الموضوع جدلي يثير كثيرا من النقاش والاختلاف , فالبعض يؤيد بأن السياسة هي اولا , يتبعها الاقتصاد ، وفريق آخر يرى عكس ذلك ان الاقتصاد له الأولوية وتتبعه السياسة . فلمن تكون الأولوية للسياسة ام للاقتصاد؟ وهل يصنع الاقتصاد السياسة ام العكس؟

المؤيدون لأولوية السياسة على الاقتصاد يرون ان كل الدول المتحضرة تكون فيها السياسة في خدمة الاقتصاد وليس العكس ومثالهم في ذلك قيام الرئيس الأمريكي (ترامب) منذ وصوله الى البيت الأبيض بتسخير كل شيء في خدمة الاقتصاد الأمريكي، ومثله حصل في فرنسا والمانيا وغيرها من الدول. ونجد في دول اخرى مثل لبنان والعراق وغيرها من الدول تصر القوى السياسية فيها على تسخير الاقتصاد والأموال العامة في خدمة سياساتهم حيث يصدرون القرارات السياسية للحصول على الامتيازات المالية وغيرها لصالحهم على حساب الأغلبية ويصدرون القرارات السياسية الخاصة بتشريع القوانين التي تؤبد بقائهم في السلطة كقانون الانتخابات مثلا المفصل على مقاساتهم بهدف تهميش وابعاد القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية. كما يقومون بخصخصة المشاريع الحكومية لأن لهم فيها مصلحة ومنفعة , ويرفضون كل المبادرات الرامية الى اجراء اصلاحات اقتصادية وسياسية جذرية لمعالجة الوضع المتأزم القائم لأنها تضر بمصالحهم وامتيازاتهم . كما ان القرار السياسي بإنشاء وكالة الاستخبارات الأمريكية جاء لحماية المصالح والشركات الأمريكية في الخارج. وان غزو العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003 كان في اعماقه لتأمين استمرار تدفق النفط , وسبق وان قال وزير الطاقة الأمريكي في السبعينات ( شليسنجر ) ان هدف امريكا هو احتلال منابع النفط في منطقة الشرق الأوسط .

فالقرارات السياسية يمكن لها ان تغير الوضع الاقتصادي للبلاد فمن خلالها مثلا يمكن تحويل نظام البلد الى نظام اشتراكي او نظام رأسمالي وبناء اقتصاد متقدم او متخلف والاعتماد على الاقتصاد الريعي او تنويع مصادر الدخل القومي , او قيام النظام السياسي بتأميم المصالح الأجنبية او تسليمها للاستثمار الأجنبي. ويمكن للقرارات السياسية ان تعزز من الديمقراطية او تقزيمها او تلغيها واقامة النظام الدكتاتوري وغيرها من الأمور التي يمكن للسياسة ان تقوم بها حتى في مجال العلاقات الخارجية. كما يمكن للدولة ان تقيم العدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة او العكس. ويعرف الفريق المؤيد لأولوية السياسة بأن السياسة هي كل ما يحقق التطور للمجتمع من خلال ادارة شؤونه بحرية وان التوترات السياسية تؤدي الى توترات اقتصادية.

ان العديد من القضايا الاقتصادية ينظر اليها من زاوية التوجهات السياسية مثل الضرائب واقتصاد السوق والخصخصة والملكية الخاصة وغيرها والتي تختلف بين المعتقدات الاشتراكية والرأسمالية.

اما بالنسبة للفريق الذي يعتبر الأولوية للاقتصاد على السياسة، فيرى ماركس في هذا المجال ان البناء الاقتصادي مسؤول عن التطورات والأحداث التاريخية وعن توجيه عمليات التغير الاجتماعي في المجتمع. ويرى ايضا ان أي تغير في البناء الاقتصادي يؤدي الى تغير في البناء الاجتماعي، بمعنى ان أي تغير في شبكة العلاقات الاقتصادية يؤدي الى تغير في شبكة العلاقات الاجتماعية وذلك انطلاقا من فكرة العلاقة بين البناء التحتي للمجتمع والبناء الفوقي فيه . وهكذا فالبناء الاقتصادي للمجتمع لا يحدد فقط البناء الفوقي الكلي بل ويشكله ايضا. أي انه يشكل التنظيم السياسي والقانوني والفلسفة والعلم والأخلاق ذاتها.

وبهذا الصدد يرى ( لينين ) ان ( السياسة تعبير مكثف عن الاقتصاد ) ويعني هذا ان الاقتصاد يسبق السياسة دوما ويقودها ويوجهها نحو تحقيق مصالح الجماهير ، مما يعني ان السياسة اداة من ادوات التنمية ولم يحدث ان انفصلت السياسة عن الاقتصاد ، فكل منهما مكملا للآخر حيث هناك علاقة قوية بين السياسة والاقتصاد كون ممارسة العمل في مجال الاقتصاد تعتبر بمثابة الميدان الرئيسي للعمل السياسي  ، فالعديد من الممارسات الاقتصادية هي من صلب السياسة لأنها ذاتها تتأطر بمختلف الآراء السياسية وكذلك الأمر بالنسبة للسياسة حيث لا يمكن التعويل على السياسة دون وجود دعم اقتصادي قوي لها . فلا فصل للسياسة عن الاقتصاد ولا للاقتصاد عن السياسة وكلاهما وجهان لعملة واحدة وهذه هي حقيقة الأمر.  فالاقتصاد يولد قرارا سياسيا والسياسة تولد قرارا اقتصاديا، ولا يمكن الفصل بينهما وإذا انفصلا عن بعضهما شكلا هوة كبيرة في المجتمعات.

عند الحديث عن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة وتأثير الأول الكبير على الثاني لا ينحصر الأمر في العلاقات الداخلية التي تنظم سلوك السكان بين بعضهم البعض وبينهم من جهة وبين مؤسسات الدولة من جهة ثانية، بل تمتد تلك التأثيرات كي تشمل تنظيم العلاقات الدولية ايضا. حيث للعوامل الاقتصادية دورًا مركزيًا في اختيارات السياسة الخارجية لأن تنفيذ معظم السياسات يتطلب توافر الموارد الاقتصادية، ويحدد توافر تلك الموارد ما ان كان يمكن للدولة ان تكون مانحة للمعونة الخارجية ام مستقبلة لتلك المعونة.  كذلك فالموارد تحدد قدرة الدولة على الدخول في سباقات التسلح ذات التكاليف الباهظة والتبادل التجاري او تحقيق فائض في ميزان المدفوعات. فالدول التي تعاني من ندرة الموارد لن تستطيع ان تلعب هذا الدور. ومن ناحية اخرى فإن توافر الموارد الاقتصادية لا يعني ان على الدولة ان تلعب هذا الدور. كما ان انخفاض العائدات المالية النفطية للعراق بسبب انخفاض اسعار النفط بسبب تفشي فيروس كورونا وبسبب سوء الادارة والاعتماد الكلي على اقتصاد وحيد الجانب وبسبب غياب الاستراتيجية الاقتصادية واعتماد نهج المحاصصة والطائفية قد ادى الى ارتفاع نسبة العجز في الموازنة الاتحادية واضطرار العراق الى اعتماد سياسة القروض الخارجية لسد العجز لتصل ديونه الى نحو 130 مليار دولار كبلت العراق واقتصاده وسياسته بالمؤسسات الرأسمالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين وخضوعه لشروطهما المجحفة.

يشير الباحث الأمريكي (الان تورين) في تناوله لارتباط الديمقراطية بالتحرر الاقتصادي حين يؤكد على ان (اقتصاد السوق والديمقراطية السياسية وجهان لعملة واحدة لأنهما يشتركان في الحد من السلطة المطلقة

 للدولة ...).  من الصعوبة فصل السياسة عن الاقتصاد فهما توأمان يكمل أحدهما الآخر، فالسياسة في جوهرها هي الحكمة وحسن التدبير لتحقيق تطور المجتمع من خلال ادارة شؤونه بحرية وتأمين رقي الفرد. اما الاقتصاد فهو عملية تلبية الاحتياجات المادية الضرورية للمجتمع من خلال عملية الانتاج لتحقيق ازدهار وتقدم المجتمع.  والسياسة هي القدرة على التكيف مع الواقع وفن التعامل مع الممكن من حيث الاقتصاد الملائم الذي يحقق هذا التكيف، فالسياسة والاقتصاد متلازمان يسيران خطوة بخطوة.

ومما لا شك فيه فإن للعامل الاقتصادي دور كبير في قيام الثورات والانتفاضات والاحتجاجات الشعبية ضد انظمة الحكم. كما حصل ذلك على سبيل المثال في روسيا القيصرية عام 1917 حيث قامت الجماهير الشعبية الجائعة وتدني اوضاع الفلاحين في الريف والعمال في المدن بالثورة اضافة الى اسباب اخرى. وكذلك كان للعامل الاقتصادي دوره في قيام ثورة العشرين في العراق وانتفاضة جماهير الشعب ضد الاحتلال البريطاني المحتل للعراق آنذاك. واليوم نجد ان للعامل الاقتصادي دوره في انتفاضة اكتوبر الشعبية التي انطلقت في اكتوبر 2019 بسبب معاناة الشباب من البطالة ومعاناة جماهير الشعب من الفقر والفقر المدقع وضعف القدرة الشرائية وتفشي الفساد الكبير واستحواذ الأقلية الحاكمة على اموال الشعب وخيرات العراق.