منذ أن تم اعلان نتائج الانتخابات البرلمانية الفنلندية في نيسان / أبريل 2019، حتى تبين أن أمام أحزاب اليسار الفائزة ( الديمقراطي الاجتماعي، اتحاد اليسار، حزب الخضر، الشعب السويدي) مهمة عسيرة لتنفيذ برنامجها الانتخابي الذي قادها بجدارة الى سدة الحكم، بعد هزيمتها لحكومة احزاب اليمين ـ الوسط، التي سبقتها، والتي اعتمدت سياسة التقشف وزيادة الضرائب كرافع لتحسين الوضع الاقتصادي، وانتهجت سياسة اضرت بذوي الدخل المحدود، وسياسة تمييز ضد المهاجرين والأجانب، كان من نتائجها بروز نشاط منظمات عنصرية، حظر القانون الفنلندي نشاطها رسميا بقرارات من محاكم عليا، واعتبر اعمالها تنتهك حقوق الإنسان، لذا لا يحق لها التمتع بحماية حرية التعبير. وحين بدأت المفاوضات لتشكيل الحكومة الجديدة بدا واضحا أن اشتراك حزب الوسط في الحكومة وبشخوص قيادته التي كانت تقود الحكومة السابقة لن يمر بسهولة، وفعلا، ما هي إلا عدة شهور حتى بدأ حزب الوسط يمارس دوره كحصان طروادة لإسقاط الحكومة فاصطف الى جانب أحزاب اليمين لسحب الثقة منها، بإعلان عدم الثقة برئيس الوزراء ورئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي، أنتي ريني (مواليد1962)النقابي العريق، إثر أزمة أضراب عمال البريد وطريقة معالجته لها. وإذ عرف عن أنتي ريني، كونه الرجل المبتسم دائما، خلال كل أزمة، فأن الابتسامة لم تفارق وجهه هذه المرة أيضا، إذ فاجأهم بمناورة سياسية ذكية، فوفقا لآليات العملية الديمقراطية الفنلندية، ولمنع سحب الثقة من شخصه وبالتالي حكومته والاضطرار الى اللجوء لإنتخابات مبكرة، وقبل جلسة البرلمان المقررة لسحب الثقة، أسقط مناورة أحزاب اليمين وقيادة حزب الوسط، بإعلانه الاحتفاظ برئاسة الحزب فقط وتخليه عن رئاسة الحكومة لصالح أحد نوابه، الشابة سانا مارين (34سنة) التي أصبحت أصغر رئيس وزراء في العالم.

أصبح وصول الشابة الجميلة، سانا مارين الى رئاسة الوزراء، وبالا على حزب الوسط، فهي متقدة نشاطا، وتقف كإشتراكية على يسار حزبها، ويتبعها شباب الحزب الذي أصبح مهووسا بها، فارتفعت شعبية حزبها والحكومة تبعا لأدائها ونشاطها، وإذ جاءت جائحة الكورونا، فواجهتها بكل حزم وحكمة، فزاد من شعبيتها وشعبية حكومتها، إذ لجأت الحكومة الى اعتماد خطة ابطاء انتشار الفايروس بشكل متسارع، وعزل بعض المناطق عن بعضها وغلق منافذ السفر من والى فنلندا، وتحريك احتياط الحكومة للطواريء، البالغ مليار يورو، لشراء وتوفير معدات الوقاية والأجهزة الطبية المطلوبة، لتكون فنلندا بعد شهور من بدء جائحة الكورونا من البلدان الأقل ضررا في الجانب الصحي. لم تكتف رئيسة الوزراء، سانا مارين، بهذا بل أطاحت بعد شهور برئيسة حزب الوسط، كاتري كولمني، التي شغلت في حكومتها وزارة المالية، وكانت نائبا لرئيس الوزراء حسب الأعراف الفنلندية، وجاءت الإطاحة بها أثر كشف وسائل الاعلام لإنفاق زعيمة حزب الوسط للأموال العامة على أغراض استشارات إعلامية اعتبرت شخصية، فقاد ذلك الى استقالتها من الحكومة ومن رئاسة حزبها الذي عقد مؤتمرا ليأتي برئيس جديد هو أنيكا ساريكو، وزيرة الثقافة والعلوم، المعروفة بمواقفها غير المتشددة في قضايا الهجرة واللجوء، ويضعها البعض في يسار حزب الوسط، أي بالتالي اقرب الى تطلعات رئيسة الوزراء وبرنامج الحكومة.

خلال كل هذه الفترة، لم تتوقف أحزاب المعارضة، حزب اليمين التقليدي ( حزب الاتحاد الوطني الفنلندي) والحزب اليميني المتطرف (الفنلنديون الحقيقيون) من مناوراتهما للضغط على الحكومة الفنلندية الحالية، وإذ تراجع ملف اللاجئين، كون جائحة الكورونا أوقفت موجات الهجرة، وأجبرت الحكومة على تجميد الكثير من إجراءاتها، ومنها ملف إعادة المرفوضين الى بلدانهم، فان الملف الاقتصادي اصبح الأول الذي حاولت أحزاب اليمين التلويح به دائما، والبحث عن ثغرات ما للنيل من الحكومة ورئيسة الوزراء، التي أعلنت في مؤتمر حزبها، في آب / اغسطس الماضي، الذي تم فيه أنتخابها لتكون رئيسة الحزب الديمقراطي الاجتماعي، حيث بدا أنتي رين، الرئيس السابق، واثقا من كونه سلم الراية لمن سيرعاها. وابتدأت سانا مارين رئاستها للحزب الديمقراطي الاجتماعي، بالإعلان عن نيتها السعي ليكون العمل ست ساعات، والذي لاقى قبولا في الشارع الفنلندي ومختلف نقابات العمال، وهذا مطلب قديم لنقابات العمال اليسارية، حيث سيوفر وقتا أكبر للعائلات ليكونوا مع بعض، ويوفر الفرصة لزيادة رفاهية المواطن العامل، وممارسته هواياته والاشتراك بمختلف النشاطات، وأيضا أن يوم العمل من ست ساعات سيساعد على توظيف المزيد من العمال، فهو من حلول موضوع البطالة.

في القمة الاوربية الأخيرة في بروكسل ، في تموز الماضي، حيث ترأس المانيا حاليا، الاتحاد الأوربي، وافقت الحكومة الفنلندية، المشكلة من خمسة أحزاب تقودها نساء، على مشروع صندوق الإنعاش الأوربي الذي كانت قيمته 750مليار واستندت الى ذلك في اعلان ميزانية تكميلية بقيمة 5,5 مليار يورو، وحيث لجأت الى اقتراض 18,8 مليار من الصندوق الأوربي لدعم هذه الميزانية لأجل تنفيذ خطتها الاقتصادية ومعالجة الاضرار الناجمة عن الجائحة، ومع إعلان الحكومة مؤخرا عن ميزانية للعام المقبل ستشهد عجزا يبلغ اكثر من عشرة مليارات يورو ، وبمبلغ يزيد بنحو  3.7 مليار يورو عن توقع الحكومة، حتى بدأت أحزاب اليمين الولولةمن كون فنلندا اقتيدت الى فخ الإقراض وان الأجيال القادمة ستدفع الثمن ، وان الضرائب ستزداد على المواطنين، والطريف ان وزير المالية ماتي فانهانين، من حزب الوسط، الشريك في الحكومة الحالية وكان قد شغر الموقع بعد استقالة الزيرة السابقة، وداخل قبة البرلمان، احرج نائب من حزب اليمين المتطرف حين ذكره بالضرائب التي وافق عليها حزبه في الحكومة السابقة.

ما يثير القلق حاليا، هو سلسلة من الإغلاق غير المتوقع لعدد من المصانع الكبيرة والتي بسببها سرح المئات من العمال، بحجة جائحة الكورونا، وهذا يعني التوقف عن دفع مبالغ ضريبية لا يستهان بها لصندوق الحكومة، وتكاليف غير محسوبة لدوائر الضمان الاجتماعي، وإذ أعربت رئيسة الوزراء، عن تعاطفها مع العمال المسرحين وأعلنت عن عدم تخليها عن دعم عوائلهم، فإنها بنفس الوقت استغربت من أن معامل لا تخسر تغلق أبوابها في هذا الوقت، مما يثير عند المتابع سؤال: هل لأحزاب اليمين يد في هذه اللعبة لإسقاط الحكومة الحالية وإسقاط سانا مارين، التي من تحت وجهها الجميل ظهر لهم وجه لبوة شرسة في الدفاع عن قيم اشتراكية أمنت بها؟