع، ويعني هذا عمليا ارتباطها به شخصياً.. حركة المقاومة الشعبية يمكن اعتبارها اول جماعة شعبية مسلحة في التاريخ العراقي المعاصر خارج أطار الجيش تكونت بأهداف وطنية محددة ومعلنة. ورغم الاختلافات في تقييمها ارتباطاً بتشابك الأحداث في تلك الفترة، فأن رصيدها الشعبي والوطني في الدفاع عن الجمهورية ومكتسبات ثورة 14 تموز مشهود له، وأسهمت في نشاطات وفعاليات اجتماعية، وارتبطت بعلاقات جماهيرية مع باقي قطاعات الشعب.

حركة المقاومة الشعبية كانت في الاساس فكرة الشيوعيين العراقيين وقد تكونت فعليا في 15 تموز 1958 حين وجه الحزب الشيوعي العراقي تعميماً داخليا لرفاقه في التنظيم يدعوهم لأن تكون المقاومة الشعبية كنوع من السلطة الشعبية وأن تركز على طلب السلاح من الدولة وكذلك المدربين العسكريين وان تكون توجيهات الحزب اجبارية بالنسبة لكل أجهزة الدولة.

ويرى حنا بطاطو في كتابه (الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار) ان فكرة المقاومة الشعبية شيوعية وكان الحزب يريدها بعيداً عن سلطة قاسم والأجهزة العسكرية الحكومية، وتقاد مباشرة من قبل هيئاتها وبإشراف مباشر من الحزب، ولكن عبد الكريم قاسم حاول شرعنتها بقانون وضمها لوزارة الدفاع وصار هو القائد الفعلي لها، ولم يسمح بحيازة منتسبيها للسلاح اذ فرض تسليمه بعد انتهاء الوحدات التدريبية.

العبرة هنا أن الظروف السياسية المحتدمة بعد تموز 1958 جعلت من الصعوبة للجيش أن يقوم بمهماته الوطنية في الحفاظ على الثورة والجمهورية والتي يفترض أن ينهض بها لوحده ودون الحاجة للمساعدة، وهو ما دعا لتشكيل تشكيلات المقاومة الشعبية، والتي اتخذها اعداء ثورة تموز والجمهورية ذريعة لتشويه صورة قاسم والشيوعيين وبتهم باطلة ومفبركة.

ورغم أن اهداف وظروف وجوهر فكرة تشكيل المجموعات المسلحة قد اختلف في فترة تولي حزب البعث للسلطة، عن فترة قاسم والمقاومة الشعبية، فأن التشابه ظل قائما في موضوع شرعنة (الحرس القومي والجيش الشعبي وفدائيي صدام والفتوة والشباب) بقوانين وخضوعها للأجهزة السلطوية الحكومية ولقيادة القائد والديكتاتور.

وهنا تصح الفكرة التي تقول بأن جميع الجماعات التي تشكلت قبل نيسان 2003 كانت خاضعة مباشرة لسلطة الحكومات والتي تشكلت بعد 2003 كانت غير تابعة مباشرة للدولة، رغم أن عدداً منها كان يتبع مباشرة لعدد من القوى والأحزاب الممثلة في الحكومة.

سلطة بريمر حاولت شكلياً وعبر قانون ادارة الدولة 2004 منع تشكيل ميليشيا أو مجموعة مسلحة غير خاضعة لإدارة الدولة، ولكنهم فعليا قد غضوا النظر في موضوع انتشار السلاح وتسربه وحيازته وللمجموعات التي بدأت التشكل بعد قرار حل وتسريح الجيش العراقي.

الدستور العراقي المقر في 28 كانون الثاني 2005 حظر تشكيل المجموعات المسلحة خارج أطار القوات المسلحة، لكنه لم يشر عملياً الى الموقف من الجماعات المتشكلة أو الدعوات لحلها. كما ان الدستور قد أضفى الشرعية على قوات البيشمركة (الأمر الاداري 91 لسنة 2004) ولم يعتبرها كميليشيا وعبر تضمين ذلك في النص الذي يشيرالى اختصاص سلطة الاقليم في انشاء وتنظيم قوى الأمن الداخلي للإقليم كالشرطة والأمن وحرس الحدود، وصارت البيشمركة كقوات نظامية لحرس الحدود ضمن إطار الإقليم.

من الناحية العملية فان قوات البيشمركة لم تتوحد في ادارتي السليمانية وأربيل، وظلت عمليا بآمرة وقيادة الحزبيين الكورديين الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني المتحكمين في سلطتي أربيل والسليمانية، وهذا لا يبخس الأدوار البطولية التي قامت بها قوات البيشمركة التي كلفت بها في مقاومة داعش والذود عن حمى الإقليم والعراق، ويبقى موضوع اطلاق تسمية مجموعة مسلحة أو ميليشيا مرتبطاً بظروف وتاريخ وخصوصية منطقة كوردستان العراق، والمهمات النضالية التي اضطلعت بها هذه الحركة تاريخيا، وهذا الموضوع يظل مرتبطاً في المستقبل بمدى استقلالية مؤسسات الدولة عن السلطة، والاستقلال الكامل لأي قوات عسكرية عن الأحزاب والقوى السياسية وانحصار خضوعها ومرجعيتها للدولة فقط..

يستند الكاتب زهير الجزائري الى فكرة صائبة تماما وهو يفسر أسباب نشأة وبروز المجموعات المسلحة ومفادها ان (العسكرة بالنسبة للبعث كانت هدفاً بحد ذاته لإخضاع المجتمع لانضباط الثكنة اضافة لانضباط الحزب، كما أن المجموعات التي توحدت قسريا تحت راية البعث والحزب القائد، تفككت بعد سقوط الحزب وعادت الى مرجعياتها الأولى، القبلية، الإثنية، الدينية، الطائفية)، ومع توزع المرجعيات توزع سلاح السلطة عند الطوائف والأحزاب ومعهم عصابات المجرمين العتاد الذي أطلق البعث سراحهم قبل الحرب وبشكل خبيث ومقصود.

وهذا التشخيص في الصميم (لم تكن المليشيات وليدة الفراغ الذي تركته دولة البعث، انما ولدت من رحم دولة البعث، معها، وضدها في الآن نفسه) ومعها، وهو ما يعني أن مؤسسات البعث القمعية وسلطته وجيشه من جهة والجماعات المسلحة والمليشيات التي عارضت حكمه كانت الوعاء الذي تخمرت وصارت ونشطت فيه نلك الجماعات لاحقاً، وكان المجرمون قد عهدوا ايضا للعشائر بالتسلح للدفاع عن مناطقها لاستمرار موالاتهم للبعث والسلطة، وكان هذا يعني عملياً تكدس قدر هائل من السلاح بيد العشائر والشيوخ.

الدول التي لها حدود جغرافية مع دول اخرى تجني من ذلك الخير في العلاقات والتبادل الاقتصادي والمنفعة، ولكن في العراق الذي له حدود جغرافية طويلة مع ستة جيران، لم يكن الأمر هكذا في حدود كثيرة، خصوصا مع انعدام الديمقراطية لحقبة طويلة واضطرار قوى وأفراد المعارضة العراقية للعبور واللجوء لهذه البلدان المجاورة ومن ثم اقامة جسور من العلاقات مع السلطات الحاكمة في هذه البلدان وبما فيها الحصول على المال والسلاح والذي سيؤدي لاحقاً بهذا الشكل أو ذاك الى ارتهان وامتهان سياسة هذه القوى المعارضة مع ما ترتضيه مصالح هذه الدول، وتبين تأثير ذلك بشكل واسع بعد اندحار فاشية البعث في 2003 ومجيء المحتل وبداية انتقال رجال ومسلحي المعارضة الى الارض الأم وهم مثقلون بأوزار الولاء والتبعية...

لقد تشابكت عوامل مختلفة دينية وعشائرية وقومية ومناطقية ومذهبية ووطنية، في تشكيل ونشأة المجاميع المسلحة في العراق، وصار من الصعوبة الفرز بين مواقفها الوطنية المتمثلة والظاهرة في محاربة ارهاب داعش والدفاع عن حدود الوطن، وبين تنفيذها لأجندات خارجية مضرة بالمصلحة الوطنية وعلى حساب تطور البلد باتجاهات مدنية ووطنية.

رغم التأثير الكبير للتدخل الاقليمي والخارجي في الشأن العراقي والمتمثل في دول مجاورة وغيرها ( إيران، أمريكا، السعودية ودول الخليج، تركيا اسرائيل)، وبشكل سافر بعد نيسان 2003، يبقى الوضع الداخلي هو الحاسم، ومجريات الصراع الداخلي الوطني ومصالح الطبقات والجماعات كان على الدوام المقرر والمسبب لنشوء وتكون الجماعات والمليشيات كأذرع مسلحة للدفاع عن مصالح القوة التي تبنتها وكمصدر لتدفق المال واستمرار السلطة، وان أي حل مدني ووطني لاحق يهدف لترصين وتقوية المؤسسة العسكرية والدخول الطوعي لكل الجماعات المسلحة افرادا ومجموعات فيها، ينبغي أن يكون وطنياً، ولا ينتظر أو يستند لتغييرات في تركيبة وشكل أنظمة الحكم في الدول المجاورة أو غيرها، وهي مهمة شعوبها أولا وأخيراً..

دعوة السيد السيستاني للجهاد الكفائي ضد داعش وحماية بغداد ومدن العراق، ورغم انها شملت كل افراد الشعب العراقي، ولكنها ترجمت كفتوى دينية من قبل المريدين والمقلدين للفقهاء في العراق، وكانت الاكثرية من المتطوعين فيها من الطائفة الشيعية وفي أوساط الشباب ولأسباب مختلفة وطنية ودينية ومذهبية واجتماعية وبسبب الفقر والبطالة، وكان حضور المدنيين والشيوعيين فيها محدودا جدا رغم أن الوطنية والحماس للدفاع عن الوطن ومقارعة داعش لم يكن أقل شأنا عند المدنيين من سواهم، وربما يكون هذا العامل قد ساهم في تقوية صفوف الجماعات المسلحة المليشياوية الطائفية عسكريا ومعنويا وغطى في حدود معينة على الممارسات والانتهاكات التي قام بها عدد منها وعبر تسلطها وانفرادها بعيدا عن سلطة الدولة، وجعلها من لون واحد هو الصبغة الشيعية... وقد ساهم نشوء عدد جديد من المليشيات والجماعات المسلحة وسط المسيحيين والشبك والايزيديين والتركمان والسنة وغيرهم الى تقوية وتعزيز محاصصة الدولة وتكوينها الطائفي اللامدني، وهذا ما كانت تشجع عليه الأحزاب المتحاصصة الكبيرة والمتنفذة لتقوية وتعزيز كيان التحاصص على جميع الرقعة الوطنية..

ان فكرة اتخاذ ارض العراق مكانا للصراع بين امريكا وإيران سيظل يغذي وينمي فكرة استمرار وجود المليشيات بكل الوانها الشيعية والسنية، وغيرها، وكانت العملية العسكرية التي استهدفت الشخصية الأولى في قوات الحشد الشعبي المنضوي ضمن تشكيلات القوى المسلحة العسكرية العراقية ابو مهدي المهندس، وفي ارض عراقية، وهو كان قد انضم مع عدد من مجاميع الحشد الشعبي ضمن اشراف القوات المسلحة، وان لم يكن ذلك بشكل كلي، سوية مع شخصية اخرى لدولة جارة للعراق  تتعادى مع الأمريكان، مقصودة ومحددة الأهداف، ومن اجل اطالة أمد عدم الاستقرار في العراق والمنطقة، واستمرار الحاجة للسلاح والحماية.

مع استمرار الاستيطان الاسرائيلي وعدم الاعتراف بحق الدولة الفلسطينية تبقى القضية الفلسطينية قائمة، وعلى ضوء ذلك تستند عدد من القوى والأحزاب والدول على فكرة المقاومة المسلحة المشروعة، ومنها إيران وحزب الله وعدد من القوى والمجاميع الميليشياوية في العراق، ومن الصعوبة فك الاشتباك بين اهداف هذه القوى في مواقفها المقاومة المعلنة، وبين هدفها في نقل الصراع من اطاره الوطني كما في إيران، أو تنفيذ اجندات خارجية كما يخص حزب الله اللبناني وحركة حماس. هذا العامل يمس بالصميم العراق الذي يحادي جغرافيا إيران وسوريا والأردن وبما يعني ذلك عملياً وجود جماعات مسلحة عراقية تنخرط في هذا المشروع وحيثياته، وهي تلبس من لبوس الوطنية والمقاومة للتغطية على أجنداتها الأخرى.

لقد جرب الشيوعيون في حزب تودة (الشعب) الشيوعي الايراني العمل السياسي وكتجربة سياسية مع الاسلام السياسي تكاد تتشابه في جوانب معينة من تجارب الشيوعيين في السودان والعراق ولبنان، وخصوصاً في ما يخص تشابك الجوانب الاجتماعية السياسية بالجوانب الدينية، كما يشير سكرتير الحزب السابق نور الدين كيانوري، ويمضي الى أن الاشكال الدينية لاحتجاجات الشعب قد دلت على شعبية قصوى، وهو ما يعقد المشهد ويضيف المزيد من التشابك، وخصوصا في مواقف فقراء الناس من هذه القوى.

وفي هذا الشأن يشير المفكر الايراني والقيادي الشيوعي الفقيد احسان طبري الى التشابه بين البرنامج الاشتراكي للتغيير الاجتماعي مع برامج الاسلاميين في ما يخص العدل والمساواة والروح الجهادية، وهو ما يفرض حسب وجهة نظره الامكانية والضرورة للتقارب والوحدة، وهنا يتم الاستناد للمقولة التي توضح أن الأمر المهم بالنسبة للاشتراكيين هو قبول الناس لبرنامج التغيير الاشتراكي، لا أن يكونوا ملحدين..

في قضية الدفاع عن الوطن ضد مجرمي داعش والبعث ومن تحالف معهم، قدم الحشد الشعبي تضحيات كبيرة وشهداء سوية مع القوات المسلحة وقوات البيشمركة وعموم المتطوعين من افراد الشعب، وهذه المواقف يفترض أن تتعزز اليوم في الحرص على ان يكونوا فعليا ضمن المؤسسة العسكرية وأن ينحصر الولاء بالوطن والشعب، وعبر الابتعاد عن اي مهمة داخلية تخص الموقف والرأي لهذا الحزب أو المجموعة.

في بلد متعدد القوميات والأديان والطوائف كالعراق يكمن الحل العملي لمعضلاته ومشاكله وصراعاته عبر قيام نظام حكم مدني وطني ديمقراطي يستند على اسس المواطنة والذي لا يتعارض مع تامين مصالح وحقوق  هذه الجماعات ووفق قانون ودستور باتفاق الجميع، وبدون ذلك سيستمر هذا التطاحن والتشابك في ظل سلطات تتحاصص وتتقاسم شؤون البلد وتوزع ما يرد من دخله الوطني الريعي وفق هواها ومصالحها، وستكون في حاجة دائمة لاستمرار ذلك الى السلاح والمجموعات المسلحة والميليشيات، وسيبقى التكوين التحاصصي والمكوناتي للدولة مضعفا لجيش الدولة الوطني وحاضنة كبيرة لنمو المجموعات المسلحة المدافعة عن المكونات لا عن الدولة.

فكرة حصر السلاح بيد الدولة وإعادة هيكلة القوات المسلحة وإبعادها عن الولاءات الجانبية، تبقى ضرورة ملحة ووطنية وتحتاج الدعم والتحشيد دوما، ويفترض ان تجسد بآليات معينة في ما يخص العلاقة مع فصائل الحشد الشعبي وضرورة ان يكونوا ضمن القوات العسكرية مع استمرار التثقيف والوعي وسط صفوفهم بمواضيع الوطنية وضرر وخطر فكرة الارتباط بالأجنبي على حساب المصالح الوطنية.

كما يفترض الوعي والحذر واليقظة من كل الدعوات التي تريد افتعال صدام مسلح ومعارك وهمية بين القوى المدنية والقوى الدينية، وعدم تشجيع وتأييد الأفكار التي تدعو للحط من الأديان والطوائف والمعتقدات والعتبات والجوامع والكنائس والحسينيات، لن ذلك يصب عمليا بتغذية حاضنة المليشيات ويعطي المبررات لمن يتبناها لفكرة ضرورة بقائها.

مع اتساع الاحتجاجات وتنامي انتفاضة الشعب الباسلة ودخول افراد وقوى سياسية مختلفة الى صفوها ومنهم قوى محسوبة على أحزاب السلطة وغيرها، يفترض الحذر والانتباه الى ما تقوم به هذه القوى من تصفية للحسابات والخلافات في ما بينها وتحت عناوين الانتفاضة والوطنية، وتحاول أن توحي للرأي العام بأن بعض ممارسات تطاحنها الفكري والسياسي والعسكري هو استهداف للانتفاضة والمنتفضين.

عند التفكير في الحلول الموصلة لإنهاء وجود المليشيات خارج سلطة الدولة، والجماعات المسلحة، يفترض الرجوع الى البيئة الأولى والجذور والتربة التي احتضنت هذه الغروس الطالحة ومحاولة معالجة الاسباب والعقد التي ولدتها.

مصادر البحث

- حنا بطاطو/ الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار

- جوجل/ مواقع ويكيبديا.

- مركز برق للأبحاث والدراسات/ العراق دولة المليشيات

- نزار السهلي/ كاتب فلسطيني/ كيف ساهمت الدولة في ولادة المليشيات وتنشئتها.

- عبد الجليل سليمان/ صحفي سوداني/ من هم الجنجويد؟

- محمد الساعدي/ نظرة في واقع التنظيم القانوني لدمج المليشيات العراق كنموذج.

- زهير الجزائري/ الارهاب والجماعات المسلحة والمليشيات/ث ج 319/عام 2006

- نور الدين كيانوري/ تودة وتجربة الثورة/ ث ج العدد 117 العام 1980

- احسان طبري/ الاشتراكية والإسلام ث ج العدد 117 السنة 1980

- هاشم نعمة/التطرف الديني..جذوره الفكرية وابرز تجلياته/ ث ج 378-379 السنة 2015

- لفارس جربوع/العسكريون والمدنيون وصراع السلطة/ جوجل.

- بعض نشرات وبيانات الحزب الشيوعي العراقي.

عرض مقالات: