حققت ثورة 14 تموز 1958 طموح الشعب العراقي في التقدم والرفاه والازدهار والتخلص من الظلم نتيجة فساد النظام الملكي الذي سلطه الانكليز على الشعب لينهبوا ثرواته ويستعبدوه.
يعود تاريخ اهتمام بريطانيا بالعراق والخليج العربي الى زمن حملة نابليون على مصر عام 1798. حينها توقعت العبقرية العسكرية الفرنسية أن سيطرتها على المنطقة تبدأ عن طريق قطع الممرات بين اسطنبول وبغداد، وهكذا ادرك رجال الدولة الإنجليزية ان وأد مشروع السيطرة على طريق السكك الحديدية عبر الاناضول، الذي بدأه الالمان، في المهد، حاجة اساسية يجب إنجازها.
فشرعت انكلترا بترسيخ نفسها في الخليج العربي لادراكها الأهمية الاستراتيجية للمنطقة لحماية مستعمراتها في الهند، فسمت شركة شرق الهند ممثل لها مقيم في بغداد لحماية مصالحها في نفس العام الذي غزا فيها جيش نابليون مصر. وقامت بريطانيا بتعيين قنصل لها في بغداد. ولم تمر سنة 1880 حتى بدأت القوى الاوربية الاخرى بتعيين قناصلها في بغداد، وفي نفس السنة التي اصبح فيها المقيم الانكليزي موظفا في حكومة الهند تم ضمان حق الملاحة في الفرات لشركة الاخوة لنج، وهم ثلاثة اخوة استقروا في بغداد كتجار، ومنحوا الحقوق الحصرية للملاحة في شط العرب والانهار الموصلة الى بغداد بما فيها دجلة من قبل الحكومة العثمانية عام 1860.(1)
كتب الكولونيل ميد، المقيم السياسي البريطاني في بوشهر، كتابا سريا بصدد الكويت: «تمتلك الكويت ميناء رائعا، واذا اصبحت محمية لنا، ستكون بدون شك احد اهم مواقعنا في الخليج العربي. إضافة لامكانية زيادة ذلك. في المستقبل بعد انجاز خط سكة حديد الاسكندرية وبورسعيد سيكون بامكاننا حماية هذا الخط. تجارة الكويت مع البصرة ناجحة كما هي مع نجد وسورية. واذا اصبحت الكويت تحت حمايتنا سيتم توجيه ضربة للقرصنة وتجارة العبيد. وبهذا يمكننا القول ان وضع الكويت تحت الحماية البريطانيا سيعني تمركز مصالح سياستنا الدولية في الخليج وفي مياهه».(1)
كتبت غيرترود بيل، لاحقا المستشارة البريطانية، وهي تصف لقاءها برئيس مهندسي مشروع خط سكة حديد برلين بغداد مايسنر باشا في الموصل، في رسالة الى والدها في 28 اذار (مارس) 1914 :
«
والدي العزيز، جاء مايسنر عصرا ليصطحبني. النخلات يملن على ضفاف دجلة وعلى مياه النهر المرتفعة ترى اسطولاً من الزوارق القديمة. امواج دجلة الغرينية والنخيل وصوت عربي يغني، وسط هذا الشرق القديم تشاهد قاطرات حديثة والمانا قصيري الشعر ذوي عيون زرقاء بخطواتهم السريعة الثابتة ذات الطابع العسكري، اني ارى جنوداً من الغرب قد اتو ليغزوا، ولكن سلاحهم هو التكنولوجيا»(1)، هكذا نظر الانكليز الى دخول التكنولوجيا الاوربية للبلاد ومخاطرها على تجارتهم ومصالحهم.
وفي مؤتمر سان ريمو تقاسمت فرنسا وبريطانيا تركة الدولة العثمانية ووزعت الحصص النفطية بينها وكانت لبريطانيا الحصة الاكبر.
ثم قام الانتداب البريطاني باثقال الميزانية العراقية، اذ فرض استلاب 40 في المائة من الميزانية لرواتب جيشه وموظفيه ولقاء المعدات التي يوردها للعراق. وتم استيراد موظفي الدولة من الاجانب الهنود بشكل خاص (2)
ومُنحت الامتيازات لشركات النفط الاجنبية بشروط مجحفة ولم تحصل الدولة العراقية الا على الفتات من عوائد النفط، فحصلت شركة النفط التركية TPC (أكبر ماليكها الحكومة البريطانية) على امتياز للتنقيب عن النفط وتم حرمان العراق من واردات نفطه.
بالرغم من ان مؤتمر سان ريمو سمح للعراقيين بتملك 20 في المائة من الشركة إذا أرادوا أن يستثمروا فيها، إلا أن شركات النفط نجحت في مقاومة الجهود العراقية للمشاركة، بالرغم من ضغوط الحكومة البريطانية لقبول مساهمين عراقيين. وفي 1929 تغير اسم شركة النفط التركية TPC إلى شركة نفط العراق (IPC).
قاوم العراقيون هذا الاستغلال المجحف، لكن غيرترود بيل اشارت الى الإدارة المدنية البريطانية، بانه لابد من اسكات القوى الوطنية التي تقود الراي العام العراقي التواق للتحرر والمناهض للهيمنة البريطانية، من خلال إعطاء العراق شكلا من اشكال الحكم الذاتي المرتبط بالإمبراطورية البريطانية للحؤول دون تطور النزعة الوطنية المتعاظمة لدى العراقيين. وبعد ثورة العشرين سلك البريطانيون سياسة ارضاء الثوار وتنفيذ بعض مطاليبهم والتهيئة لانشاء مجلس تأسيسي مهمته انتخاب ملكٍ للعراق وصياغة دستور والشروع بإنشاء بعض المؤسسات.
فقال الرصافي في وصف الحكومة صنيعة الانكليز حينها:

قال جليس يوم مرت بنا
مَن هذه الغادة ذات الحجاب؟
قلت له: تلك لاوطاننا
حكومة جاد بها الانتداب
تحسبها حسناء من زيها
وما سوى «جُنبول» تحت الثياب
ظاهرها فيه رحمةٌ
والويل في باطنها والعذاب
مُصابنا أمسى فظيعا بها
يا رب ما أعظم هذا المصاب

وكبل الانكليز الدولة العراقية الناشئة بمعاهدات واتفاقيات جائرة عل حساب قوت الشعب العراقي واعمار بلاده. ولكن انتفاضات العراقيين تواصلت ضد الحكم الجائر وازداد قمع السلطة للشعب المطالب بحريته ولقمة عيشه.
وبتغير الوضع السياسي في المنطقة واهمها اجراءات رئيس الوزراء الايراني مصدق، اقترح البنك الدولي على السلطة اتخاذ بعض الاجراءات للتخفيف من الضغط فتم انشاء مجلس الاعمار عام 1950. وشُكل هذا المجلس لترسيخ تبعية الاقتصاد العراقي للاقتصاد البريطاني فلم يخطط لمشاريع صناعية تخفف من اعتماد الاقتصاد العراقي على النفط، ولكن نضال الشعب العراقي تطور وتبلورت قواه الوطنية ووضعت اهدافها وعزم الشعب على التغيير الجذري وانهاء القيود والاحلاف الاستعمارية وبناء اقتصاد مستقل.
وخصص المجلس مبلغ قدره 31 مليون دينار لتنمية الصناعة الوطنية ولكن ماصُرف فعلا من هذا المبلغ كان 5,4 مليون دينار فقط أي مايعادل 17,4 في المائة من المبلغ المخصص وبهذا الفشل بقيت الصناعة والتنمية متخلفة وبقيت هذه المشاريع حبرا على ورق، وفشل ما سمي بمجلس الاعمار. (4)
ولم يشهد العراق خلال المرحلة الاولى من تأسيس الدولة العراقية الحديثة بعد عام 1921 حتى قيام ثورة 14 تموز أي تقدم ونجاح في مجال البناء والاعمار بسبب البرامج والادارة الحكومية الفاسدة واتباع سياسة اقتصادية خاضعة لمصالح الانكليز والفئات المرتبطة بهم، مما ادى الى أوضاع سياسية واقتصادية غير مستقرة في العراق وساهمت قلة الموارد الاقتصادية التي كانت تحصل عليها خزينة الدولة العراقية من واردات النفط نتيجة نهب الشركات الاجنبية في تردي الوضع المعاشي للفئات الفقيرة ودون المتوسطة. ولم تتجاوز المبالغ المصروفة في مجال البناء والاعمار منذ عام 1932 وحتى عام 1950 الستة وثلاثين مليون دينار عراقي، وهذا يعكس ضعف عملية التنمية الاقتصادية في العراق خلال عقدي الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي.
لم يكن ضباط الجيش العراقي، بعيدين عن القوى الوطنية الفاعلة في المجتمع العراقي، ومن اهمها الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديموقراطي واحزاب اخرى، وتربطهم بها علاقات مباشرة او غير مباشرة. فقام الكثيرون منهم بتشكيل خلايا وتنظيمات داخل الجيش لتغيير نظام الحكم الجائر ولكسب استقلال البلد السياسي والاقتصادي ولتنميته اجتماعيا. فخططت احدى هذه التنظيمات في جلولاء والسعدية لتغيير السلطة وتحويلها الى جمهورية وطنية مستقلة، وكان اقدم ضابط رتبة في هذا التنظيم هو الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم والذي اصبح اول رئيس وزراء للجمهورية العراقية.
«
في 14 يوليو 1958، اندلعت ثورة ضباط شباب بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم انبثقت من داخل الجيش العراقي الملكي وسرعان ما تطورت لاحقا إلى ثورة أطاحت بالنخب المحلية وقضت على النفوذ الأجنبي.... انهت الإمبريالية الغربية، على الأقل في مظاهرها المباشرة، وحولت الحياة العامة في العراق إلى اتجاهات جديدة.» (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
(1)
رعد موسى الجبوري، السكك الحديد (تاريخ - اقتصاد - حروب)، 2016 دار العلوم العربية مصر
(2) Peter Sluglett, Britain in Iraq Contriving King and Country, 2007, I.B.Tauris & Co Ltd
(3) Robert A. Fernea and Wm. Roger Louis, The Iraqi Revolution of 1958 The Old Social Classes Revisited,(1991) I.B.Tauris 8c Co Ltd, London
(4)
ليث عبد الحسن الزبيدي، ثورة 14 تموز في العراق، مكتبة اليقضة في بغداد، 19