من معاناة الملايين المريرة وواقعهم المأساوي، تأتي عدالة المطالبة بالتغيير في اتجاه اقامة الدولة المدنية. ولا ريب أن مثل هذا التغيير، في ظل توازن سياسي واجتماعي مختل يميل لصالح قوى تأبيد الراهن، لا يمكن أن يتم الا عبر قوى تسعى اليه، لا قوى حاكمة تقف بوجهه، وتضع كل العراقيل أمامه دفاعا عن سلطتها وامتيازاتها ووجودها.

وبالتالي فان على القوى الساعية الى اقامة الدولة المدنية أن تدرك، أولا، أن مهمة التغيير المعقدة لا يمكن أن تنجز الا عبر حركة شعبية قادرة على احداث مثل هذا التغيير من خلال شعارات وبرامج واقعية، وأساليب عمل فاعلة، وتنسيق عالي المستوى بين سائر القوى ذات المصلحة الحقيقية في التغيير.

ومن المؤكد أن تحقيق أهداف الانتفاضة، والحركة الاحتجاجية عموما، يستلزم، كما أوضح التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية لحزبنا المنعقد في الفترة من 4 – 7 حزيران 2020، عن حق “مراجعة مسؤولة لمسارها واستخلاص العبر والدروس منها. وقد بات تبلور المواقف والمطالب المشتركة، وتحقيق نوع من القيادة الجماعية، أمرا ملحا لرسم وتدقيق التوجهات اللاحقة، وادامة زخم الحركة الاحتجاجية”. وأضاء التقرير السياسي حقيقة أنه “يكتسب أهمية خاصة في الظرف الحالي نهج تحويل المطالب الشعبية الملحة ومشاعر الاستياء والغضب لدى فئات وشرائح متنامية من شعبنا، الى حراك جماهيري سلمي متعاظم، يجري الاستناد اليه لتحقيق أهداف الانتفاضة، ودحر نظام الممحاصصةوالفساد، وإحداث التغيير المنشود بفرض ارادة الشعب والانتقال الى دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية، الدولة المدنية الديمقراطية”.

وعي مدني جديد

لقد أسهم الحراك، والانتفاضة على وجه الخصوص، في تأسيس وعي مدني ديمقراطي جديد يتبنى فكرة العدالة الاجتماعية على نطاق أوسع، وتعميق وعي ألوف مؤلفة جديدة من الشباب والنساء، على وجه التحديد، ممن راحوا يتعلمون دروس التمرين الكفاحي الجديد، واغناء خبرتهم الفكرية والسياسية الميدانية.

ويمكن القول إن الانتفاضة شكلت حدثا نوعيا ذا أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية، هزّ أركان النظام السياسي القائم على المحاصصة، وأدى الى بروز حقائق وظواهر جديدة في اللوحة السياسية والاجتماعية. فقد بات مفهوم الدولة المدنية أكثر تداولا، بينما تقدم موضوع التخلي عن نظام المحاصصة في المشهد السياسي. وتبددت أوهام قوى سياسية متنفذة ومراهناتها، في ظل ظروف الكورونا القاسية، على “تراجع” و”تعب” المتظاهرين ونفاد صبرهم وسكوت الشارع، وبالتالي “تبخر” هذه “الفورة” الجماهيرية العاطفية العابرة.

وكان إحياء عشرات الآلاف في بغداد والمحافظات، الخميس الماضي، الذكرى السنوية الأولى لانتفاضة تشرين صورة ساطعة للاستذكار والاستمرار.

وعلى الرغم من أن ساحات الاحتجاج شهدت، كما شخصت وثائق حزبنا، تغيرات جلية، إذ تبدلت أولويات بعض القوى التي كانت داعمة للتظاهر، فيما دخلت قوى جديدة بدوافع وأجندات لا تتوافق، بالضرورة، مع الأهداف المعلنة في ساحات التظاهر والاعتصام، فان الوجهة العامة للحركة الاحتجاجية ماتزال تحتفظ بمنطلقاتها وأساليبها وأهدافها.

الشيوعيون في قلب المعركة

وفي سياق تعاظم الحراك والانتفاضة، كانت لحزبنا، كما أوردت افتتاحية “طريق الشعب” (24 آب 2020)، تضحياته الجسام الغالية، وتعرض العديد من رفيقاته ورفاقه، في بغداد ومحافظات أخرى، الى الرصاص والخطف والاغتيال، وقائمة شهدائه معروفة ... وقدم الحزب مختلف أشكال الدعم المادي والمعنوي السياسي للمنتفضين وساحات احتجاجهم، مؤكدا على ضمان الوجهة السلمية للانتفاضة، ودعم وتطوير صيغ العمل المشترك، ومعالجة الثغرات في التنسيق والأطر القيادية، بينما حذر من القوى المعرقلة الساعية الى تشويه الانتفاضة واضعافها تمهيدا لاجهاضها.

وأكدت سائر وثائق حزبنا، التي أضاءت الانتفاضة، على أن الحزب مارس تأثيره السياسي وجسد نشاطه الاعلامي ودوره الميداني في ساحات الاحتجاج والاعتصام.

أما هؤلاء الذين يحملون المشاعل .. وبأياديهم تخفق الرايات .. ومن عيونهم يتطاير الشرر .. فهم فتيات وفتيان البلاد الذين تصدح أصواتهم، لتكون الرد الحقيقي على من يدّعون “غياب” الشباب. 

إن المرء ليشعر، وهو يصغي الى هتافاتهم وأهازيجهم، التي كسرت رغبة تقديس وتأبيد الراهن، بأنه مفعم بالرجاء في أن تمضي هذه الجموع في دروب الحرية .. ومن الحق والفخر القول إن مشاركتنا، نحن الشيوعيين، في طليعة القوى المدنية، تشكل الضمانة الأساسية لاستمرار الحركة الاحتجاجية وتطوير أساليبها وأشكالها وآفاقها.

دروس خبرة غنية

ومادمنا في سياق تحليل الانتفاضة وآفاقها، فلابد أن نبدأ، أولا، بدروس هذا الحدث البليغة، واستخلاصها من هذه التجربة، الصيرورة المتفاعلة، المنفتحة على آفاق، والتي تحتاج، على الدوام، الى اعادة نظر وتقييم، وإغناء وتطوير للموقف الواقعي في الظرف الملموس. فقد كانت الانتفاضة تعبيرا عن حاجات حقيقية للناس، أخرجها الحراك الى النور.

ويمكن القول إن هناك، الآن، حراكا على صعيد المفاهيم والسلوكيات السياسية والمجتمعية. فانكفاء الحديث عن المكونات لصالح تقدم المحتوى الاجتماعي الى أمام يجسد واقعا جديدا يقلق الأحزاب القائمة على أساس الطائفية السياسية. وبوسعنا أن نرى نوعا من اصطفاف جديد يشير طابعه العام الى أن قيما مدنية راحت تشق طريقها وسط صعاب وتعقيدات الصراع السياسي والاجتماعي المعروفة.

ومن ناحية أخرى تكمن قوة الاحتجاج في سلميته، التي يريد البعض تجريده منها. ولا ريب أن الأساس السلمي للاحتجاج بحاجة الى قوى اجتماعية تسنده، وليس الاستجابة لاستفزازات القوى المناهضة للاحتجاج، عبر الانسحاب من الساحات كما يدعو بعض المدنيين، الذين يتخذون مواقف الجزع والانكفاء الانعزالية، بدلا من مواصلة الضغوط وتحشيد القوى وتعزيز الاتجاه المدني المستقل وقوة تأثيره في المشهد السياسي والاجتماعي.

إن لدى حزبنا تجربة غنية، ومريرة أيضا، في التحالفات لابد من العودة الى دروسها البليغة، واعادة النظر والتقييم لاستخلاص العبر ورسم المواقف السياسية المدروسة وفقا للظرف الملموس، آخذين بالحسبان أن التحالف ينطوي، بالضرورة، على تناقض، وأنه اذا كان الحراك صيرورة، فان الصراع كذلك أيضا.

لقد فند الحراك الكثير من التقديرات والتوقعات التي كانت تستبعد امكانية استمرار الغضب الشعبي، وبصورة سلمية منسجمة مع منظومة الحريات والدستور، فقد ظل الحراك محافظا على طبيعته السلمية، وكانت انتفاضة تشرين دليلا على هذه الحقيقة. ولم يوفر الحراك للقوى، التي ظلت تسعى الى تحجيمه واجهاضه، أي مبرر لتحقيق مآربها، بل اتجه الى تطويق محاولات السلطة ومنع انتشار حصارها واجراءاتها المعيقة للحراك.

وبات موضوع السلمية منهجا وهدفا، بحيث صار أساسا للانتقال الى أشكال أخرى من الاحتجاج. وأزالت الانتفاضة تلك المخاوف التي تثار حول التصعيد في الحراك، والتي تزعم أن الأشكال الجديدة، وبينها الاعتصام، بل وحتى العصيان المدني، قد تهدد السلم الأهلي وتؤدي الى حالة من الفوضى.

وأثبتت الانتقاضة أن شكل الاحتجاج كان حالة متحركة نشأت في سياقها قوة جاذبة لأوساط اجتماعية أوسع كانت مترددة في مسألة المشاركة في الاحتجاجات حتى رأينا الملايين وهم ينزلون الى الشوارع في أفواج هادرة.

ولعل من بين أهم دروس الانتفاضة أنها عكست ورسخت المطالب ذات الطابع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وجعلتها في قلب المشهد السياسي، مزيحة الانتماءات الطائفية والعرقية، حتى أضحى الحراك يمارس، الآن، دورا أعظم في صياغة المشهد السياسي.

*      *      *

مقتحمو السماء هم، وحدهم، القادرون على أن يحلموا، وأن يشعروا باقتراب الأمل، وهم يعودون الى الينابيع .. هم، وحدهم، من يرون ضياء ذلك النجم البعيد، ويسيرون، في هديه، نحو ضفاف الحرية ..

وقد بات جليا، اليوم، وبعد اندلاع انتفاضة تشرين، أن هذا المد الاقتحامي لن يتراجع، وأن حصون الظلام ستتهاوى يوما ..

رحلت أيام الخوف واليأس .. وراحت نواقيس الغضب تقرع، والضحايا هبّوا سائرين في مواكب الحرية .. وهذه البلاد التي يريدون لها أن تبقى في مستنقع الخنوع رفعت أشرعة التحدي .. وراحت تقتحم متاريس الجائرين ..

حتى عندما يقتلون المنشدين، تظل هذه البلاد تغني، لأنها محكومة بالأمل ..

إنها قيامة العراق !

عرض مقالات: