حين تكون الروح هادئة و الوقت جميلاً بمعانيه الأصيلة فأن الذاكرة تختمر بطريقة عجيبة، تعود إلى وراء 46 عاماً ، مهذبةً بصليل النضال بوجه الدكتاتورية المتجلمدة بالنار والقمع واختطاف المناضلين  و اغتيالهم غدراً  في افاق الوطن كله  .

هكذا أتأمل  ، في هذه اللحظة الفاجعة ، واحدة من ذكريات مناضل اسمه (شاكر محمود البصري) استشهد  على يد مخططي و منفذي جهاز مخابرات صدام حسين وجلاوزته  في النفثات و العقد  الجرمية القاتلة  من أشباه المجرم الفتاك ( ناظم كزار) و غيره من السفاكين  الصغار، المذرورين بكل حدب وصوب من بلاد الرافدين،   يبحثون عن انبل المواطنين العراقيين من اصحاب الاصمعي و المتنبي و يوسف سلمان يوسف وحسين الشبيبي  وابي العلاء المعري   و جماعة المعتزلة ، و من محبي جميع شهادات  الرسائل والكتب واقاصيص الشهامة الإنسانية المعذبة  في تضحيات حسين احمد الرضي  ، إّذ   قدّم  للبشرية  في قصر النهاية ، ببغداد ، ما هو أكثر بلاغةً  من  رسائل اخوان الصفا و خلان الوفا   . كان المجرمون لا يرتاحون الا اذا غرزوا سكينهم غدرا في قلوب ضحاياهم  من أمثال المناضل الوطني – الشيوعي المتضاعف بقلبه حب وطنه و شعبه  شاكر بن محمود البصري . كان اغتيال هذا المناضل قد تمّ بطريقة حيوانية ، متوحشة و بشعة .  كان المخطط المحنك موضوعاً على أساس اغتيال الأب و ابنته  ، اي  اغتيال شاكر و طفلته (اماني) ذات السنوات  الأربع . لكي يزيدوا السواد حلكة في تلك الليالي المذمومة بخباثة الأجهزة الأمنية ونزواتها الجرمية .  

عادت بي الذاكرة، اليوم، الى مناسبة عمرها ٤٦ عاماً حين تحركتْ براغيثُ المخابراتِ البعثية الصغيرة ، المسمومة بالحقد الشديد على النجوم النضالية الكبيرة . استرذلتْ البراغيثُ،  بشكل شانئ  ، قبيح و  فظيع ، منحرفة عن كل حق ، متوجهة نحو كل فعلٍ دنيءٍ،  اجرامي و باطل . كان الأحمر  شاكر  محمود  البصري ، واحداً من  النجوم المضيئة في سماء الوطن  ، بل كان نموذجا  من نماذج الشيوعيين العراقيين،   الذين لم يخالجهم  في أي يوم من ايام حياتهم ، حتى و لا ابسط   نوع من انواع التردد ولا اي شكل من أشكال الوسواٍس و لا الحرج في مسيرتهم الشبابية - النضالية

في بداية سبعينات القرن العشرين اصبح جهاز المخابرات الصدامية  ، بسرعة مذهلة،  عنكبوتاً  ، قاتلاً، عملاقاً،  موجوداً على شبكة الطرق البغدادية كافة،  لاصطياد المناضلين الوطنيين (ستار خضير و محمد الخضري و عبد الامير سعيد و شاكر محمود)  و غيرهم  ،  من الناشطين المتوزعة مهماتهم  الوطنية بمختلف المناطق البغدادية  ، لكن الفاشيين ونظامهم البوليسي لم يدركوا ان هؤلاء الشهداء الوطنيين  ليسوا مجرد قرابين شعبية في النضال من اجل الحرية و الديمقراطية فحسب ،  بل ان كل واحد منهم استقر بالمكان الذهبي في أعماق القلوب الجماهيرية،  داخل مدرجات الفعاليات النضالية،  التي أسقطتْ تجمعاتها أسس  النظام الدكتاتوري البعثي الى الأبد.  استقر الشهيد شاكر محمود وآلاف الشهداء العراقيين في اعلى منصات قوس قزح النضال      الوطني .

سيظل شاكر محمود و كل الشهداء اسماءً لن تزول من السماء العراقية الزرقاء و لا من الارض الرافدينية الخضراء ذات القيمة الجمالية المزدهرة بكل الألوان

أتذكر ، اليوم ، شاكر محمود البصري ، ليس لكونه وافى شعبه بالتضحية القصوى بكل مقادير حياته  ، بل لكونه نموذج المجد الباسم في بساتين النضال الجماهيري .. انه نموذج روّض كل صعاب النضال  و قيوده  من دون تقصير ومن دون نقصان..   انه  نموذج صارخ و رائع  في ملكوت النضال و  التضحية  من اجل حقوق الشعب العراقي الكادح المسكين .اغتاظت السلطة الحاكمة الفاشية من جبينه الناصع حتى اعدت خطة اغتياله مع ابنته رضيعة العز و  المجد و الرفعة   بنهار واحد و بجريمة مقرونة بكل معاني الخسة و الوضاعة و  الدناءة .

وقعتْ  الطفلة (اماني) على رصيف الشارع بلحظة اغتيال ابيها ، فظل    صدرها الرقيق مليئاً بالحب الدافئ لوالدٍ  نجحوا بعملية وأد حياته المليئة بكل ينابيع المعرفة ، لكن صوت بكائها و صراخها الطفولي صار   زاجراً ، مدى الحياة، أولئك  الاشقياء المجرمين ، حين جفلوا هاربين بسيارتهم الفوكس واكن السوداء ،  مختبئين داخل مقرهم السري الأسود  بقصر النهاية بعد ارتكاب جريمتهم الحالكة .    

كم اشعر بهزة في أعماقي و انا اتذكر لفحة هواء يوم  ١١/١١/١٩٧٢ أصابتني و اصابت جميع أصدقاء الشهيد شاكر محمود  ورفاقه بتلك الجريمة الوقحة . انها لفحة مضنية حارة  كان هدفها إنهاء حياة مناضل جميل  لا يهاب اي نسبة من نسب التضحيات حتى بجديته في التضحية بحياته

وا حسرتاه على ذكرى الشهيد الأحمر ، شاكر  بن محمود ، العاشق لشعبه كعشقه للهواء و الماء و الشمس و القمر.

عرض مقالات: