المصيبة العراقية، سواء، منها، الوادعة الناعمة او الخشنة المتصادمة، لا تعيش حياتها التأملية بـ (المنطقة الخضراء) أو في القصور الرئاسية المتعددة، الساكنة في اعلى شواطئ نهري دجلة والفرات وحسب. بل، انها موجودة بكل مكان في البيئة الجغرافية، العراقية، المجهزة على الارتقاء. يبدو، واضحاً، ان ١٧ سنة مرّت على احزاب الاسلام السياسي، الحاكمة في العراق، قد برهنتْ، بوضوحٍ مجردٍ، على ارتداد ِ، في حقيقةٍ سمعيةٍ – بصريةٍ، أن كل وزير إسلامي - حفظه الله - لا يرى في المنصب الوزاري، مجرد وظيفة سياسية، ينتج، عنها ومنها، بنهاية كل شهر، مجرد توفير أسباب الغذاء وحاجات عائلته في السفر والدواء والأمور الأخرى، كلها، لكي يواصل (العيش) و (العمل). ليس هدف الحكام العراقيين إيجاد مرج واسع ، لكسب ثروة يجري مطاردتها ، بكل الوسائل، خلال المدة الوزارية ، اعتماداً على استخدام ثنائية (الكلب) و (السوط ) في عملية السلب و النهب ، من دون الحذر من الدراما الهتلرية
ملاحظتي ، هذه ، ناتجة أكيدة عن نوعٍ من انواعِ خلقِ الثروة الشخصية و أخلاقياتها . لا أشك ان السيد (مصطفى الكاظمي) يعرف قوانينها وتطبيقاتها وتخيلاتها وأحلامها، أكثر مني ومنك ومن الجميع، بحكم عمله، اعتماداً على عناصر السيادة والمعلوماتية والسيطرة المتوفرة، عنده، من وجوده على رأس جهاز المخابرات العامة. معنى ذلك ان ملاحظاتي ليست سطحية او عابرة ، فيما يخص الجغرافيا السياسية بالعراق ، كما يتصورها البيت الأبيض الامريكي او كما تبدو في المظهر الخارجي في الاتحاد الأوربي.
ما يعيدنا الى واقع الحال حيث تصورات البيت الأبيض و تخيلات قادة بلدان القارة الاوربية بأن جميع الأنوار ستنطفئ في العالم ، كله، و أن جميع الطائرات ستتوقف عن الطيران و جميع البنوك و مؤسسات البورصة المالية ستغلق ابوابها و غير ذلك من الظواهر الجوهرية في العالم ، لمجرد قيام حربٍ اعتمدتْ على وضع ( الاقنعة ) سلاحاً ، مانعاً، رادعاً، على الأنوف و الحلوق . كما ، اعتماداً، على ( القفازات ) لتغطية الايادي و غير ذلك من اتباع قواعد (التباعد الاجتماعي) و الكف عن كلفة الوقائع الاجتماعية ، السابقة ، في التعبير عن الألفة و التآخي و المحبة بواسطة تبادل العناق و المصافحة و التقبيل .
يمكن القول ان جميع مظاهر الحرب الخارجية ضد (فايروس كورونا )غير منفصلة عن عالمها الداخلي ، بل هي محور ، يومي ،مستقر وجوده ، بين أفراد الاسرة الواحدة و بين معلمي المدرسة الواحدة و بين أناس المجتمع الواحد .. جميعها موجودة في حالات (التفرقة) وفي حالات (التفاهم)..، موجودة حول نوع الكلمات المتبادلة، في اثناء لقاءات المحبة والوداع، موجودة في معاني الكلمات وفي قيمة السباب والشتائم، المتبادلة بين السياسيين وغير السياسيين، بين المتفاهمين وغير المتفاهمين، بين المتفقين على عناصر جمال النسوان والمختلفين حول القيمة الصحية لبول البعير. ربما هذه الصور نفذت و رسخت في اذهان الناس ، من سوء تعارضهم الطويل مع نظام التجربة الدكتاتورية، القاتلة ، في عصر أملاه عنف الدكتاتور صدام حسين ، على الناس العراقيين ، جميعاً ، خلال ٣٥ عاماً من العيوب المنهجية في أساليب نظام الدولة وإغراق مدرائها و ضباطها و أفرادها في مستنقعات التلف و الضياع واضطراب النفوس و شحذ الحواس بتركيبٍ سيكولوجيٍ فاسد .
ما يجب الانتباه اليه ان جلسة مجلس النواب ، التي انعقدت في منتصف الليلة البارحة ٦ /٧ أيار ، تميزت بالفوضوية من جميع جوانبها . كانت فوضاها ظاهرة قبل انعقادها، حيث تساءل الكثير من المعقبين في القنوات الفضائية، العراقية والعربية: ماذا كان يعمل (الرئيس المكلف) طيلة الاسبوعين الماضيين...؟ ما هي حواراته ونتائج تصوراته ...؟ كيف كان الرئيس الكاظمي يتعامل مع نصوص أفكار الكتل النيابية والأحزاب السياسية، طيلة فترة تناسل الحكايات البرلمانية، الماضية، في ظل وباء كورونا وانخفاض سعر النفط العالمي. .؟
كل شيء جرى في ساعات هذه الجلسة ، بهدوء و بتلقائية كاملة، حركتها بين غرف و قاعات و زوايا البرلمان العراقي ، حتى ثقلت شكليات قبول ١٥ وزيراً رشحهم قلم الرئيس المكلف مصطفى الكاظمي ، كما تعذّر قبول التصويت الغالب برفض ٥ مرشحين و تأجلت لذة اختيار وزيرين الى جلسة اخرى . .. كلهم مرروا، خلال مركب الديمقراطية، معارفهم وتكتيكاتهم ومجاملاتهم وميولهم وغيرها، حيث المستويات (الحزبية) و (المناطقة) و (الفقهية). صارت، الوسائل، كلها، مسيطرة على موكب التنافس البرلماني وعلى تصويت جميع الكتل وعلى العقول البرلمانية، المنتجة افكارها، في الدقائق الاخيرة من المفاوضات والتحديدات، حيث ألغيت نصوص واستبدلت اسماء وتغيرت مناصب. ارتفعت نصوص جديدة فوق مسافات مناصب، مدونة ومكتوبة، تشتت جزئيات وتشظّت تفاصيل، قربت مراكز وزارية عند بعض المرشحين وانتقلت بنية مراكز وزارية اخرى من فوضى فرضية معينة، الى ذهنية فرضية اخرى. انتفت مكونات بعض التأليف وحضرت مدلولات بديلة .
الى جوار هذه المصيبة العراقية او تلك فأن الكثير من القادة السياسيين ، يطلقون زوجاتهم شفقة عليهن و رحمة بهن. ثم يتزوجون شابات جديدات شفقة على محاسنهن او رحمة بجمالهن، مثلما يختلف الخياطون في سوق الخياطين على الفرق بين أسعار خياطة ثياب العيد عن ثياب الحداد. اما في السياسة العراقية و في صفوف السياسيين ، المختلفين، فان ، جميعهم ، يستغلون الفرص الجديدة ، المتاحة ضد ، جميعهم ، كما لا يتوقف استخدام جميع الطرق الدنيئة السافلة في جميع المعارك و في جميع الحروب.
السؤال القريب ، هنا، هل يوجد فرق ، محدد و ثابت، بين ممارسة ( السلطة الاستخباراتية) و ممارسة ( السلطة التنفيذية ) لدى الرئيس الجديد (مصطفى الكاظمي ) حيث تتعارض ، عنده بأكثر مما عند من سبقوه، صفات هذين الصنفين من الممارسة مع بعضها ..؟
من مظاهر السخرية ، التي لا تعرف وَقَاراً ، ان السيد مصطفى الكاظمي شكّل وزارته بأعلى أشكال التكامل و بأرقى قالب من قوالبها المعقدة في المحاصصة الاثنية و الطائفية .. ترى هل هذه الصفات ، متطابقة ، مع حقائق هذا الزمان السياسي العراقي الفارغ ..؟
اقول ، اولاً، أن ( وعي الحرية) يختلف عن وعي ( المغامرة بالحق) ، على ضوء منطق الحسم في وحدة ميلاد منصبين مختلفين لشخصية واقعية ، عراقية ، واحدة ، كان لها متن منصب مدير المخابرات العامة ، من دون عهدة العقائد السريعة و الأحداث المريعة، لحماية بدعة أصل الدولة ، المرتبطة بواقعية و ادعاءات الإلهيات . قام تاريخ و منطق الصداقة بين رجلين عراقيين الاول استغل تغور الماضي ، و الثاني يمثل محدثات الحاضر وجعلها متحولة ، الآن ، الى وشائج منصب رئيس وزراء الكون الخاص بتسيير أمور الدولة العراقية تحت رعاية و عناية و فناية الرئيس الاتحادي ، المتطلع الى كسب أفضل العقول الإقليمية و جعلها اكثر إنتاجية .
هذا الواقع الفيدرالي لم يبتكره الشعب العراقي ، لذاته ، بل تعمد الكون العراقي وضع نفسه و افكاره ، منذ البداية، امام تجربة من احداث الحكم و الحكومة و أحكامها الفيدرالية - الإقليمية في بلادنا ، العراق، بزمان و مكان تحول مقعد رئيس الوزراء العراقي ، الى جزء من محاولة ارتقاء السيد رئيس الوزراء الجديد ، مصطفى الكاظمي، في الجمع بين صنفين من نهجي عمل مختلفين اختلافاً في (التجربة) و (العلة ) لكسب صنفين من الساسة ، ساسة إقليميين و ساسة فيدراليين. الصنف الاول من الممارسة يعتمد على بنية تحتية لمجتمع عصري يمشي الى المستقبل على وفق المهارة والبناء الصعب والتخلص من فقه العذاب والتعذيب للتحرر، معرفياً وكلياً، من كل نسبةٍ من نسب العداوة في الأدلة المتقابلة، مهما كانت درجة تعارضها إذ ان المهمة الأساسية المعتمدة هي تحويل بلادنا، كلها، بمساحات الفيدرالية والإقليم، من مجتمع اقتصادي، ريعي، الى مجتمع زراعي - صناعي. انها مهمة ليست صعبة اذا اعتمد الشعب العراقي ، كله، على سياسة موحدة في الدفاع عن الدولة و المجتمع و الشعب .
اقول هذا القول مستفسراً ، متسائلاً ، عن لحظات الاندفاع نحو الانطباعية ، السياسية و العمومية ، حول مصدر الإيحاء و الإشارة بإنفاذ عملية تصويت المصوتين البرلمانيين مساء يوم ٦ أيار ٢٠٢٠ بالموافقة على تشكيل حكومة مدير المخابرات ( مصطفى الكاظمي) الحالم ان تكون مدرسته الحكومية العراقية ايحاءً ، ذهنياً ، مشابهاً لحكومة ( فلاديمير بوتين ) ، المدير السابق في المخابرات السوفييتية ، لينال حظوته في ان يكون فناناً في فن البقاء، حاكماً ، متسلسلاً ، في رئاسة حكومة روسيا الى عام ٢٠٣٥ ، مخادعاً جميع عشاق الدولة الروسية العظمى. مع فارق وحيد في اختلاف التشكيل الوزاري بين الدولتين ، حيث علو المحاصصة في الوطن العراقي ، قد بلغ سحاب سمائه، كأنما جاء مصطفى الكاظمي لتأكيد استمرار وجود و طغيان (المحاصصة الطائفية) و الحفاظ على شهرتها الدولية و استهانتها بتضحيات ٧٠٠ شهيد و اكثر من ٢٥ الف متظاهر مصاب بنار الرصاص الحي في ساحة التحرير وغيرها من ساحات التظاهر .
اخيراً استحق الرئيس مصطفى الكاظمي لقب النموذج المثالي في (الشجاعة ) و (البطولة ) و (الرجولة) ، حين جعل ( الطائفية ) و ( العشائرية) صورتين (محسنتين) لسلطة ( المحاصصة المبتذلة) باقتحام بونابرتي ، بذله الرئيس برهم صالح لمساندة سطوته العليا بمصالح الوطن ، باستمرار تقييد السلطة التنفيذية ، كلها، بقواعد و قوانين الأنظمة الشمسية ( الطائفية ) و الابتعاد المؤسف عن كل تواريخ التقدم المستقبلي وعدم مواصلة السير بمجرة (الطائفية المبرمجة ) من دون اي تغيير حقيقي في بنية السلطة ، بالتغافل عن سيئات جميع الفاسدين و العفو عن قتلة المتظاهرين السلميين والابتعاد عن ممارسة سياسة إصلاح سلوكيات الدولة و اخلاقية موظفيها ، اجمعين ، و تطهير جميع المؤسسات الحكومية ، من جميع علامات الاستبداد وأفعال المستبدين ، تمهيداً لإقامة مجتمع المساواة و العدالة الاجتماعية و الحرية و الديمقراطية.
----------------
بصرة لاهاي في ٦ أيار ٢٠٢٠

عرض مقالات: