في هذه الايام التي نحتفل فيها بالذكرى السادسة والثمانين لميلاد حزب النضال والتضحيات على درب الوطن الحر والشعب السعيد، الحزب الشيوعي العراقي، راودتني ، وبإلحاح ، ذكرى الإحتفال بالعيد الثلاثين للحزب والتي كان لها طعم خاص ووقع اكثر خصوصية في النفس لما كان يعنيه الإحتفال بهذه المناسبة في ذلك الوقت.

لقد تركت الضربة المؤلمة التي تلقاها الحزب على يد عصابات البعثفاشية المقيتة واجهزتها الإجرامية القمعية آثاراً عميقة في جسد الحزب الذي عانت كل تنظيماته ومختلف نشاطاته من الضمور والإنحسار والتشتت ، بحيث اصبحت المهمة الأساسية لمن نجا  من مجازر البعث هي العمل على لملمة الجر اح وجمع ما تبقى من الشمل الذي تشتت داخل وخارج الوطن. وبمعنى آخر ان الوضع المأساوي الذي كان يمر به الحزب لم يدع وقتاً للتفكير باحتفال او القيام بنشاط ما، خاصة وإن ذكرى تأسيس الحزب التاسعة والعشرين كانت على الأبواب. وبالرغم من كل ذلك جرت بعض النشاطات البسيطة هنا وهناك من خلال توزيع او لصق بعض المناشير المكتوبة باليد والمُستنسخة في الحادي والثلاثين من آذار عام 1963، اي بعد مرور اقل من شهرين على المجزرة الدموية التي تعرض لها الحزب والتي تم تنفيذها من قِبل عصابات البعث، وبمباركة مرجعية السيد محسن الحكيم التي اعطت هذه العصابات الضوء الأخضر لقتل الشيوعيين (راجع مذكرات القائد البعثي آنذاك عبد الغني الراوي ).

ومرت الذكرى التاسعة والعشرون لتأسيس الحزب بصمت تقريباً تشوبه المعاناة من الم الضربة وتبعاتها، إلا انها اعطت للشارع العراقي معلومة، ولو بخيوط واهية، تشير الى ان الحزب الشيوعي العراقي لم يزل حياً ولم تستطع اجراءات القمع الملتفة بالعباءة الدينية ان تقضي عليه.

وجاء التأكيد الآخر على حياة الحزب ولملمة بعض جروحه من خلال الإنتفاضة البطولية التي قادها المناضل الشجاع حسن سريع ورفاقه الأبطال في معسكر الرشيد اوائل تموز من نفس عام القمع الإجرامي ، عام 1963، والتي كادت ان تقضي على ذلك النظام الفاشي الذي لم يكن إلا انعكاساً للحقد لا على الشيوعيين فقط، بل وعلى كل انجازات ثورة الرابع عشر من تموز، خاصة تلك الإنجازات التي وقفت مؤسسة السيد محسن الحكيم ضدها باعتبارها تمثل مبادئ الكفر والإلحاد ،كقانون الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية مثلاً.

إلا ان الأمل الذي تجدد في نفوس الوطنيين العراقيين جميعاً هو ما تمخض عن الإحتفالات التي جرت بالذكرى الثلاثين لميلاد الحزب. لا استطيع الحديث عما جرى في مناطق مختلفة من الوطن بهذه المناسبة، إلا انني استطيع واتذكر، وقد حاصرتني هذه الذكرى هذه الأيام خاصة، الإحتفالات التي جرت في المكان الذي كنت موجودا فيه وهو سجن نكرة السلمان. ورجائي من الرفاق والأصدقاء الذين لا يزالون على قيد الحياة والذين ساهموا في هذا الإحتفال ان يرفدوا جيلنا الحاضر والأجيال القادمة بهذا الحدث التاريخي الهام في سجلات وطننا وحركته النضالية.

في الحادي والثلاثين من شهر آذار عام 1964 ، وبالرغم من كل الصعوبات والآلام وانعدام اغلب وسائل الحياة الإعتيادية في ذلك السجن الرهيب،  تفتقت اذهان السجناء عن ابداعات ونشاطات تجلت من خلالها عظمة الحزب الشيوعي العراقي وقابلية العاملين في صفوفه وكل اصدقائه المؤيدين والمناصرين لنشاطاته، عن فعاليات هدفها اعطاء هذه الذكرى موقعاً خاصاً يجدد العزم ويشد الهمم على مواصلة النضال الذي لم يستطع البعض تحمل تبعاته تحت الظروف القاسية التي كان يمر بها السجناء، وهذا ما دعا السلطات الحكومية ان تستغله للحصول على اعلان البراءة من الحزب ومن العمل السياسي بشكل عام مقابل الإفراج الفوري من السجن وإلغاء كافة التبعات التي ترتبت على الحكم الصادر من المحاكم او من المجالس العرفية آنذاك.

أعياد الميلاد العشرية ، (العاشر ، العشرين ، الثلاثين ....وهكذا) لها ميزة خاصة لدى الكثيرين باعتبارها تمثل انقضاء فترة جيل معين لتبدأ بعدها حياة لها ميزات قد تختلف سلباً او ايجاباً عما سبقها من السنين. وتحت هذه الأهمية يقع الإحتفال بالعيد الثلاثين للحزب الشيوعي العرقي. إلا ان المناسبة العشرية لم تكن هي الوحيدة التي ميزت هذا الإحتفال، بل انها تأخذ مراتب اخرى، بالرغم من اهميتها التاريخية ، فالحادي والثلاثين من آذار عام 1964 والإحتفال به تتجلى اهميته من خلال:

اولاً: انه جاء ليشير الى ان الحزب الشيوعي العراقي لم يمت كما كان يخطط له اعداؤه، مهما اختلفت انتماءاتهم ومهما تنوعت اسباب قمعهم. لقد مارس اعداء الحزب وسائل إفناء بالغة الخطورة وعميقة الأضرار، ظن هؤلاء الأعداء بانها ستكون الكفيلة بالقضاء على الحزب. إلا ان الحادي والثلاثين من آذار عام 1964 القمهم حجراً ظل يعكر عليهم حياتهم التي اثبتت لهم يوماً بعد آخر عمق مأساتهم ومدى خيبتهم بعدم تحقيق ما خططوا له وما بنوا عليه من حسابات شيطانية اجرامية لئيمة. الحزب الشيوعي العرقي حي رغم حملات الموت التي تخطاها بثبات وعزيمة يتجددان يوماً بعد آخر.

ثانياً: لقد اثبتت إحتفالات الحزب بعيد ميلاده الثلاثين بانه ليس حياً فقط، وإن حياته هذه لم تكن حياة روتين عادية، بل انها حياة نشاط وخلق مؤهلات وممارسة فعاليات يحسب البعض انها انتهت بالقضاء على تلك الجموع الغفيرة من الفنانين والأدباء والشعراء وشغيلة اليد والفكر الذين كانوا يشكلون العمود الفقري للنشاطات الجماهيرية قبل القمع الإجرامي الذي واجهه الحزب عام 1963. لقد اثبتت إحتفالات العيد الثلاثين للحزب بان الحزب الشيوعي العرقي قادر على الإبداع وعلى التواصل مع كل ما يساهم في النضال الوطني من ادب وفن وعمل اثبتته وقائع الإحتفالات وعكسته ردود الفعل التي تمخضت عنها.

ثالثاً: وهذا ما يسعدني حقاً حين تعود بي الذكرى اليه والذي عشت به الإحتفال في هذه المناسبة السعيدة على نفس كل وطني عراقي، مناسبة الإحتفال بالذكرى الثلاثين لميلاد الحزب في سجن نكرة السلمان. فقد جرت الإستعدادات للإحتفال بهذا العيد قبل الحادي والثلاثين من آذار عام 1964 وبلغت قمتها في يوم الميلاد الذي تكلل، وما بعده، بفعاليات رياضية وفنية، برزت فيها مواهب شبابية جديدة وقابليات افرزتها رعاية واهتمام   منظمة السجن بها بتشجيع وتنمية هذه القابليات وتوفير مستلزمات ممارستها. فالموسيقي وجد آلته التي يمارس عليها عزف كلمات الشاعر التي لحتها الملحن، ليؤديها ذلك الصوت الشجي من فرقة غنائية او بحنجرة مطرب موهوب. او الممثل الذي اعتلى خشبة مسرحه ليترجم رواية الروائي الى حالة مُعاشة لتعكس واقعاً ما. او الشاعر الذي ظل يتبارى مع زملائه الآخرين للحصول على الفوز بصاحب احسن قصيدة سواء بالشعر الحر او المُقفى او الشعبي، او الرياضي الذي يمارس هواياته الرياضية المختلفة فراداً ومجاميع، او الفعاليات التي تجري من خلال المسابقات الثقافية بين القووايش ( ردهات النوم والسكن ) والتي تبرز فيها الإمكانيات الثقافية المختلفة والمعلومات العامة  للسجناء، او بإشباع روح التعلم واكتساب العلم من خلال المحاضرات والدروس المختلفة في اللغات والتاريخ والفلسفة والإقتصاد وغيرها.

رابعاً: الإحتفال الثلاثيني شكل تحدياً عنيفاً وشموخاً ثابتاً في وجه كل المراهنين على نهاية الحزب الشيوعي العراقي، خاصة في ذلك الوقت الذي تميز بالمغريات التي كانت تقدمها السلطة لمن يقدم البراءة من الحزب ومن العمل الوطني بشكل عام، واعطى في نفس الوقت جرعات صمود تغنت بهع حناجر السجناء ونشيدها:

سالم حزبنا .... ما هَمِته الصدمات .... يخسه اليضدنا .... والحزب حي ما مات

هذا النشيد الذي كان جواباً واضحاً وقوياً لأطروحة البراءة التي شكلت امتحاناً للمناضلين اجتازه معظمهم بنجاح باهر وشموخ ظاهر وعزيمة قوية وقناعة راسخة بالفكر الذي بذلوا الغالي والنفيس من اجله وبالحزب الذي ناضلوا في صفوفه.

الإحتفال بالعيد الثلاثين للحزب الشيوعي العراقي سجل مفخرة من مفاخر الشيوعيين الذين ارعبوا اولئك المراهنين على فناءهم بعد الذي نالهم من عصابات التخلف السياسي والديني التي ما تركت وسيلة من وسائل السقوط السياسي والأخلاقي إلا ومارستها في سبيل تحقيق هدفها المشين الساعي لحرمان الشعب العراقي من قوة وطنية تقف بوجه كل من يريد الإساءة لهذا الشعب .

وهذا ما ظل يحققه الشيوعيون العراقيون ويحققونه اليوم بوقوفهم الى جانب شعبهم في ثورته التشرينية على احزاب اللصوصية والفساد التي جاء بها الإحتلال لوطننا بعد القضاء على دكتاتورية البعث الساقطة.

المجد للحزب الشيوعي العراقي والخلود لكل شهدائه وشهداء وطننا مهما اختلفت مشاربهم وتنوعت اجناسهم وقومياتهم.