استطاع المفكر اليميني الأمريكي فرانسيس فوكوياما أن يشغل الحياة الفكرية والسياسية في أمريكا والعالم لمدة عقد من الزمان قبل ربع قرن، حين أطلق نظريته عن "نهاية التاريخ"، وكانت منظومة البلدان الاشتراكية حينها تتداعي نظاماً بعد الآخر، وكانت نهاية التاريخ - في قوله - تعني انتصار الرأسمالية الليبرالية إلى الأبد، بل وخلودها باعتبارها النظام الأمثل الذي استقرت عليه البشرية بعد فشل عشرات التجارب التي حاولت تجاوزها .
وما أن هدأت البلبلة التي واكبت الانهيار المتوالي لا للمنظومة الاشتراكية حسب، وإنما أيضاً لحركة التحرر الوطني ودولة الرفاة الاجتماعي، وكانت الصيغتان، في بعض تجلياتهما، صدى لانتصار الثورة الاشتراكية في روسيا القيصرية جنباً إلى جنب صعود حركة التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وبروز دولة الرفاه الاجتماعي .. أقول ما أن هدأت البلبلة، وإنزاح التشويش إلا وقام فرانسيس فوكوياما بممارسة النقد الذاتي علنا حين وجد أنه كان مخطئاً، وأن الفكرة التي روج لها حول "خلود" الرأسمالية الليبرالية تآكلت أمام موجات الاحتجاج والانتفاضات المختلفة في كل أرجاء العالم تقريباً بما في ذلك البلدان المتقدمة صناعيا وعسكريا .
جاء ذلك كله احتجاجاً على المظالم والانتهاكات لحياة وحقوق الملايين، من الكادحين والعاملين بأجر عامة، وهي مظالم وانتهاكات تصاعدت وتيرتها مع الليبرالية الجديدة التي برز فيها توحش الرأسمالية وكأننا نعود للوراء .
وقال المفكر اليساري البريطاني إيريك هوبزباوم إنه توقفت الرأسمالية والاغنياء مؤخراً عن الشعور بالخوف لدى سقوط الاتحاد السوفييتي، ولطالما شكل الاتحاد السوفيتي سنداً لكل من حركات التحرر ودولة الرفاة الاجتماعي، وبدا كأن الإنسانية تجري نحو بناء اليوتوبيا على الأرض.
وأظننا نخطئ كثيرا لو تصورنا أن الاحتجاجات العارمة التي شهدتها غالبية المدن الأمريكية هي احتجاجات ضد عنصرية الشرطة فحسب، خاصة وأن التضامن العالمي الواسع مع الشعب الأمريكي، والذي إتخذ أشكالا مبتكرة، يدعونا للبحث عن المشتركات، وعن الأفكار المؤسِسة، والقيم التي انتجت هذه الأفكار، وكأن طه حسين يحدثنا من جديد، ويدعونا لأن نعرف جيدا إلى أين يتجه العالم.
وقد علمنا التاريخ أن القيم العليا لا تنتج أفكارا كبرى إلا عبر النضال وعبر الوعي الجمعي للقطاعات الكبرى من الجماهير التي تطلق الاحتجاجات والانتفاضات وصولا إلى الثورة أملاً في الأفضل .
سوف نلاحظ مجموعة من الخصائص تتشارك فيها غالبية أشكال الاحتجاج التي تجتاج العالم الآن، أولها أنه تم التوافق الذي خلق إرادة جماعية شعبية ووطنية في كل بلد على حدة على اطلاق الانتفاضة التي تسلحت "بالجرأة ثم الجرأة ثم المزيد من الجرأة". وكانت هذه "الجرأة" المبهرة في كل الاحتجاجات موجهة لا ضد الظالمين من الشرطة وغيرهم حسب، وإنما أيضاً كانت جرأة في مواجهة الوباء جنباً إلى جنب مساءلة أسس النظام السائد في العالم .
ويظل الطابع الهجومي للاحتجاجات مميزاً رغم ما شاب حركة الجماهير في بعض الأحيان من عمليات تخريب وسلب ونهب، إتخذت منها الرجعية المهيمنة ذريعة للهجوم على الاحتجاجات، وإدانتها ووصفها بـ "الشغب".
تشكل الانتفاضة نقلة أساسية في وعي الكادحين الأمريكيين الذين تسلحوا بالروح الإيجابية والشجاعة الضرورية للإنخراط في الانتفاضة، وتبرز هنا بكل وضوح فكرة تقول أن ثمة قدرة إنسانية هائلة وعميقة لتجاوز المصالح الصغيرة والمباشرة ، والضيقة للأفراد، إذ في قلب الجموع يتجاوز هؤلاء الأفراد ذواتهم لينتج الوعي الجمعي هذه الذات الجماعية التي تلهمها الأفكار الكبرى والاستعداد للتضحية في سبيل العالم الأجمل الذي ترفرف عليه رايات العدل والاستنارة والضمير والحرية الحقيقية .
ولن يكون بوسعنا هنا أن نغفل الدور التربوي الذي تقوم به الانتفاضة وكأنها "عيد المقهورين"، وعلامة تضامنهم وسعيهم المشترك .
وتكشف الانتفاضة في حركتها أين يا ترى تكمن المظالم المسكوت عنها، وهنا لن يفاجئنا انضمام بعض رجال الشرطة في أمريكا إلى المتظاهرين المحتجين، بينما رفض آخرون تنفيذ أوامر رؤسائهم بإطلاق الرصاص المطاطي وقنابل الغاز على المحتجين .
كما أصدر أحد القضاة حكماً بعدم استخدام قنابل الغاز والرصاص المطاطي ضد المحتجين. وبرز وجه أمريكا الآخر، الوجه الشعبي الانساني في مواجهة الأنانية واللامبالاة وتجاهل آلام المعذبين في الأرض، والجهل المطبق بأوضاع الشعوب التي استنزفت الأمبريالية ثرواتها وأهدرت كرامة الإنسان فيها، وحجبت لزمن طويل الوجه الآخر الذي يتجلى للعالم الآن على خير نحو، أنه الوجه الشعبي لأمريكا .
وهذا هو الوجه الذي تحتفى به كل القوى التقدمية في العالم والتي تؤكد في أشكال الاحتجاج ضد العنصرية والاستغلال والتمييز أن الصورة الزائفة والوعي الزائف الذي قدمته هوليود للعالم لم ينجحا في حجب حقيقة الروح الأمريكية الشعبية .
وجريا على عادة الرجعية والاستبداد في كل مكان لجأ ترمب في مواجهة الاحتجاجات العارمة والمتظاهرين الذين أحاطوا بالبيت الأبيض إلى الدين، فزار، ماشيا، كنيسة مجاورة، وخرج منها رافعاً الانجيل، وهو ما يعيد إلينا صورة الرئيس أنور السادات وإعلانه دولة العلم والإيمان، كونه الرئيس "المؤمن" بعد انتفاضة يناير 1977 .
رسالتان كبيرتان تبثهما الاحتجاجات الأمريكية : الأولى هي إسقاط الوهم حول النظام الرأسمالي السائد فيها باعتباره نموذجا عالمياً في تحقيق الرخاء والسعادة لكل المواطنين .
أما الرسالة الثانية فتقول إن في ظل تراكم المظالم والانتهاكات في المجتمع الطبقي أيا ما كان ثراء هذا المجتمع وقوته الاقتصادية والعسكرية لابد أن يأتي اليوم الذي تتفجر فيه الاحتجاجات وتتصاعد لأهون سبب، ولو كان حادثة عنصرية مثل قتل المواطن الأسود فلويد ..
إنه إذن وجه أمريكا الشعبي، روحها الحقيقية ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*صحيفة "الأهالي" 10 حزيران 2020

عرض مقالات: