لقد كان ضربا من الخيال ان يتحدث سناتور امريكي وبشكل علني عن المثل الاشتراكية الديمقراطية والافكار الانسانية التي تحملها مع العدالة الاجتماعية والمساواة، في بلد كالولايات المتحدة الامريكية المعروفة بمواقفها من حركات التحرر والانظمة المؤيدة للفكرة الاشتراكية الديمقراطية، لا بل ما زال الكثير من المناهج الدراسية والافكار السائدة متأثرا بالحقبة المكارثية سيئة الصيت وآثارها المدمرة على حرية التفكير داخل المجتمع الامريكي في معاداة الشيوعية والاشتراكية والانتقام من حملة تلك الافكار.  لكن كل تلك المخاوف تتبدد حينما تستمع لخطابات السناتاتور الامريكي عن ولاية (فيرمانت) بيرنارد (بيرني) ساندرز، مما يؤيد فكرة ان المثل والافكار الانسانية لا يمكن الحجر عليها او محوها من ذاكرة الشعوب بتسليط الارهاب.  اما المفارقة الكبرى التي يعرفها القاصي والدّاني فهي عن الاغلبية العظمى من مؤيدي حملات (ساندرز) والعاملين معه بأنهم من الشباب والطلاب والفئات العمرية الوسطى، وهم بالضرورة مستقبل هذا الشعب!

ولد بيرنارد ساندرز في مدينة بروكلين بولاية نيويورك عام ١٩٤١، من ابوين ذوي اصول بولندية كان اقرباؤهم قد شهدوا بطش القوات النازية باليهود ابان الحرب العالمية الثانية، مما ترك آثارا كبيرة على تفكيره بالعمل والمناداة بمجتمع العدالة والمساوة، وربما تكون شخصية هتلر وأعماله وجرائمه قد أثارت عنده النزعة الانسانية المفرطة كردة فعل. لم تكن عائلتهِ فقيرة لكنها لم تكن ميسورة الحال ايضا، فقد كان الابوان يسعيان لتلبية حاجات العائلة الاساسية. بعد ان أنهى الثانوية في مدينة بروكلين بفترة قصيرة فقد والدته، وبعدها بسنين رحل والده. أنهى دراسة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة شيكاغو عام ١٩٦٤. بعد تخرجه من الجامعة عاد الى نيويورك وعمل مدرسا، ثم معاونا في حقل المعالجة النفسية ثم نجارا.

يقول ساندرز إن أهم مراحل حياته وبدايات نضجه السياسي كانت فترته الجامعية في شيكاغو، وهذه وجدت انعكاساتها في شخصيته ونشاطاته لحد هذا اليوم، حيث تمكن من الاطلاع وقراءة مؤلفات كثيرة لشخصيات امريكية واوربية منها: توماس جيفرسون، ابراهام لنكولن، جان دموي، كارل ماركس وايريك فروم. انضم في بداية الامر الى (اتحاد الشباب الاشتراكي) التابع للحزب الاشتراكي الامريكي، ونشط في حركة (الحقوق المدنية) ولجنة الطلبة السلميين المناهضين للعنف، وفي العام ١٩٦٢ قاد مظاهرة للطلبة ضد عميد الجامعة احتجاجا على سياسة التمييز العنصري في الاقسام الداخلية للطلبة وللمطالبة بإلغاء هذا الفصل غير اللائق بالحياة الجامعية، ونجح بمطالباته بعد عام.   وفي العام ١٩٦٣ كان ضمن التظاهرة الكبرى في واشنطن تلك التي القى فيها الزعيم الوطني مارتن لوثر كنج خطابه الشهير "عندي حلم". وفي تلك الايام وما تلاها كان نشطا في مظاهرات الشباب ضد الحرب على فيتنام.

في العام ١٩٦٨ انتقل الى ولاية (فيرمونت) وعمل ايضا في النجارة، وصناعة الافلام التوجيهية القصيرة وفي الكتابة، وخاض اولى تجاربه السياسية ابتداء من العام ١٩٧١ في الانتخابات المحلية بمدينته وانتخابات الولاية، حتى أفلح في  العام ١٩٨١ كمرشح مستقل حيث فاز بمنصب (عمدة مدينة برلنتون) التي تعتبر اكبر مدينة في الولاية وأعيد انتخابه لثلاث دورات متتالية، واثناء خدمته تلك تمكن من  تحقيق التوازن في ميزانية المدينة، واصبحت مدينته اول مدينة امريكية في ايجاد ميزانية مخصصة  للسكن لذوي الدخل المحدود، كما عمل على تحديث مركز المدينة والمناطق المطلة على الماء لجعلها وجهات ترفيهية وسياحية، وفي العام ١٩٨٧ اعتبرت جريدة (يو اس نيوز اند وورلد ريبورت) بيرني ساندرز كأفضل عمدة في عموم امريكا، وفي العام ٢٠١٣ اعتبرت مدينة (برلنتون) كأفضل مدينة امريكية.

في عام ١٩٩٠ انتخب عضوا في الكونغرس الامريكي، وكان ثاني شخصية مستقلة في تاريخ امريكا يدخل الكونغرس وأول شخصية اشتراكية ايضا كما قالت صحيفة الواشنطن بوست آنذاك.  وفي سنته الاولى كان ينتقد كلا الحزبين، الجمهوري والديمقراطي ويعتبرهما اداة بيد الاغنياء. لقد وقف ضد الحرب على العراق عام ١٩٩١ و٢٠٠٢، واحتلاله عام ٢٠٠٣، ووقف ضد (القانون الوطني للحماية ـ باتريوت اكت) لأنه يسيء الى الحريات المدنية والشخصية، كما دعا الى تقنين حمل السلاح الشخصي عام ١٩٩٤، والى وقف التسهيلات الهائلة التي تقدمها الدولة للبنوك والمصارف، وفي العام ٢٠٠١ ساند التصويت على قانون استخدام القوة لمحاربة الارهاب.   منذ العام ٢٠٠٧ أصبح عضوا في مجلس الشيوخ الامريكي.

دخل بيرني ساندرز معترك الانتخابات الرئاسية في انتخابات ٢٠١٦ كمرشح مستقل لكن ضمن تحالف مع الحزب الديمقراطي، وبرع في جولاته الانتخابية التي طرح فيها أبرز تصوراته ومفاهيمه والتي لاقت تجاوباً وقبولاً كبيرين من قبل فئتي الطلبة والشباب ومتوسطي الاعمار ومن كلا الجنسين وكل القوميات والاطياف.  لقد رفض المرشح بيرني ساندرز اي دعم مالي من المؤسسات الكبيرة وكان يصر على ان يكون تمويل حملته الانتخابية من التبرعات الصغيرة للمواطنين، ودعا الى تطوير البرامج القائمة حاليا مثل الضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية المستديمة والمتوافقة مع نظام الاشتراكية الديمقراطية المعمول بها في اوروبا والدول الاسكندنافية بالذات، وطالب بان يكون لأمريكا مواقف اكثر جرأة من التغيرات البيئية والمناخية   ونادى بالإصلاح المصرفي ووضع حد لسياسة (وول ستريت) والتلاعب بمصير الاقتصاد.  وعشية انعقاد مؤتمر مندوبي الحزب الديمقراطي لتحديد المرشح الاخير لمنافسة مرشح الحزب الجمهوري، فقد خسر ذاك النزال بنسبة ٤٣ في المائة الى ٥٥ في المائة لمصلحة هيلاري كلنتون. ويومها طلب من كل مؤازريه ان يساندوا مرشحة الحزب الديمقراطي في الانتخابات للفوز على مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب، مؤكدا على ضرورة استمرار روح (الثورة السياسية) التي أطلق شرارتها عشية دخوله معترك الانتخابات الرئاسية.

وفي شباط من هذا العام اعلن بيرني ساندرز مجددا ترشحه ضمن الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية المزمع وقوعها في العام ٢٠٢٠ ضد الرئيس الجمهوري دونالد ترامب. اما اهم بنود برنامجه الانتخابي فهي:

ـ يؤيد حقوق العمال

ـ يدعو للمساواة الاقتصادية في المجتمع

ـ يدعو الى نظام رعاية صحية موحد يشمل كل المواطنين

ـ يدعو الى ضمان الدفع لحقوق العاملات لفترة الامومة

ـ مجانية التعليم لكل المراحل الدراسية بما فيها الجامعية

ـ ان نمتلك الجرأة في مناقشة القضايا الاجتماعية المعقدة

ـ المزيد من الصرامة في قوانين حيازة الاسلحة

ـ سياسة انسانية واضحة ومرسومة تجاه قضية الهجرة

ـ يدعو الى تخفيض الميزانية المخصصة لوزارة الدفاع، وصرف الفائض على المشاريع الصحية والتعليمية في البلد

ـ تفضيل الحلول السياسية والسلمية على سواها في العلاقات الدولية

ـ تعزيز التعاون الدولي، وعدم التقوقع

ـ التأكيد على حقوق العمال، والحفاظ على البيئة في المؤتمرات الدولية

ـ ان يكون للولايات المتحدة دور أكبر اثناء النقاش حول الاتفاقيات الاقتصادية الدولية

ينطلق بيرني ساندرز في حركته لإحداث التغيير في الولايات المتحدة من خلال حركة وطنية تقدمية شاملة لعموم الوطن تأتي عن طريق ثورة سياسية بديلا عن الثورة العنفية.

قد لا يحظى بالفوز هذه المرة، وقد يفوز! وحتى لو انتصر وأصبح هو الرئيس فهذا لن يكون الا بداية المشوار الطويل والصعب في تغيير الولايات المتحدة نحو مجتمع العدالة والمساواة بعيدا عن مجتمع حكم فئة صغيرة جداً تسيطر على معظم واردات البلد. ان حركة المرشح بيرني ساندر وقبلها ومعها حركة "حزب الخضر" و "اتحاد جميع الالوان" وعمل الاتحادات المهنية والنقابات، هي مؤشر مهم على ديناميكية هذا المجتمع وتأثر نخبه المثقفة بما يجري في البلاد والعالم، وكما ردد مناضلو حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة ومعهم اليوم ساندرز:

 سنتغلب في النهاية!

عرض مقالات: