قامت عالمة الاقتصاد البريطانية السيدة نورينا هيرتز بتشريح جسد النظام الرأسمالي العالمي في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ونشرت نتائج هذا التشريح في كتاب حمل عنواناً لافتاً (السيطرة الصامتة، الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية) وقد صرحت علناً أنها سعت الى أن يكون هذا الكتاب نصيراً للشعب والديمقراطية والعدل الاجتماعي. وتريد من خلال كتابها هذا أن تمتحن التبرير الأخلاقي لتلك الرأسمالية التي تشجع الحكومات على بيع مواطنيها، وتسعى إلى أن تظهر كيف أن السيطرة الصامتة التي يمارسها أصحاب رأس المال على الحكومات والهيئات الاجتماعية تعرّض الديمقراطية للخطر.       

تؤكد المؤلفة أن كتابها لا يراد منه أن يكون ضد اقتصاد رأس المال. إذ من الواضح أن الرأسمالية أفضل نظام لصنع الثروة. وقد عملت التجارة الحرة وأسواق رأس المال المفتوحة على إيجاد نمو اقتصادي غير مسبوق استفاد منه معظم سكان العالم، إن لم يكن جميعهم. كما أنها لا تنوي أن تمجد الحكومات، مع قناعتها أن على الدول أن لا تفقد الدور الاجتماعي الذي وجدت من أجله، لاسيما الآن حيث تنطمس الحدود بين النشاط التجاري والحكومة، وتنعدم القيادة السياسية ذات الإرادة الصلبة، مما يؤدي إلى اتساع الهوة بين من يملك ومن لا يملك.

من جهتي أشكر الكاتبة لأنها استطاعت كسر هذا الصمت ولا أطالبها بما لا تستطيع. فلو ذهبت أبعد من ذلك لتعرضت للنهش من قبل وسائل الإعلام التي يسيطر عليها أصحاب رأس المال. وهذه السيدة الاقتصادية بريطانية الجنسية وتعرف قواعد اللعبة جيداً. هذا هو عالم السيطرة الصامتة، العالم صبيحة العقد الأول من الألفية الجديدة، حيث أيدي الحكومات تبدو مقيدة، واعتمادها على الشركات في ازدياد، والمؤسسات الصناعية والتجارية هي التي تتولى عملية القيادة.

لقد تسارع نمو هذه الشركات مع نهاية الحرب الباردة بشكل هائل، وأصبحت الشركات الكبرى تتحكم بمصائر الدول. ورغم عدم اعتراف الحكومات بهذه السيطرة فإنها تجازف بتحطيم العقد الضمني بين الدولة والمواطن الذي هو أساس المجتمع الديمقراطي. وقد امتدت هذه السيطرة عبر الولايات المتحدة إلى أوربا الغربية، وشملت دول أمريكا اللاتينية والشرق الأقصى حيث غدا الناس أقل ثقة بالمؤسسات الحكومية الآن مما كانوا عليه قبل عشرات السنين. ويتجلى هذا في تراجع نسب المقترعين في الانتخابات العامة، وقد لا يكون من العجيب أن يدير جمهور الناخبين ظهورهم لسياسات تقليدية حتى في بلدان تعلن بأن الديمقراطية هي واحدة من أعظم إنجازاتها عندما تكون الحكومة فيها غير مستعدة أو غير قادرة على أن تتدخل إلى جانب مصالح مواطنيها.

لم يشهد التاريخ الحديث مثل الهوة الحالية التي تفصل بين الفقراء والأغنياء، ولا هذه الأعداد من المستبعدين، أو الذين لا نصير لهم. وتتجاهل الحكومات مواطن الضعف في هذه الرأسمالية التي تسهم في إفقار قسم كبير من الناس وتدفع بهم نحو البؤس والفاقة. وهذه الحكومات يزداد عجزها عن معالجة نتائج أنظمتها بسبب إجراءات السياسة التي تطبقها. ولم تستطع الحضارة الغربية، حتى الآن وبعد مرور ثلاثة قرون، أن تستوعب تنويرية الفكر الأوروبي التي سبقت الثورة الفرنسية. وهذه الثورة لم تكن إلا صدى واحدا مما كان ينتظر أن تتركه كتابات فولتير وروسو وغيرهم من منوّري القرن الثامن عشر. ألا نرى من يحكم العالم؟ هل هم تلاميذ روسو وفولتير أم أحفاد شارلمان وريتشارد قلب الأسد؟

إننا نقف اليوم، تقول الكاتبة، في مفترق طرق حرج. فإن لم نعمل شيئاً، وإذا لم نتحدى السيطرة الصامتة، وإذا لم نمتحن نظام اعتقادنا، وإذا لم نعترف بذنبنا في خلق نظام العالم الجديد هذا، فإن كل شيء سيذهب هباء. إن الوصول إلى عالم أفضل شيء ممكن، عالم مساواة أكثر وعدالة أوفر وديمقراطية أوسع. إن أوضاع من حرموا من الحقوق الانتخابية الحقيقية نتيجة سيطرة أهل الثروة والجاه على مقاعد البرلمان واستخدامها من أجل مصالحهم الخاصة تكشف عن فقدان البرلمان دوره الحقيقي. وإن أولئك الذين آثروا أن يتحدثوا نيابة عن هؤلاء المحرومين فقدوا ثقة الشعب نتيجة فسادهم. وبالتالي سنحتاج إلى وضع آليات جديدة لمساعدة الناس على محاربة الظلم كجزء من أعادة بناء أوسع للمؤسسات التي تمثلهم. ويجب إعطاء جميع الناس أينما كانوا في الريف أو المدن الحقوق الأساسية من أجل حياة كريمة. يجب ضمان حقوق العمال والفلاحين كالصحة والسلامة والرعاية الاجتماعية في العمل، وألا يطرد العامل من عمله أو يستغنى عنه دون مكافأة كافية ليعيش حياته عزيزاً في مجتمعه.

عرض مقالات: