منذ نهاية عام 2002 بدأت طبول الحرب تقرع، وتعلو اصوات محبي السلام لتجنب العراق ويلات الحرب التي تريد شنها الولايات المتحدة وحلفاؤها، بتهمة امتلاك العراق اسلحة الدمار الشامل، ودعم   المنظمة الارهابية “ القاعدة” ودوره في العملية الارهابية في 11 ايلول.

وراحت الجيوش تتجمع في منطقة الشرق الاوسط والخليج العربي تحديدا، وتوسع التحالف الدولي، وانقسم العالم الى معسكرين، معسكر الحرب والاحتلال، ومعسكر اخر ضد الحرب والاحتلال، هذا المعسكر الذي حشدت له قوى اليسار والديمقراطية والسلام رافعاً شعار “لا للحرب... لا للديكتاتورية”. ومن جانب اخر كان شعبنا العراقي يعاني من سياسة النظام الديكتاتوري واساليبه الوحشية في قمع الحريات والحروب ووطأة الحصار الاقتصادي الدولي الذي سبب اضراراً اقتصادية واجتماعية وثقافية على الشعب العراقي، ولم يؤثر على النظام الحاكم الجاثم على صدور ابناء شعبنا.

كنا نعيش اوقاتا عصيبة حيث ان الوقت يضيق، وتقترب لحظات الحرب، كان حزبنا الشيوعي قد حدد سياسته وموقفه من ان عملية انهاء النظام الدكتاتوري ينبغي ان تنجز بفعل العامل الداخلي من خلال توحيد جهود القوى الوطنية، دون التعويل على العامل الخارجي، ورفض المشاركة في مؤتمر لندن نهاية 2002 برعاية امريكية – بريطانيا، التي شاركت فيه معظم القوى السياسية المعارضة للنظام آنذاك، وعبر عن موقفه في التلازم بين عملية اسقاط الديكتاتورية وموقفه الرافض للحرب والاحتلال وتداعياتها على مستقبل البلاد وسيادتها واستقلالها والذي يفتح الابواب امام عواقب وخيمة.

اكدت جميع المؤشرات والاستعدادات ان الحرب واقعة لامحال حتى ان المنظمات الدولية اخذت موقفاً رافضا للحرب وللديكتاتورية، وقد درست قيادة الحزب الاوضاع الداخلية والدولية وزيادة عزلة النظام الصدامي وضعف مؤسساته وخاصة العسكري. بدأ الحزب يهيئ الخطط والتوجهات لممارسة دوره الطبيعي في نقل كامل نشاطه السياسي والجماهيري والتنظيمي الى داخل الوطن في حال انهيار الديكتاتورية، ومن بين تلك القرارات التنظيمية عملية تهيئة الكوادر الحزبية وعموم اعضاء الحزب، والاستعداد للعودة الى الوطن لمن هو في الخارج.

كانت منظمة السويد من بين اكبر منظمات الحزب قبل 2003، وتضم الكثير من الكوادر الحزبية المجربة، الذين ابدوا استعدادهم الى التوجه الى الوطن، كان مكتب لجنة السويد يتكون من 5 رفاق (ايوب عبد الوهاب “ابوبدر”، ونعمان السهيل “ابو رائد”، جاسم محمد عيسى “ م. هشام”، بسام محي” ابو رافد”، عبد الزهرة “ابو تحسين”) ينتظر توجيهات قيادة الحزب. جاء قرار القيادة بتوجه الرفاق ايوب وجاسم وبسام الى الوطن في فترة لا تتجاوز الاسبوع الثاني من شهر اذار 2003، وهذا ما حصل لعدد اخر من الكوادر الحزبية من بلدان اخرى.

وكان عبورنا الى كردستان سهلاً من شمال سوريا الى كردستان عبر نهر فيشخابور، قام المركز القيادي في شقلاوة بتهيئة خطة التحرك وتوزيع الكادر على عدة محاور (سليمانية، اربيل، دهوك) وان تكون مهمة الرفاق مراقبة ومتابعة الاحداث الجارية، وتنظيم العلاقة مع الجماهير المحيطة بمنظماتنا في كردستان، وتنظيم علاقات مع الاحزاب الاخرى المتواجدة، تفعيل الدور الاعلامي، ورفع مستوى وعي الجماهير، والاستعداد للدخول الى عمق الوطن واعادة بناء التنظيم الحزبي.

بدأت الحرب في ليلة 19-20 اذار، كنت حينها في شقلاوة اتقاسم مع الرفيق (ابو بدر) الغرفة، حيث سمعنا صوت الرفيق الراحل علي العقابي (ابو برافدا) من خارج البيت يبلغنا بان الحرب قد بدأت، في حينها كنا نتابع الاحداث عبر فضائية (الجزيرة) كانت تلك المشاهد تعتصر قلوبنا للدمار والمآسي التي يتعرض لها شعبنا من الاستخدام المفرط لمختلف انواع الاسلحة المدمرة، وصار لدينا يقين بأن عمر النظام الصدامي قد انتهى وان العد التنازلي قد بدأ، وانها مسألة وقت فقط لا غير.

بعدها بيومين توجهت مع الرفيق فارس كريم (ابو حياة)، والرفيق عضيد شلتاغ (ملازم احسان) والرفيق جاسم محمد عيسى (م. هشام)، الى دهوك، واقمنا في مقر محلية دهوك للحزب الشيوعي الكردستاني، كنا قد شكلنا محوراً قيادياً يضم مناطق الموصل وجنوبها، وجرى تحركنا وفق خطة مدروسة في تنظيم العلاقات مع الجماهير المحيطة بنا، والتي كانت مذعورة جداً من الحرب، خاصة وان الشعب الكردي عانى الكثير من النظام الدكتاتوري، ورغم الشتاء البارد في شهر اذار توجهت آلاف العوائل للإقامة في الجبال خوفاً من الحرب الامريكية وبطش النظام الديكتاتوري، والذي كان يهدد باستخدام أبشع الاساليب ضد الشعب الكردي والعراقي عموماً.

كان سير الحرب يزيدنا قلقا، وبدأ نشاطنا الاعلامي يتصاعد في التعريف بموقف حزبنا الرافض للحرب بأعتبارها الاسوء والاشد تدميراً، وانها، اي الحرب، ستجلب الاحتلال وليس الديمقراطية، وان الوسيلة الافضل لإنهاء الديكتاتورية ان تكون بوحدة القوى الوطنية وجميع ابناء شعبنا الخيرين، كان الحزب يناشد المنظمات الدولية وخاصة مجلس الامن والامم المتحدة وشعوب العالم للتضامن مع الشعب العراقي ووضع حد لهذه الحرب المدمرة.

كنا نشاهد من سماء دهوك الصافية استخدام الأسلحة الحديثة خاصة الطيران الحربي في قصف مدينة الموصل الوديعة، وتوسع العمليات العسكرية البرية، وتحول العراق الى حقل لتجارب العديد من انواع الأسلحة الامريكية والبريطانية وغيرها، كانت المآسي والمعاناة تتضاعف على كاهل المواطنين الذين يبحثون عن قارب النجاة ويتنقلون من مدينة الى اخرى وفي مختلف قصبات المحافظات، بحثا عن الأمان، وكنا نرى ان الدمار اصاب البنى التحتية للمؤسسات الصناعية والخدمية، وانحلال الجيش والمؤسسات الامنية والمدنية.

في التاسع من نيسان دخلت القوات المحتلة الغازية بغداد الجريحة المنكوبة بعد قتال داخل المدينة ومحيطها وتم الإعلان عن سقوط النظام الدكتاتوري. وفي العاشر من نيسان دخلنا الى مدينة القوش شمال مدينة الموصل، وكانت للحزب ركائز تنظيمية وعوائل شيوعية. كانت المدينة تعيش حالة رعب بعد الدمار الذي اصاب عددا من المباني واتذكر مقر فرقة حزب البعث وبعض الربايا العسكرية القريبة والشوارع المدمرة، رحب الاهالي بقدومنا، وفي الحال تحول بيت الرفيق الراحل (توما توماس ابو جوزيف) الى مقر للحزب وجرى استقبال العشرات من الشخصيات واهالي المدينة، وفي نفس الوقت دخلت المدينة قوات من البيشمركه التابعة للحزب الديمقراطي الكوردستاني وقوات من الحركة الديمقراطية الاشورية.

وفي يوم الحادي عشر من نيسان توفرت لنا فرصة الدخول الى مدينة الموصل، وفي حينها كلفني الرفيق ابو حياة مسؤول المجموعة للتوجه الى مدينة الموصل مع ثلاثة رفاق آخرين، كانت المدينة عبارة عن جبهة قتال ومواجهات عسكرية بين بقايا البعثيين الصداميين والعسكريين وقوات مشتركة من البيشمركة والامريكان، وكانت مهمتي بأن أقوم بتحديد مكان جيد في إحدى المباني وفتح مقر للحزب في مدينة الموصل، وفعلاً تمكنت مع مجموعتي من السيطرة على مقر الاتحاد الوطني لطلبة العراق. في نفس اليوم طلب الرفيق وضاح عبد الامير (ملازم سعدون ) ان أتوجه من الموصل الى دهوك ومن ثم الى شقلاوة، تركت الموصل ووصلت شقلاوة في اليوم التالي، وهناك ابلغني الرفاق التوجه الى بغداد .انطلقنا من مقر الحزب في شقلاوة بثلاث سيارات، حيث كان في السيارة الاولى الرفاق (كريم فارس- ابو حياة، علي ابراهيم- ابو عوف، بسام محي- ابو رافد، عمار صفاء الحافظ)، والسيارة الثانية الرفاق (جاسم الحلفي- ابو احلام، جاسم محمد عيسى (م. هشام)- ابو يسار، شاكر الدجيلي- ابو منير) وفي السيارة الثالثة الرفاق (ابو كرنفال، عضيد شلتاغ- ملازم احسان واثنين اخرين من الرفاق المرافقين). كما سبقنا في النزول عن طريق ديالى عدد من الرفاق كان بينهم الرفيق علي مهدي (ملازم ماجد) والرفيق كاظم الحسني (ابو محمد). وبعد مرورنا في كركوك كان الطريق الى بغداد فيه مشاهد من الفوضى وعدد من سيطرات الجيش الامريكي وحركة سيارات المواطنين، كانت تلك المشاهد مزيجا لمشاعر الناس بين الفرحة لسقوط الديكتاتورية والمذاق الاول للحرية، وماسي الحرب ومظاهر الخراب والدمار وخاصة ذلك الفراغ السياسي والامني، وحالة من الفوضى والحواسم والفرهود ، أي، النهب والسرقة والتخريب لممتلكات الدولة العامة، لا يمكن أن ننسى مشاهد فرار افراد الجيش وتدمير واسع للمعدات والاسلحة المتنوعة للجيش وخاصة في معسكر (فادية) في الموصل ومعسكرات كركوك وربايا المناطق المحيطة بكردستان والوحدات العسكرية في ديالى ومحيط بغداد.

دخلنا بغداد في الثالث عشر من نيسان حيث فيها مشاهد الذعر والخوف والتشرد والحرمان والعوز بعد نهاية حرب وقتال ضار وقاس، فالكثيرون لا يعرفون مصيرهم بعد سقوط النظام، ولم نشهد مظاهر فرح عارمة بدخول الغزاة والمحتلين من الامريكان، وانما المسرة في سقوط نظام صدام والخلاص من اساليبه الوحشية، في تلك الساعات الاولى كان صدام وزمرته يختبئون في بغداد ومنهم من توجه الى المحافظات وخارج العراق.

كانت الحياة في بغداد متوقفة، كان معنا في السيارات بيانات ومنشورات الحزب واعداد من جريدة طريق الشعب السرية، وهكذا قررت مجموعتنا التوجه الى ساحة الفردوس، حيث وجدنا تمثال الطاغية صدام ساقطا ومدمرا لمعظم اشلائه فرأسه واجزاء من التمثال سحلت الى وسط شارع السعدون، هناك في ساحة الفردوس بدأنا بتوزيع بيان الحزب انا والرفيق ابو حياة متحدثين مع الجمهور والمارة والسيارات عن موقف الحزب من الحرب ودعوتهم الى رص الصفوف، حينها احدثنا ضجة كبيرة في الساحة ومحيطها، كان استقبال الناس لنا بفرحة ممزوجة بتساؤلات عن الحزب، و عن مصير العراق والمحتل الامريكي، وعن الحكومة القادمة وغيرها من المخاوف لتداعيات الحرب.

وفي اليوم الثاني توجهنا الى البحث عن اماكن للقاء مع الرفاق في بغداد والتوجه الى لملمة التنظيم، وكانت البداية ايضا في ساحة الفردوس حيث نجتمع وندشن نقاشات مع المواطنين، ومن بينهم شيوعيون، كانت لدينا صلات متواضعة وغير منتظمة مع عدد من الشيوعيين في بغداد. كنا نحقق اتصالات جيدة ونتوسع بسرعة كبيرة وبدأت جماهير الحزب تضغط علينا لاتخاذ قرارات تنظيمية وميدانية، وهكذا حققنا خطوات ملموسة منها:

  • تشكيل مركز قيادي في بغداد من الرفاق الذين دخلوا الى بغداد.
  • اعادة توزيع المهمات والتوجه الى المحافظات لإعادة بناء التنظيم وفتح مقرات للحزب بدعم واسناد ومبادرة من الرفاق في المحافظات.
  • افتتاح المقر الرئيسي في ساحة الاندلس في بغداد رسمياً في 20 نيسان 2003 حيث شكل ذلك اهمية كبيرة للشيوعيين والمواطنين عامة.
  • تنظيم الندوات والموسعات العلنية والمفتوحة للتثقيف والترويج لسياسة الحزب وموقفه من النظام المقبور زمن الحرب والاحتلال.
  • رفد الإعلام الحزبي بآخر الاخبار والتقارير عن الاحداث في بغداد والمحافظات.
  • التوجه الى توظيف الوسائل الإعلامية الفضائية المتواجدة حينذاك لعكس مواقف الحزب.
  • توجيه الجماهير بضرورة تنظيم لجان شعبية للحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة من النهب والسرقة والتدمير والحفاظ عليها.
  • اتخاذ قرار بتقسيم بغداد الى منظمتين في الرصافة والكرخ.
  • الاتصال بالشيوعيين القدامى والبعيدين عن التنظيم والمثقفين والأكاديميين والشخصيات الوطنية والاجتماعية.
  • تنظيم فعاليات مناهضة للتواجد الامريكي ومنها في 20 نيسان في ساحة الفردوس وإعلان فتح مقر الحزب.
  • اتخذت قيادة الحزب قراراً بتعليق عدد من فقرات النظام الداخلي ليتسنى للمواطنين الانتماء الى الحزب وعودة البعيدين عنه.
  • اتباع آليات تنظيمية مرنة في العلاقة مع المواطنين وفي اعادة بناء التنظيم الحزبي.

البدايات كانت صعبة تختلط فيها مشاعر مختلفة ومتناقضة، الا ان الهدف الرئيسي كان هو اعادة بناء الحزب، فرغم الظروف الموضوعية القاسية، والامكانيات الذاتية المتواضعة تمكنا من وضع اللبنات الاساسية لاعادة بناء الحزب بعد ربع قرن من الاضطهاد والحرمان والابتعاد عن الساحة.. تبقى شجرة الحزب سنديانة حمراء لا تزعزها العواصف ولا تقلعها الرياح، ممتدة في جذور العراق، يعمل وينشط تحت فيئها قوافل من الشيوعيين لتحقيق اهدافهم النبيلة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة من الرفيق بسام محي: حاولت عكس صورة الأوضاع قبل وبعد سقوط النظام الدكتاتوري في نيسان 2003، ودور الحزب في إعادة تنظيم صفوفه. اعتذر لأي خطأ ورد، فالأحداث مر عليها عشرون عاماً، واعتمدت على ذاكرتي في تدوين الاحداث.

عرض مقالات: