استدرجتني ملاحظات وردود القراء والمتابعين على (البوست) الذي نشرته تحيةً لذكرى ثوره الرابع عشر من تموز، في صفحة الفيسبوك الخاصة بي، الى استئناف الحديث عن الثورة وطبيعتها بشكل موسع نسبياً، والوقوف أمام تساؤلات مشروعة منها فيا اذا كانت الثورة مجرد انقلاب عسكري أم ثورة شعبية، والانعطاف على ما رافقها من اعمال عنف وعلاقة ذلك بما تلاها من انقلابات وحروب وانظمة استبدادية.
ومقدماً أعلن عن احترامي لكل وجهات النظر المغايرة، ذلك ان الاختلاف لا يفسد للود قضية..
من المعروف ان الشعوب تحتفي سنوياً بأعيادها الوطنية، لأنها تعد من الرموز السيادية الوطنية التي يفخر بها كل شعب. فالشعب الفرنسي مثلاً ما زال يحتفل كل عام بذكرى ثورة الرابع عشر من تموز عام 1789 التي حطمت التي حطمت سجن الباستيل ،مع ان الثورة كانت قد شهدت مظاهر فظيعة للعنف والقتل والانتقام العشوائي. كما ان الشعب الامريكي هو الاخر يحتفى بعيده في الرابع من تموز الذي كان ثمرة نضال ضد الاستعمار البريطاني راح ضحيته الالاف من الامريكيين. ومازال الروس يحتفون بذكرى ثورة اكتوبر عام ١٩١٧مع ما رافقها من حروب وصراعات استمرت سنوات عديدة. اذ ان جميع الثورات معرضة لان تقدم خسائر في البنيه التحتية للمجتمع وفي افراد او اسر او شرائح اجتماعية أو طبقية تنتمي في الغالب الى النظام القديم.
الثورة ليست لعبة وليست خياراً سهلا لتحقيق التغيير، ولو كانت القوى الاجتماعية السياسية الاقتصادية للنظام القديم على استعداد للتنازل عن السلطة كما يحدث مثلا في الانتخابات الديمقراطية لكان بالامكان تحقيق انتقال سلمي وسلس للسلطة، لكن ذلك لا يتحقق الا في الاحلام الرومانسية. فسدنة السلطة وممثلوها والمستفيدون من وجودها عبر التاريخ، غير مستعدين للتنازل عن امتيازاتهم، ولذا تحدث الثورات، التي قد تكون شعبيه، وقد تكون مسلحة، كما قد تدخل فيها القوات المسلحة لأسباب مختلفة منها استعصاء التغيير بالطرق السلمية والجماهيرية. وتبقى الكثير من القضايا التي لا يمكن التكهن بها: هل ان الثورة اي ثوره ستحقق النتائج المطلوبة منها وفي مقدمتها تلبيه مطالب الشعب واهدافه، وما هي التداعيات المحتملة اللاحقة ومنها امكانيه حصول تدخلات خارجيه او اثارة الصراعات الاثنية والقومية والدينية والطائفية او ظهور هويات فرعيه قد تؤدي الى تمزقات جديده داخل المجتمع. هذه كلها وغيرها تداعيات محتملة، ويعتمد حلها على درجه وعي القائمين بالثورة، وبادارة الازمات، وادراكهم لإشكالياتها المتوقعة. ولكن هل يحق لنا ان نقول حبذا لو لم تحدث الثورة، لأنها خلقت صراعات غير متوقعة وهل يجوز التخلي عن حلم الثورة ورفع الراية البيضاء أمام جلادي الانظمة الاستبدادية، تجنباً لاراقة الدماء؟ هذا منطق غير ثوري ويؤدي الى تغول الانظمة الدكتاتورية والاستغلالية وتحكمها برقاب الناس. فعندما تنضج الظروف الموضوعية للثورة لا بد للقائد الثوري، وليس الاصلاحي، استثمارها لتحقيق حلم الجماهير بالتغيير الاجتماعي. اذْ لا يمكن إبقاء المجتمعات على فطريتها الاولى ولابد ان يتخذ التغيير طريقه للتلاؤم مع البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تنشأ في أي مجتمع. فعندما نشأت الصناعة الحديثة في أوربا، ونمت الرأسمالية وظهرت طبقات اجتماعية جديدة مثل البورجوازية والطبقة العاملة، لم يعد النظام الاقطاعي الذي كان سائداً آنذاك أن يلبي حاجات التشكيلات الاجتماعية الجديدة، ولذا أصبح التغيير ضرورة. حيث شهدت اوربا سلسلة من الثورات والانتفاضات التي تهدف الى تحقيق الانسجام المطلوب. وعندما تبلغ التناقضات ذروتها لابد للثورة ان تحدث بطريقة أو بأخرى.
وهذا بالذات هو ما حدث في العراق -جاءت ثورة الرابع عشر من تموز ١٩٥٨ لتفتح الطريق امام حركة المجتمع وتقدمه، وبعد ان استعصى اي فعل تغييري سلمي او عسكري. هناك من يعتقد ان الثورة كانت ضد الملكية، وان مقتل عدد من أفراد الاسرة المالكة العراقية ، وهو امر يؤسف له ، هو دليل على ذلك .
هذا تصور خاطئ .فالثورة كانت ضد الهيمنة البريطانية على العراق، وضد تكبيل العراق بسلسلة من المعاهدات الاسترقاقية والاحلاف الاستعمارية ومنها حلف بغداد. ما أن انسداد أفق التغيير والإصلاح داخل المجتمع العراقي هو الذي مهد الطريق للثورة لتأخذ طريقها الطبيعي. أما الامر الذي قلما يتنبه له المؤرخون والكتاب وهو ان العراق لم تكن تحكمه الاسرة الحاكمة التي لم يكن وجودها الا رمزيا “فالملك مصون وغير مسؤول” على وفق الدستور العراقي .ومن كان يحكم فعلياً نظام بوليسي استبدادي ، يدعمه نظام إقطاعي وشبه إقطاعي، وتتحكم به السفارة البريطانية في بغداد والتي جسدت النفوذ البريطاني في العراق منذ احتلال العراق، ودخول الجنرال (مود) محتلاً وليس محرراً.
ومن المعروف أن بريطانيا وسفارتها في بغداد هي التي كانت تتحكم بالعراق من خلال مجموعة من السياسيين والرموز الذين ينفذون سياستها وفِي مقدمتهم نوري السعيد وبهجة العطية وأمثالهما .وقد كان الحكم بوليسياً وقمعياً .لكن ذاكرة الأجيال الجديدة ضعيفة ولا تعرف حقائق الماضي القريب، وأحيانا تقدم لها حقائق مغلوطة او منتقاة مثل :انظروا لقد تسببت ثورة تموز بمقتل العائلة المالكة وفِي المقدمة الملك الشاب فيصل الثاني الذي لم يتزوج بعد “بمثل هذا الأسلوب المتواتر والبراق يراد خداع الأجيال الجديدة .
ترى هل كانت ثورة الرابع عشر من تموز ثورة أم مجرد انقلاب عسكري قاده عدد من الضباط. لا أجد احداً ينكر ان الثورة اعتمدت كأداة للتنفيذ على القوات المسلحة، لكنها تمت بالتنسيق مع القوى والأحزاب الوطنية المتمثّلة ب “جبهة الاتحاد الوطني “وبالإجماع الجماهيري الفوري والواسع لها، مما جعلها تتحول الى ثورة جماهيرية واسعة. وهذا هو شان ثورة يوليو ١٩٥٢في مصر مثلا ،وفِي الكثير من بلدان العالم الثالث الذي وجدت فيه القوات المسلحة الوطنية نفسها مضطرة للتدخل للتصيح معادلة التغيير المستعصية .وبالنسبة للعراق لا يمكن ان نقول ان ثورة تموز تمثل انقلاباً على الشرعية ، فلم تكن هناك شرعية دستورية ، بالمعني الحديث ،وقد يبدو تدخل القوات المسلحة الوطنية مقبولا لإسقاط نظام حصل على الشرعية لكنه انحرف عن إرادة الشعب وراح يطبق اجندات معادية للثورة وللشريعة في آن واحد ،كما هو الحال عندما قامت القوات المسلحة المصرية ، مدعومة بثلاثين مليون متظاهر ، باسقاط نظام (مرسي ) والاخوان المسلمين في مصر ،مع انه كان يمتلك -شكليا -ورقة الشرعية .
طبعا يتمنى كل مؤمن بالديمقراطية ان تتوافر الظروف الموضوعية والذاتية للمجتمع التي لا تتطلب تدخل القوات المسلحة، او تحولها الى قوة متحكمة بالقرار السياسي، اذ ان الوظيفة المثلى لهذه القوات ان تكون مهمتها حماية حدود البلاد من اي عدوان خارجي، وان تظل القطعات العسكرية في ثكناتها ومعسكراتها، لكن ثمة حالات استثنائية تضطر فيها القوات المسلحة للتدخل لحسم عملية التصحيح الاجتماعي والسياسي.
ويبقى السؤال الأهم هل نجحت ثورة الرابع عشر من تموز في التعبير عن مصالح الشعب العراقي في تحقيق هذا التحول الثوري ، وهل عملت بعد انتصارها في وضع خطة لإعادة بناء المجتمع العراقي وتحقيق إنجازات ملموسة .
في تقديري ، ان اي منصف يدرس الظروف الموضوعية والذاتية التي كان يعيشها العراق قبيل الثورة ، سيدرك ان كل شرائح الشعب العراقي كانت تتطلع لتحقيق تغيير ثوري ، وربما تمثل سلسلة الانقلابات والانتفاضات التي شهدها العراق ومنها انقلاب بكر صدقي عام ١٩٣٦ وحركة رشيد عالي الكيلاني عام ١٩٤١ ومظاهرات الشعب العراقي في الوثبة عام ١٩٤٨ و”الانتفاضة “عام ١٩٥٦ وسلسلة المظاهرات المؤيدة للثورة الجزائرية التي شهدها العراق ، والمظاهرات الاحتجاجية على حرب السويس ضد مصر عام ١٩٥٦ ، فضلا عن الإضرابات الطلابية والعمالية والانتفاضات الفلاحية ومنها انتفاضة فلاحي(آل إزيرج)عام ١٩٥٢ في الخمسينات، وانتفاضة عمال كاورباغي في كركوك عام ١٩٤٦في الأربعينات كلها مخاضات ترهص بالتغيير الثوري .

لكن قوى النظام البوليسي المدعوم من الحكومة البريطانية اولاً، ولاحقا من حلف بغداد الذي تشكل 1955 ، كانت تقمع اي نهوض جماهيري لتحقيق التغيير المنشود بطرق سلمية .بل من يدرس الدور الذي لعبه نوري السعيد وولي العهد عبد الاله ، رمز النظام الملكي آنذاك في قمع حركة رشيد عالي الكيلاني من خلال الاستنجاد بالقوات البريطانية ، لأدرك جيد ان النظام الملكي ورموزه ورجال السفارة البريطانية لم يكونوا ذلك الحمل الوديع الذي يتخيلونه ، وأنما جميعاً مسلحون وقساة في أحكامهم. فقد أصدروا أمراً بإعدام العقداء الأربعة الذين شاركوا في حركة رشيد عالي الكيلاني، كما نفذوا لاحقاً سلسلة من الاعدامات والتصفيات بحق رموز الحركة الوطنية، وكانت السجون وأقبية التحقيقات الجنائية التي كان يمثلها بهجت العطية شاهداً على ذلك.
وللحقيقة والتاريخ فان قيادة ثورة تموز قدمت إنجازات كبيرة خلال فترة زمنية محدودة لا تتجاوز الخمس سنوات ، وكانت تحظى بدعم جماهيري ،ومن منجزات ثورة تموز تحقيق الاستقلال السياسي الكامل للعراق ، وقطع هيمنة بريطانيا وسفارتها على امور العراق والخروج من الأحلاف العسكرية ومنها حلف بغداد والخروج من منطقة الاسترليني وتشريع قانون الأحوال الشخصية رقم ٨٠، وتحقيق قانون الإصلاح الزراعي الذي وجه ضربة للنظام الاقطاعي وشبه الاقطاعي، وإصدار القانون رقم (٨٠) الذي استعاد ٩٩٪ الاراضي العراقية من شركات النفط الاستعمارية ، والاتجاه لدعم الصناعة الوطنية ، وتحقيق مشروعات مهمة في مجال الزراعة والخدمات والإعمار وتخطيط المدن ، منها إيجاد حل للحالة المزرية التي كان يعيش فيها سكان الصرائف عن طريق منحهم قطع أراضي في مدينة الثورة ،وشق قناة الجيش وتوفير مجمعات سكنية للفقراء في بغداد وفِي الكثير من المدن العراقية ، فضلا عن تخصيص قطع أراضي للضباط في احياء زيونة ، واليرموك وغيرهما في بغداد ، والاعتراف بحق الشعب الكردي في ادارة الدولة والمساواة ، كما أشرك معظم القوى والأحزاب السياسية في تشكيل اول كابينة ضمت اسماء مهمة تمثل الطيف الوطني آنذاك .
كما قامت الثورة بإطلاق حرية الصحافة، وتشكيل النقابات والمنظمات المهنية والشبابية والتسوية، وتأسيس جامعة بغداد، وإطلاق طاقات الشعب، وكسر حاجز الخوف والاسهام في بناء التجربة السياسية الجديدة.
من الطبيعي ان نختلف في وجهات نظرنا حول اية قضية مطروحة، ومنها تقييم طبيعة ثورة الرابع عِشر من تموز، فالاختلاف في الرأي مظهر صحي من مظاهر الحوار الديمقراطي السليم، لكننا قبل هذا وذاك، علينا ان نقرأ التاريخ القريب، ونفهم اسرار ه ودوافعه، ثم نحكم حكماً موضوعياً، دونما انحياز للعاطفة او لشعار مخادع او تضليل.
يخيل لي ان الجيل الجديد، بشكل خاص يجب ان يقرا التاريخ جيداً، لكي لا يقع ضحية بعض اصحاب المشاريع والأجندات السرية الذين يحاولون تشويه صورة الثورة، وتصويرها على انها مجرد انقلاب عسكري، معتمدين على صورة عاطفية مرسومة بإتقان، للتمويه على الحقائق. ثمة معيار اخر يمكن ان نحتكم اليه في تقدير شرعية ثورة تموز ١٩٥٨يتمثل في معرفة ردود افعال القوى الاستعمارية ، وفِي مقدمتها بريطانيا وأمريكا تجاه الثورة .الجواب واضح ان هذه القوى كانت مرتعبة من الثورة ، لأنها هددت امتيازاتها ولذا وقفت ضدها ، وراحت تتآمر عليها بدعم بعض القوى اليمينية والاقطاعية والفاشية المتطرفة في مقدمتها حزب البعث ، وكانت فرحتها كبيرة باسقاط الثورة من خلال انقلاب ٨شباط ١٩٦٣ الاسود.علينا قبل هذا وذاك ان نزن بميزان الصدق مزايا الثورة وأخطائها ثم نحكم ،ولذا يتعين علينا أسوةً بكل شعوب العالم ، ان نفتخر بثورة الرابع عشر من تموز بوصفها عيدنا الوطني المشرف ، واحد رموزنا السيادية التي نعتز بها ،اما الحديث عما حصل بعد الثورة من صراعات ، فهو أمر اخر ، تتحمل مسؤوليته الأنظمة الانقلابية الي أسقطت ثورة تموز وقادت البلاد الى متاهات الانقلابات والتصفيات الدموية وأسست لنظام دكتاتوري فردي متعطش للدماء والحروب هو نظام صدام حسين الاستبدادي. الذي يتحمل المسؤولة الفعلية لإضعاف العراق وتدميره من خلال سياسات طائشة وحروب تدخل مجانية مهدت لاحتلال العراق من قبل قوات الامبريالية الامريكية، وهو بالتأكيد يتطلب قراءة موضوعية اخرى لمعرفة ما يحويه “الصندوق الأسود” من صفحات مجهولة قد نعود إليها لاحقاً في فرصة سانحة قادمة.

عرض مقالات: