في يوم الرابع عشر من تموز 1958، اندلعت ثورة الجيش والشعب الوطنية، التي فجرها الضباط الاحرار وأحتضنتها الجماهير منذ ساعاتها الأولى في سرعة مذهلة لتحولها الى ثورة شعبية. كان قيام الثورة وانتصارها تتويجا لنضال طويل وصعب، خاضه الشعب العراقي، جسد فيه وحدته بعربه وكرده وقومياته الأخرى، في طموح مشروع للتحرر من الحكم الملكي ـ الاستعماري، لتأتي الثورة من بعد عقود من بطش واستبداد هذا النظام المرتبط والتابع للسياسة الاستعمارية، والمستند الى تحالف مكشوف من قوى الاقطاع والقوى الظلامية الرجعية وكبار الرأسماليين والموظفين والعسكريين.
منذ الساعات الأولى، أغاض إنطلاق الثورة قوى الاستعمار والإمبريالية، وحلفاءهم من الأنظمة الرجعية في المنطقة، السائرة بركابها، فكان الإنزال البريطاني في الأردن والامريكي في لبنان وإعلان القوات التركية حالة التأهب القصوى، ولكن الإنذار السوفياتي الواضح قطع الطريق عليهم، فأعلن بانه لن يترك الثورة لوحدها، ولن يسمح بالقضاء عليها، وأجرى مناورات وتعبئة عسكرية عند الحدود التركية، وفعلت بلغاريا الشعبية الامر ذاته عند الحدود التركية، والتفت جماهير الشعب وقوى “جبهة الاتحاد الوطني” لدعم الثورة وحمايتها.
كانت ثورة 14 تموز ، ثورة ديمقراطية، أرست في أشهرها الأولى نظاما ديمقراطيا، واطلقت طاقات الجماهير في عملية التغير والبناء، فأقدمت في فترة زمنية قصيرة على الكثير من الإنجازات التاريخية والمصيرية : الخروج من حلف بغداد العدوني وبالتالي أعلان موته، الخروج من منطقة الإسترليني المرتبط بقوى الاستعمار في خطوة لدعم الاقتصاد الوطني، إصدار قانون الإصلاح الزراعي في ضربة جريئة لقوى الاقطاع ، رفع شعار الوحدة العربية الكردية وتضمين ذلك في الدستور المؤقت كشركاء في الوطن، اطلاق حرية تأسيس النقابات والاتحادات المهنية وأيضا اصدار القانون 80 لاستثمار ثروات البلد خصوصا النفط، وانتزاع 99,5 من الأراضي الخاضعة لامتيازات الاحتكارات النفطية، وغيرها من الإنجازات التي دفعت جماهير الشعب للإيمان بالثورة والالتفاف حولها.
ان ثورة الرابع عشر من تموز، شكلت منعطفا مهما في تاريخ العراق المعاصر، كونها جاءت ثمرة تراكم للكفاح المتواصل لجماهير الشعب وقواه الوطنية التقدمية، وفي مقدمة ذلك الشيوعيون العراقيون وحزبهم، الذي تصدر نضالات الشعب وقادها في المعارك الوطنية والاجتماعية، وسجل صفحات مشرقة لا يمكن لاحد انكارها، وحيث قدم قادته المؤسسون الخالدون: يوسف سلمان يوسف (فهد) وزكي بسيم ومحمد الشبيبي، حياتهم قربانا على مذبح الشهادة، لأجل وطن حر ينعم فيه الشعب بالكرامة والسعادة، وبذل الحزب قبيل الثورة جهدا استثنائيا من اجل تقارب الاحزاب السياسية لتشكيل تحالف وطني يعزز المستلزمات الذاتية للثورة بعد نضج شروطها الموضوعية.
وإذ أثارت الإجراءات الحاسمة وانجازات الثورة الرعب عند فلول الاقطاع والقوى الرجعية والظلامية المتضررة، مدركين كون قيام الثورة جاء ضربة موجعة لمواقع حماتهم الإمبرياليتين في المنطقة، وبالتالي أعاق مخططاتهم، فتحرك الجميع لإحياء تحالف شرير وتنسيق العمل، بشكل سري وعلني، بدعم وتوجيه مباشر من مراكز المخابرات الدولية، سواء الامريكية أو الفرنسية، كما بينت الوثائق التي كشفت لاحقا. وتمهيدا للانقضاض على الثورة، عملت القوى المضادة للثورة، التي وجدت لها مواقع مهمة في أجهزة الدولة، ببراعة شريرة، في إثارة الخلافات بين الاحزاب السياسية، وداخل قيادة الثورة نفسها، ونجحت في دفع قيادة الحكم للدخول في صراع مسلح مع قيادة الحركة الكردية. أضعف كل ذلك زخم تقدم الثورة وأدى لتراجعها، ومع تزايد أسلوب نهج الحكم الفردي لقيادتها ما تسبب في انعزالها عن الجماهير، مع بروز الموقف السلبي من إطلاق طاقات الجماهير والقوى الديمقراطية واليسارية، فجعل القيادة تتخبط في نهجها ويغيب عنها الوضوح في أهدافها، مما شجع قوى النظام القديم لاستعادة بعض من أماكنها وقوتها. ووجدت القوى المضادة وشركات النفط الغربية، في حزب البعث العفلقي المطية التي ركبوها لينفذوا من خلالها انقلابهم الأسود الدموي في 8 شباط 1963 لوأد الثورة وأغتيالها واعدام قادتها، في مقدمتهم الزعيم عبد الكريم قاسم، والعديد من الضباط الشيوعيين. وكانت مصادر الحزب الشيوعي العراقي بينت لاحقا أنه في الأيام الثلاث الأولى من الانقلاب تم قتل وتصفية أكثر من خمسة آلاف شخص من أعضاء الحزب ومؤيديه، كرد انتقامي لدور الحزب الشيوعي في دعم ثورة تموز وانجازاتها، وكانت إذاعة سرية ـ حسب شهادة الملك حسين للكاتب محمد حسنين هيكل ـ تبث قوائم بأسماء الشيوعيين، حصلت عليها وكالة المخابرات المركزية الامريكية من ضابط سابق في العهد الملكي، كان يعمل في مكتب بهجة العطية سيء الصيت.
كانت ثورة الرابع عشر من تموز حدثا عظيما في تاريخ شعبنا ووطننا، غير التأريخ، وان التقييم المنصف لها يتطلب التوقف بمسؤولية امام نجاحاتها واخفاقاتها لاستخلاص الدروس المهمة، ليكون ردا شافيا على من يعتقد ان “ما كان لها ان تقع”، و”ان نظام صدام الديكتاتوري جاء نتيجة لها”، متغافلين عن ان النظام المقبور ما هو الا نتيجة لنظام قوى الردة التي انقضت على منجزات ثورات 14 تموز، الذين اغتالوا الثورة وجاءوا بقطار امريكي، حسب اعترافات قادة انقلاب 8 شباط، ليعيدوا العراق بشكل أو آخر الى عهد ما قبل الثورة.
ستبقى شعلة ثورة الرابع تموز منارا لكل الخيرين من أبناء شعبنا، ولم تستطع كل محاولات النظام المقبور من محو ذكرى الثورة من تقويم الاحداث التاريخية.
المجد لشهداء الثورة ومناضليها الابطال، وفي مقدمتهم الشهيد سلام عادل، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ورفاقه الميامين.