الدولة الحديثة ظاهرة اجتماعية سياسية قانونية، وهي التجسيد القانوني والسياسي والثقافي لمجموعة بشرية ذات علاقة وثيقة بالهوية الجماعية لهذه المجموعة البشرية التي تجسدها و قد أثرت الدولة الحديثة لكونها نتاج ومنتج الحداثة والعصرنة، كثيراً في المجتمعات التقليدية وغيرت من تركيبتها وتكوينها وشكلها، من هنا فالهوية جوهر التفاعلات التي ينتجها عقد بين مكونات الدولة ولكافة مكوناتها الداخلية. الدولة إطار كلي، ينتج عن تمازج مجموعة من العناصر، الأمة المكونة للجماعة السياسية، والقيم والقوانين المكونة للنظام، والإقليم المكون للوطن ، والمؤسسات الإدارية (المدنية والعسكرية) المكونة للسلطة، وروح وجوهر هذا الرابط والنظام الكلي المسمى بالدولة ، وكلما تمازجت وتناغمت واتحدت هذه العناصر ببعضها البعض في الوعي والثقافة والتشريع والتطبيق، كلما تكاملت وتنظمت وترسخت أسسها؛ كلما قويت الدولة وتجذرت، ومن هنا فبقاء الدولة مرتبط بفاعلية الهوية وقدرتها على البقاء والتجديد والتطور. بناء الدولة عملية تتعلق بتأسيس، وإنشاء، وتقوية بنية المؤسسات، وقدرات الدولة، أي أن بناء الدولة يتم بصورة أساسية على المستوى المؤسساتي، ولكن هذا لا يكفي لأنَّه يحتاج إلى الاعتماد على الفاعل السياسي الذي يتوقف عليه تكوين ووجود هذه الدولة، ومن هنا نرى: بأن هذه العملية ترافقها عملية أخرى على المستوى الاجتماعي والثقافي وهي بناء الأمة، وهي عملية تهدف إلى خلق وإنشاء هوية جماعية لكي يستطيع جميع أفراد هذا المجتمع التماهي والتماثل مع بعضهم في الدولة. نشأة الدولة الحديثة أدت إلى إبراز مسألة وإشكالية الهوية الوطنية والهوية القومية مقابل الهويات التقليدية السابقة للجماعات البشرية، لأن مسألة الهوية الوطنية والقومية لم تكن ذات تأثير بالنسبة للمجتمعات داخل الإمبراطوريات الكبيرة والواسعة والأنساق السياسية السابقة على نشأة الدولة الحديثة.  لقد قادت التطورات الاقتصادية المعاصرة ونمو المدن والعولمة، وتزايد الهجرة والتقارب المتزايد بين المجتمعات في العالم المعاصر، الناس إعادة التفكير بهوياتهم وتعريفها بلغة مشتركة أكثر حميمية ودقة، فبدأت الهويات الثقافية والقومية الثانوية والمحلية تتقدم على الهويات الوطنية الأكثر اتساعاً، والناس ينتمون إلى أولئك الذين يشاركونهم الوعي الإثني المشترك والديني والتقاليد والأصل المشترك والتاريخ المشترك. وفي علاقة توسع القاعدة الجماهيرية لممارسة السلطات أي المشاركة السياسية والهوية، يقول (هنتنغتون) بأن الديمقراطية تعني في الحد الأدنى أن يختار الشعب حكامه، وبأوسع من ذلك، أن يشارك في الحكومة، وهكذا تصبح مسألة الهوية مركزية ، إذ لا يستطيع الشعب أن يقرر إلى أن يقرر أحد من هو الشعب، وقرار من هو الشعب قد يكون نتيجة تقليد طويل الأمد. ويتقدم الجدل حول كيفية تعريف الهوية، ومن هو المواطن إلى الواجهة في مرحلة الانتقال من الحكومات الفردية إلى الديمقراطية وعندما تواجه الديمقراطيات كثيراً من المطالبين الجدد بالمواطنة، أي (المشاركة السياسية) والحقوق بصورة عامة، وبذلك ترتبط مسألة السيادة الشعبية، أي كون الشعب مصدر السلطات والشرعية في الحكم والدولة الحديثة بإشكالية الهوية الجماعية.

 لكل مرحلة زمنية من حياة المجتمعات، نمط وأسلوب محدد لطريقة وطبيعة حياة الإنسان والمجتمع حسب الظروف الاقتصادية ومستوى التطور العلمي والتكنولوجي في تعامل الإنسان مع بيئته، وهذه الأمور بدورها تحدد وتؤطر هوية الإنسان، وأن أي تغيير في هذه العناصر يؤدي به إلى أن يراجع نفسه وعلاقته ببيئته الاجتماعية وعلاقاته الاقتصادية والسياسية. وتتوسع آفاق رؤية الإنسان مع تطور إمكانياته التقنية للاتصال والإنتاج والسيطرة على الطبيعة، وبالتالي تتوسع رقعة تعامله مع الطبيعة والمجتمع، لأنه مع اكتشاف الالة بدأت رحلات الإنسان للأماكن البعيدة وإزداد معها احتكاكه واختلاطه بالآخرين وإنفتاحه أكثر على العالم الخارجي، و تزداد مع ذلك قدرة الإنتاج وطبيعته وتنشأ المدن الكبيرة..                                 

ومن هنا يكتشف الإنسان هويته الفردية والجماعية، ويزداد المجتمع تعقيداً وتنوعاً، وتأخذ الدولة الحديثة مكان الاقطاعيات والامبراطوريات، وتظهر مفاهيم مثل القومية، الأمة، المواطنة، العقد الاجتماعي، والسيادة الشعبية، وحقوق الإنسان، والمشاركة السياسية، والديمقراطية... الخ. وتحل الهوية القومية محل الأنماط الأخرى السابقة للهوية مثل الهويات الصغيرة ما قبل القومية (القبلي، المناطقية والطائفية والمذهبية)، والهويات الواسعة . وفي عصرنا الراهن عصر الانترنيت وتوافر المواصلات السريعة والاتصال مرحلة انتهاء الحدود بين المجتمعات، وأصبحت الحدود القومية واهنة، وأصبح العالم مرة أخرى قرية كما كان في المرحلة الأولى، ولكن قرية عالمية واسعة وشاملة تتضمن كل البشرية معاً. إن المستوى التكنولوجي يؤثر في طبيعة العلاقات بين البشر ويحددها، وبالتالي يؤثر في هويتهم، وفي المرحلة الأولى حيث المستوى التقني متدني يصاحبها مستوى ضعيف من العلاقات والاتصال والسيطرة ضعيفة على الطبيعة، ونمط معين من الهوية (على المستوى الفردي والجماعي)، وفي مرحلة تطور التكنولوجيا وتزايد السيطرة على الطبيعة وتجاوز الإنسان الأطر الضيقة للهوية والعلاقات (الفردي والجماعي) وتنشأ الدولة الحديثة والأمة.                                                    

وتقرير المصير في إطار دولة ذات سيادة معيارا للتمييز بين المجموعة الإثنية العرقية ( والمجموعة القومية ) . المجموعة ألإثنية العرقية هي مجموعة تكون لأفرادها بعض الأسس المشتركة مثل الأصل، اللغة، الثقافة، التاريخ وأحيانا الديانة. وهذه المجموعة ذات هوية مشتركة، تطمح إلى تقرير مصيرها. القومية توحّّد المجموعة وتميّّزها عن مجموعات أخرى. من هذه الأسس اللغة، الأصل، الثقافة والتاريخ وأحيانا الديانة وهذه جميعها لا إرادية. أي أن الانتماء إلى القومية بناء على هذه الأسس ليس بإرادة الفرد، لكن الإنسان يولد فرداً من أمة معينة. ومع ذك فإن هذه الأسس التي تضمن بلورة المجموعة الثنية، ليست الأسس الوحيدة اللازمة لبلورة أية قومية. مع مرور الوقت تبيّّن أن بلورة القوميات الشعوب ( نجمت إلى حد كبير عن تكون أسس إضافية تعتبر خيارية). هذه الأسس - الأيديولوجية والقيم المشتركة توحّّد بدورها المجموعة وتبني منها القومية صادرة عن إرادة مشتركة وعن خيار الأفراد لتجمع ضمن مجموعة قومية فمثلا، الأمة الفرنسية تكونت بعد الصراع السياسي الذي دار أثناء الثورة الفرنسية هذه الأمة تبلورت على أسس أيديولوجية الثوار الذين آمنوا بقيم الحرية، المساواة والأخوة، وناضلوا من أجل تحقيقها، في إطار دولة فرنسية. أيديولوجية الثورة الفرنسية المرتكزة على هذه القيم أصبحت محورا للبلورة القومية والهوية القومية المشتركة للأمة الفرنسية. كذلك تبلورت الأمة الأمريكية بعد انفصالها عن الإطار السياسي البريطاني وبناء إطار ومؤسسات سياسية جديدة ومستقلة. هذه المؤسسات والتراث السياسي الذي تطور الى ما هو عليه الان..

ان مصدر الشرعية في جذر إرادة الدول القومية الدستورية و أساسها هو مبادئ ليبرالية أعلى من قوانين أو قرارات الدولة القومية ( من وجهة نظر الامريكان). ويرى الأوربيون أن كون القرار اتخذ بحسب الإجراءات الديمقراطية لا يعنى كونه موافقا لتلك القيم الليبرالية. لكن الاعتقاد في مثل هذه القيم المجردة قد يكون هو نفسه سببا في سوء استعمال النخب لها لأنه سيعطيها الحق في أن تفسر إرادة المجتمع الدولي بحسب ما يروق لها. المشكلة الثانية بالنسبة للمفهوم الأوربي هي من الذي يملك قوة التنفيذ. إن المجتمع الدولي وهو لا حقيقة له في الواقع فيما يتعلق بقوة التنفيذ لأن هذه إنما تملكها الدولة القومية. قليلون الآن هم الذين يدافعون عن مبدأ السيادة بعد ان اصبحت السيادة غير مطلقة وتداخلت مصالح الدول وكذلك الدفاع عن حقوق الانسان . لكن القضية هي من الذي له أن يقرر انتهاك السيادة وعلى أي أساس. الأوربيون لا يقرون انفراد الولايات المتحدة بمثل هذا القرار ويرون أنه لا بد من إيجاد نظام عالمي قائم على قاعدة ومناسب مع ظروف عالم ما بعد الحرب الباردة. إنه يزعجهم إعلان الرئيس بوش عن مبدأ فضفاض للمبادرة بالهجوم ضد الإرهابيين أو الدول التي تدعم الإرهاب تكون الولايات المتحدة فيه هي وحدها التي تقرر أين ومتى تلجأ إلى استعمال القوة. هذا معناه أن الولايات المتحدة تطلب من المجتمع الدولي أن يفوضها هي وحدها في اتخاذ مثل هذا القرار لأنها لا تقبل أن تمارسه دولة كروسيا مثلا. يرى بعض المفكرين الأمريكان أن من أسباب هذا الخلاف أن الأوربيين بما أنهم أضعف من الولايات المتحدة فإنهم يرون أن من مصلحتهم التقيد بمعايير و بقواعد عالمية تكون ملزمة لأمريكا. أما أمريكا فترى أن من مصلحتها الانفراد بالقرار لأنها أقوى من غيرها سلاحا واقتصادا وتقنية.