طريقان امام الانتقال السياسي في السودان، اما التحول الديمقراطي الكامل او الارتداد الى النظام القديم. في وقت تنشط فيه الثورة المضادة من خارج تشكيلة السلطة وتمد اياديها لحلفائها في داخلها. كما يظهر من خلال النشاط المحموم للسيد الصادق المهدي زعيم حزب الامة، الذي يسعى للتحالف مع بقايا النظام القديم، ويقدم الدعم لوزير المالية الذي يعلن بصراحة اعتزامه السير في طريق صندوق النقد والبنك الدوليين. كذلك رفض حزب الصادق لنقاط في البند السادس من ميثاق الامم المتحدة، الذي تطالب الحكومة بوضع البلاد تحته. وسعي الرجل لتكوين جبهة سياسية اخرى، سماها بالقوى الجديدة تضمه مع حلفاء اليوم واعداء الامس، معمقاً الخلافات التي تكاد تعصف بوحدة قوى الحرية والتغيير. في الوقت الذي يتم فيه استهداف لجان المقاومة التي تحرس الثورة من قبل اعداء التغيير.


عودة الى ما انجز

رغم اهمية كل ما يعترض مسيرة الثورة من خلافات داخل مكونات الحاضنة السياسية (قوى الحرية والتغيير) كما تعكسها المحاصصات في تعيين ولاة الولايات، وتحديد نسب المجلس التشريعي، والخلاف الاخير حول اختيار قيادة تجمع المهنيين، حيث افضت الانتخابات وسطه الى نتيجة رفضتها 6 مكونات من اصل 18 مكون بالرغم من عدم اعتراضها على صحة اجراء العملية الانتخابية، مما يشير الى ان هناك تفاهمات خارج الغرف لم يتم الوفاء بها، الا ان اخطر العقبات امام مسيرة الثورة تتمثل في الاعتراض الذي تقدم به حزب الامة اكبر تكوينات اليمين السوداني داخل التحالف الحاكم، على اشياء يبدو انها قد حسمت سلفاً، ولكنه يحاول ان يعيد النظر فيها من جديد، مثل علمانية الدولة. حيث اتفقت المعارضة السودانية التي تشكل التحالف الحاكم اليوم، باستثناء حزب السيد محمد عثمان الميرغني راعي الطريقة الختمية، منذ عام 1995 في مؤتمر اسمراء للقضايا المصيرية على اقامة الحقوق والواجبات على اساس المواطنة ومنع التمييز على اساس الدين او العرق او الجهة او النوع.
وبعد انقسام المعارضة ثم التقائها مرة اخرى في تحالف قوى الاجماع الوطني، وتوقيعها على عدة مواثيق اخرى مثل ميثاق قوى الاجماع الوطني نفسه، الذي وقعت عليه كل الوان الطيف السياسي الفاعلة بما فيها حزب المؤتمر الشعبي، الجناح الاخر من الحركة الاسلامية بتوقيع حسن الترابي شخصياً، كذلك في وثيقة اعادة هيكلة الدولة السودانية وميثاق الحرية والتغيير الذي قاد الثورة الى النصر، الا ان بند اقامة الحقوق والواجبات على اساس المواطنة ظل ثابتاً، ولم يدعُ احد الى مراجعته. ويبدو ان الحوار انفتح حوله من جديد بعد مطالبة حركة عبد العزير الحلو، التي تحمل السلاح في منطقة جبال النوبة، بالعلمانية او حق تقرير المصير لمنطقتي جبال النوبة وجنوب النيل الازرق.
حينها وجدت قوى اليمين يقيادة الصادق المهدي الفرصة مواتية امامها للتحلل من التزاماتها القديمة، وطالبت بارجاء حسم علاقة الدين بالدولة الى حين انعقاد المؤتمر الدستوري. مما خلق وضعا اهتبلته قوى الاسلام السياسي وسارعت الى تاييد حزب الامة ودعم تحركاته في ارياف السودان المختلفة. ذلك بعد قيام رموز حزب المؤتمر الوطني بزيارات الى منزل السيد الصادق، مهللين ومباركين خلافه مع قوى الحرية والتغيير بعد تجميد عضويته فيها.

جند يتيم

وحتى لا يطرح السيد الصادق جنداً يتيماً في مواجهة قوى الثورة، حشد مذكرته التي اعلن من خلالها تجميد عضوية حزبه في التحالف، بعدد من المطالب. اعترض في بعضها على استيساد احزاب صغيرة بادارة شئون البلاد، من تقسيم السلطة وفق محاصصات حزبية تظهرها قائمة ترشيحات الولاة، مما يعتبر خروجا على ميثاق الحرية والتغيير الذي ينادي باقتصار تشكيل الحكومة على الكفاءات المستقلة. واضاف المهدي الى طلبه هذا تشكيل حكومات الولايات وفق الثقل الجماهيري لكل حزب، بالرجوع الى نتيجة اخر انتخابات جرت عام 1986، والتي احرز فيها حزب السيد الصادق 101 دائرة جغرافية، وشكل الحكومة بالتحالف مع نده التقليدي حزب الاتحادي الديمقراطي .
لكنها حكومة لم تشهد استقرارا واعيد تجديدها 3 مرات بادخال الجبهة القومية الاسلامية. ثم ادخال تنظيمات يسارية في اخر مرة حتى اطاح بها انقلاب الجنرال البشير، ولم تخرج الجماهير التي انتخبتها للدفاع عنها، لكثرة الاخطاء التي وقعت فيها واشتداد الازمة الاقتصادية في عهدها نتيجة تنفيذ وصفة صندوق النقد والبنك الدوليين.
كما ادرج المهدي في مطالبه، ووضعها كشرط للعودة لتحالف الحرية والتغيير، رفض بعض النقاط في البند السادس من ميثاق الامم المتحدة، الذي طالب حمدوك بوضع البلاد تحته وقبلت المنظومة الدولية. واكد ضرورة ان يتوقف التدخل الدولي على الجوانب التنموية، والمساعدة في استقرار النازحين واعمار ما دمرته الحرب. ورفض الجانب المتعلق بالاصلاح القانوني والاشراف على تنفيذ الاعلان الدستوري خلال الفترة الانتقالية، حتى اقامة الانتخابات وحماية الاهالي.
وفي ذلك وجد تاييداً منقطع النظير من قبل احزاب الاسلام السياسي وبعض العسكريين في المجلس السيادي. وقد لمح الصادق في بعض الحوارات الصحفية الى انه بصدد تكوين تحالف جديد يضم بعض الاحزاب التي وصفها بالجادة في الحرية والتغيير وبعض لجان المقاومة. لكن كل المؤشرات تؤكد ان تحالف القوى الجديدة كما سماه الصادق سوف يشمل الاسلاميين من المؤتمر الشعبي والتكوينات المختلفة مع المؤتمر الوطني وربما يشمل الاخير نفسه. فالسيد الصادق اشار في مذكرة العهد الجديد التي طرحها للتداول داخل الحرية والتغيير الى ضرورة انتهاج طريق توجه راسمالي، بعيداً عن الطريق الاشتراكي الذي اثبتت التجارب العالمية فشله حسب زعم الصادق. وبما ان مواثيق الثورة وادبياتها لم تشر لا من بعيد ولا من قريب الى توجه اقتصادي اشتراكي، ولان الحوار لم يكن في فضاءات حرة او مساجلات فكرية، فان المقصود هو ما طرحته اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير من اجراءات لوقف التدهور الاقتصادي، والدعوة الى الانطلاق في معالجة الازمة الاقتصادية من مستوى الاقتصاد السوداني واعتماد معالجات موضوعية تعتمد على الامكانيات الذاتية ممثلة في ولاية وزارة المالية على الشركات الحكومية ودخول الحكومة في مجال التصدير والانتاج خاصة في مجال المعادن وارجاع اموال الشعب المنهوبة ودعم الانتاج. وهي سياسات وصفها وزير المالية المتلهف لتلقي القروض الدولية بانها غير واقعية وعفى عليها الزمن. كما طالب الصادق بتوجيه الدعوة الى حزب المؤتمر الوطني المحلول لتقديم نقد ذاتي لفترة حكمه السابقة بهدف استيعابه في المرحلة الحالية.
ان تجميع كل هذه النقاط الى بعضها يشير بوضوح الى ان مشروع الردة على اهداف ومطالب ثورة كانون قد اكتمل، وان عملية الفرز وسط القوى السياسية تنتظر الاعلان عنها.

سيناريو متوقع

السيناريو المتوقع هو تهيئة البلاد لانقلاب عسكري سلمي او انقلاب قصر، يقوم فيه الجيش او المكون العسكري في مجلس السيادة باحكام قبضته على السلطة، وحل جميع الاجهزة الانتقالية بدعوى تامين البلاد وحفظ استقرارها ومنع الفوضى. وتتكفل عناصر النظام المباد بتجهيز الملعب لذلك من خلال اشاعة الفوضى والدخول في مشادات مع لجان المقاومة عبر الاستفزاز المباشر لقوى الثورة ، مثل الدعوة لكسر الحظر الصحي، وحشد تجمعات جماهيرية مضادة للثورة. وهي محاولات باءت بالفشل في عدة مدن منها الخرطوم وكوستي وسنار، بعد ان قام الثوار بفض اجتماعات لعناصر المؤتمر الوطني. كما اعترضوا على مواكب في الخرطوم وافشلوها. وقامت عناصر بالاعتداء بالضرب على كوادر النظام اثناء محاولتهم كسر الحظر بالسفر عبر الولايات. وقد اعلنت لجان المقاومة عدم مسؤوليتها عن هذه الاحداث وجددت دعوتها لسلمية الثورة.
في هذه الاثناء انطلقت دعوات تطالب بتحجيم دور لجان المقاومة، بعد ان نسبت احداثا لها بهدف اثارة حفيظة الجماهير ضدها، مثل حادثة الاعتداء على خلوة لتحفيظ القران وضرب احد طلابها. والمعروف ان لجان المقاومة قد اوكلت لها لجنة الميدان في قوى الحرية والتغيير مهمة الاشراف على توزيع الخبز والغاز والوقود في الطلمبات. وقد حدت هذه العملية من التلاعب في هذه السلع التي كان ينشط فيها عناصر النظام المباد.
من مظاهر الفوضى التي تعمل على تهيئة الاوضاع لانقلاب عسكري النزاعات القبلية التي عادت في مدن كسلا والقضارف ومنطقة جبال النوبة الواقعة تحت سيطرة الحكومة. لكن لجان المقاومة من كل القبائل تحركت لاحتواء الموقف وشكلت لوحة رائعة لتماسك النسيج الاجتماعي، واكدت ان ما يحدث هو بفعل وفاعل وتدبير من قوى الثورة المضادة. وقد تطور الوضع في مدينة كادوقلي حتى قاد الى اشتباك وسط القوات النظامية بين حامية الجيش هناك ومعسكر قوات الدعم السريع.
هذا فيما حمل اكثر من 20 تنسيقية من لجان المقاومة الحكومة الانتقالية مسؤولية ما يحدث. وذكرت تلك التنسيقيات في بيان لها يوم الثلاثاء الماضي ان الحكومة تقاعست في تصفية اثار النظام القديم ولم تقم بتلبية مطلوبات الثورة وتركت الحبل على الغارب لعناصر الثورة المضادة، ومنهم المطلوبين للعدالة الدولية ليقوموا بتفتيت النسيج الاجتماعي واشعال الفتنة بين مختلف القبائل، ومنهم من ينتسبون الى داعش ويؤلبون الجماهير ضد الثورة، وبضمنهم كتائب الظل التابعة للمؤتمر الوطني التي تتحرش بالثوار. وحذرت لجان المقاومة من استهدافها من قبل عناصر الثورة المضادة عبر اطلاق الشائعات، وحملت الشرطة والقوات الامنية المسؤولية عما يحدث من تفلتات امنية تنشط فيها عناصر مكشوفة ومعروفة.
ومن جانبه حذر الحزب الشيوعي من قيام اصطفاف جديد معادي لاهداف الثورة، وحمّل حزب الامة المسؤولية. وشدد الحزب الشيوعي في بيانٍ اصدره الناطق الرسمي فتحي الفضل على ضرورة وحدة قوى الثورة في مواجهة مخططات الردة التي تقودها عناصر الثورة المضادة وقوى الهبوط الناعم داخل تحالف قوى الحرية والتغيير، بقيادة حزب الامة وزعيمه الصادق المهدي.
وبذلك تكون الثورة السودانية تقف بالفعل في مفترق طرق يتجاذبها تياران، احدهما يميني يحشد كل قوى السودان القديم التي عملت على اجهاض كل الفرص التي لاحت للتحول الديمقراطي منذ استقلال البلاد، ويجتذب اليه هذه المرة بعض العناصر المتطلعة للعب دور سياسي الى جانب اصحاب الاجندة الدولية والاقليمية والخبراء الدوليين، وآخر تقوده قوى اليسار خاصة الحزب الشيوعي، وتصطف الى جانبه قوى الثورة ممثلة في غالبية كيانات تجمع المهنيين ولجان المقاومة.

عرض مقالات: