هذه الأيام، يعيش العالم مع محنة الوباء الفايروسي، وباء كورونا، وأخباره في كل مكان ووضع كل العالم في عزلة، لكنه لا يمكنه قطع حبال ذكرياتنا.
في العراق، نهاية سبعينات القرن الماضي، مع تزايد قبضة صدام حسين وجناحه على مقدرات السلطة وشؤون العراق، كنا نواجه وباء من نوع آخر، وباء العسف السياسي، بإرهابه العلني ضد الشيوعيين والديمقراطيين وعموم الشعب العراقي تحت شعار: انت بعثي وإن لم تنتم!
لم يرضخ المئات من شيوعيين وديمقراطيين لإملاءات حزب البعث العفلقي الحاكم، السادر في سياسة تبعيث المجتمع وتزوير التاريخ فأضطر عدد ليس قليل منهم لمغادرة العراق، واضطر قسم ليس قليلا لترك جامعاتهم ومواقع عملهم والانتقال لمدن ثانية، انتحلوا أسماء أخرى ومارسوا أعمالا، لا تمت لاختصاصهم بسهولة، وعاشوا أيام رعب وتوتر، وضباع الأجهزة الأمنية، تطاردهم من شارع لشارع في انتظار حل ما.
لم يكن مخطئا من سمى حياة التخفي بأنها، حياة تحت الأرض. فعليك أن تقطع علاقاتك مع معارفك القدامى، تتجنب لقاء أهلك وأصحابك، متمسكا بالشخصية التي صنعتها لنفسك.
وصلت بغداد في أواسط 1978، تاركا دراستي الجامعية، باحثا لنفسي، مثل كثيرين، عن شخصية جديدة، وعمل مناسب، لوقاية نفسي من وباء الاعتقال وتبعاته، أتنقل بين مختلف الأمكنة لأبيت ليلة أو ليلتين باحثا عن مستقر.
كانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي قد أصدرت بلاغها عن اجتماعها، الذي طالب بوقف حملات الاعتقالات والشروع في إرساء دعائم النظام الديمقراطي وإنهاء الفترة الانتقالية وإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية، تضع دستورا دائما للبلاد. وجن جنون قيادة وجلاوزة حزب البعث.
حل العام 1979، ونحن نعيش تحت الأرض في بغداد ومدن أخرى، وازلام البعث تطاردنا من شارع لشارع. كان يوم الثلاثين من اذار يصادف يوم الجمعة. كانت شوارع العاصمة بغداد، مزدحمة بالناس، تعيش أجواء مباريات كرة القدم في دورة الخليج العربي الخامسة (من 23 آذار إلى 9 نيسان 1979). وعبر رفاق وأصدقاء، كان لدي موعد مع صديق عزيزـ ربما يقرأ هذه السطور ويبتسم! لم تفارقنا روح التحدي، وانطلاقا مما ذكره رجب، بطل رواية "شرق المتوسط " لعبد الرحمن منيف، لحبيبته هدى"إن أكثر الأماكن سرية هي الأماكن المكشوفة"، كان موعدنا عند صالة سينما بابل.
وصل صاحبي على الموعد تماما، فلم ينتظر بعضنا الاخر كثيرا. أخذني بالأحضان وهو يسخر من هيئتي الجديدة، بذقني النامية ونظراتي الطبية المزيفة. قال إنه يعرف مكانا هادئا يمكن أن نحتفل به سوية، اتفقنا أن تستخدم أسماؤنا المستعارة، ونتجنب العبارات والأغاني الثورية، حتى لا نكشف أنفسنا للعيون. كنا لا نزال نقف عند بائع الفستق في باب السينما، حين وجدت أنه اتفق مع صديقين آخرين لينضما إلينا. لم يكن الأمر حصيفا بالطبع، ومخالفا لتقاليد العمل السري.
الأكثر من هذا هو أن صاحبي كان متحمسا، وقرر كما يبدو بدء احتفاله، ونحن هناك، فراح يدندن بصوت مسموع الأغنية التي تملأ الشارع يومها:
ـ "يا بورجل الذهب يا فنان العرب
هلا بيك هلا وبجيتك هلا!"
لم يكن خافيا عني مقصده. وسرعان ما ارتفع صوته، يرافقه صاحبانا. بدا الأمر، وكأنه مزاج شباب محبين للرياضة. كان يفترض أن نترك المكان بسرعة، لكن صاحبي راح يكمل الأغنية بحماس أكبر:
ـ إلنا يبه الكأس وأسمنا يلوگ أله!
يكرر الجملة متوجها للناس القريبين اليه، كمن يشركهم بالأمر. يغني وكأنه يطالبهم بالتصديق على كلامه. لا نعرف كيف التف علينا بعض الشباب في المكان، وصارت مجموعة من الشباب يغنون معه الأغنية بحماس ويدبكون، وتوسطهم صاحبنا. لم يكن صعبا إدراك أن صاحبي تحت ستار الأغنية الرياضية، أراد أن يحتفل بطريقته الخاصة. بدأت دائرة الملتفين حولنا تكبر، وبدا الأمر يكتسب شيئا من الخطورة حين اقترب مني أحد الوقوف في المكان، وهمس لي محذرا:
ـ خذوا صاحبكم واتركوا المكان بسرعة!
وهذا ما حصل. تركنا المكان أشبه بالهرولة، ووجدتني مع صاحبي، ونحن نبتعد ونضيع في الأزقة القريبة أشاركه الغناء:
ـ "إلنا يبه الكأس وأسمنا يلوگ له"