يتميز الاقتصاد العراقي بأنه اقتصد ريعي وحيد الجانب يعتمد كليا على تصدير النفط الخام واهمال القطاعات الانتاجية الاخرى، وهو اقتصاد استهلاكي غير منتج واقتصاد استيرادي، اضافة الى افتقاره الى استراتيجية تنمية مستدامة والى الخطط التنموية القصيرة الأجل والمتوسطة والبعيد الأمد، كما يتميز بعدم توسيع وتنويع وتحديث قاعدة الاقتصاد وتنمية القدرات البشرية والاستخدام العقلاني والكفوء لموارد البلاد بما يحقق مستوى ونوعية حياة افضل لجميع المواطنين.

ومنذ 2003 والى اليوم عجزت الحكومات المتعاقبة القائمة على نهج المحاصصة والطائفية عن وضع سياسة اقتصادية فعالة والقيام بالإصلاحات الجذرية الضرورية والقيام بالبرامج الاستثمارية التي تساعد على النهوض بالاقتصاد العراقي وحل أزمته البنيوية، فبقي اقتصادنا الوطني اقتصادا متخلفا تتحكم به مافيات الفساد في ظل عجز كل الحكومات المتعاقبة عن توظيف العوائد النفطية الكبيرة لأغراض الاستثمار والتنمية ومكافحة البطالة والفقر. وقد ساهمت اوضاع العراق السياسية والاقتصادية والأمنية في هجرة رؤوس الأموال العراقية الى الخارج وحرمان العراق من الاستفادة منها في تطوير الاقتصاد الوطني وتحقيق التنمية الاقتصادية.

تعريف هجرة رؤوس الأموال:

تعني هجرة رؤوس الأموال او كما تسمى احيانا (هروب رؤوس الأموال) بأنها عبارة عن ظاهرة اقتصادية تعني عندما يسحب المستثمرون اموالهم من سوق دولة ما الى سوق دولة اخرى بحثا عن بيئة اقتصادية اكثر استقرارا.

اسباب هجرة رؤوس الأموال العراقية:

شهد العراق طيلة السنوات الماضية ولا يزال هجرة رؤوس الأموال الى خارج العراق وخاصة الى دول الجوار، وهذا يرجع الى عدة اسباب يمكن اجمالها بما يأتي:

1) أسباب اقتصادية ومالية: حيث ان عدم توفر المناخ الاستثماري المناسب وقلة او انعدام مشروعات التنمية وضعف سوق الأوراق المالية، اضافة الى تذبذب أسعار العمل المحلية وعدم استقرارها وعدم توفر المعلومات المناسبة للمستثمرين والخاصة بحجم ونوعية الفرص الاستثمارية في العراق، كلها عوامل سببت هجرة رأس المال الى جانب انها تسهم ايضا في عدم جذب الاستثمار الأجنبي. كذلك فإن تعدد الرسوم وزيادتها على المستثمرين تكون عائقا ايضا في وجه الاستثمار المحلي.

2) أسباب تشريعية: تتعلق بغياب قانون الاستثمار او عدم وضوح القواعد القانونية في مجال الاستثمار مع وجود قوانين واجراءات تحد من حرية المستثمر في نقل ارباحه الاستثمارية، كلها عوامل تسهم الى حد كبير في هجرة رأس المال المحلي الى الخارج والى نفور رأس المال الأجنبي من الاستثمار داخل العراق.

3) اسباب جمركية: حيث ان ارتفاع الرسوم الجمركية التي تفرض على المستثمر وعدم وجود تسهيلات تجارية تعد سببا مهما في هجرة رأس المال المحلي.

4) البيروقراطية والروتين: فالروتين والبيروقراطية، (مرض المكاتب) في مؤسسات الدولة التي لها علاقة بالاستثمار، يشكلان عائقا امام المستثمرين ولا يشجعان على الاستثمار، حيث ان كثرة القيود والاجراءات الادارية المعقدة وتضارب القرارات وتعدد الجهات وعدم وجود نافذة واحدة للحصول على الموافقات لغرض الاستثمار واستغراق فترة طويلة للحصول على الموافقات الاصولية بعد مرورها على عدة لجان تصيب المستثمر بالملل وتدعوه الى البحث عن مكان آخر غير العراق يجد فيه التسهيل الاجرائي لإقامة مشاريعه الاستثمارية.

5) الاستقرار السياسي والأمني: فقد شهد العراق عدم الاستقرار السياسي والأمني ولا يزال، ما اثر على الاستثمار الداخلي وتفضيل الهجرة الى دول الجوار وخاصة الاردن حيث تشير الأرقام مثلا الى بلوغ حجم الاستثمارات العراقية في الاردن المستقر امنيا في عام 2007 نحو (10) مليارات دولار. واليوم ازداد حجم الاستثمار اكثر من ذلك ليصل الى نحو 18 مليار دولار حسب تصريح السفير العراقي في الاردن في تاريخ التاسع والعشرين من كانون الثاني 2020.

6) تفشي الفساد المالي والاداري في اجهزة الدولة المختلفة وفي المنافذ الحدودية والتي تقضم جزءا كبيرا من ارباح المستثمرين ما يدفعهم الى ترك المشروع الاستثماري وتفضيل الاستثمار خارج العراق. اضافة الى التدخلات العشائرية ودورها في ابتزاز المستثمرين حيث يعتبرون الأراضي التي يوجد عليها المشروع الاستثماري التي تقع ضمن مناطقهم ملكا لهم وبالتالي فانهم يفرضون على المستثمرين دفع اموال طائلة لهم مقابلها او يجبرون المستثمرين على تشغيل ابنائهم، ما يؤدي الى عزوف المستثمرين عن الاستثمار في ظل ضعف الدولة وعدم فرضها القانون.

من آثار هجرة رؤوس الاموال :

تؤدي هجرة رؤوس اموال العراقيين الى الخارج الى عدة آثار اقتصادية سلبية اهمها:

1) ضعف النمو الاقتصادي: حيث يعتبر رأس المال من عناصر الانتاج المهمة، وان هجرة رؤوس الأموال خارج العراق يحرم البلاد من الاستثمار والتنمية وبالتالي انخفاض رأس المال في الناتج المحلي الأمر الذي يؤدي الى انخفاض النمو الاقتصادي في المجتمع الذي تهاجر منه رؤوس الأموال.

2) ضعف مستوى التشغيل وارتفاع نسب البطالة : هناك علاقة عكسية بين معدل الاستثمار ومعدل البطالة فكلما زاد الاستثمار كلما توفرت فرص العمل  وانخفضت نسب البطالة والعكس صحيح حيث كلما قل الاستثمار كلما قلت فرص العمل وازدادت البطالة في المجتمع ، وهذا ما نلاحظه اليوم في العراق حيث ان هجرة رؤوس الأموال العراقية للخارج ساهمت الى جانب عوامل اخرى في قلة المشاريع الاستثمارية وبالتالي ارتفاع معدلات البطالة بين القادرين عن العمل وبين الشباب والخريجين واصحاب الشهادات العليا الذين خرجوا في انتفاضة اكتوبر 2019 مطالبين بحقهم في العمل الا ان السلطة وازلامها واجهتهم بالقوة المفرطة التي ادت الى استشهاد اعداد  كبيرة منهم .

3) تعطيل استثمار الموارد الاقتصادية داخل الدولة: اذ ان هجرة رؤوس الى الخارج تؤدي الى ضعف قدرة الاقتصاد العراقي في استغلال الموارد الاقتصادية المتوفرة في الدولة، حيث ان استغلال الموارد الاقتصادية في أي بلد يحتاج الى رؤوس اموال من اجل تحويلها الى موارد اقتصادية انتاجية سواء سلعية ام خدمية، ولذلك بسبب هجرة رؤوس الأموال العراقية فقد تعطلت الموارد الاقتصادية دون استغلالها بالشكل الأمثل.

4)  استنزاف الاحتياطات النقدية للدولة: فهجرة الأموال العراقية تسبب استنزاف احتياطي الدولة من النقد الأجنبي حيث يزداد الطلب على النقد الأجنبي من اجل تحويله الى الخارج، ما يؤثر على مكانة الدولة الاقتصادية المتمثل في حجم الاحتياطيات النقدية لديها ويؤدي الى ارتفاع قيمة العملة الأجنبية بالنسبة للدينار العراقي بسبب زيادة الطلب عليها. كما ان زيادة الطلب على العملات الأجنبية نتيجة لهجرة رؤوس الأموال يخفض من احتياطي الدولة من هذه العملات.

ولغرض المحافظة على رؤوس الأموال العراقية في الداخل وعدم خروجها خارج العراق، لابد من تشريع قانون منصف للاستثمار ووضع خارطة طريق للمشاريع الاستثمارية في العراق حسب الأولويات الى جانب اعادة النظر في الرسوم الجمركية المفروضة على المستثمرين لتكون عاملا مشجعا للاستثمار وليست عاملا طاردا، اضافة الى ضرورة معالجة الروتين والبيروقراطية في دوائر الدولة واعتماد النافذة الواحدة في الحصول على موافقات الاستثمار مع توحيد القرارات وعدم تعدد الجهات واللجان الخاصة بالموافقات اللازمة لعملية الاستثمار. كما يعتبر استقرار الوضع السياسي والأمني عاملا مهما في عدم هجرة رؤوس الأموال العراقية ويساعد على جذب المستثمرين الأجانب للعراق. كذلك فإن مكافحة الفساد المالي والاداري المتفشي في اجهزة الدولة المختلفة وفي المنافذ الحدودية لها دور مهم في عدم الهجرة وترك المشاريع الاستثمارية الى جانب فرض الدولة للقانون ووضع حد للتدخلات العشائرية في عملية الاستثمار. ومن الضروري في هذا المجال من توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الانتاجية وفقا للاحتياجات التنموية مع اعادة الاعمار والتمية المستدامة.

فهل تتمكن الحكومة الجديدة بعد تشكيلها من نقل العراق نقلة نوعية جديدة وتحقيق التنمية الاقتصادية – الاجتماعية وتعمل على جذب رؤوس الأموال العراقية المهاجرة مع جذب الاستثمار الأجنبي؟