يواجه العالم بأسره وليس الكويت وحدها فحسب أوضاعاً استثنائية غير مسبوقة، لا تقتصر على خطر تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد، وإنما تمتد إلى مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولها انعكاساتها السلبية المؤثرة على الروح المعنوية والحياة النفسية للبشر، وفي ظل هذه الأوضاع الاستثنائية برزت على السطح، بل تفاقمت مشكلات عديدة كانت كامنة، وتداعت منظومات كان كثيرون يتوهمون أنها متماسكة، ولعل بعضها أصبح مهدداً بالتفسخ والانهيار.

وفي بلادنا، برز من ضمن ما برز على السطح من مشكلات خلال مواجهة الجائحة، مشكلات كان يتم التواطؤ للتستر عليها والتهوين من أمرها، ومن بينها مشكلة ما يسمى "الاختلال في التركيبة السكانية" ومشكلة العمالة الوافدة المخالفة لقانون الإقامة، وللأسف فقد جرى التعامل مع الضحايا من العمال الوافدين وكأنهم المتسببون بها، بل كأنهم مصدر انتشار فيروس كورونا المستجد، وفي أفضل الحالات جرى الحديث عن قصر المسؤولية على تجار الإقامات وحدهم، بينما تم تناسي مسؤولية الحكومة وأجهزتها عن وجود هذه المشكلة وتفاقمها جراء تغاضيها عن المتسببين فيها والسكوت عنهم لسنوات طويلة، ناهيك عن عدم معاقبة شركائهم من المسؤولين الفاسدين في مراكز القرار الحكومي الذين سهلوا لهم جلب مئات آلاف وربما ملايين العمال إلى الكويت من دون توفير فرص عمل حقيقية لهم، وذلك مقابل الحصول على أتاوات مالية دفعها هؤلاء العمال من كدحهم، هذا ناهيك عن التهاون الحكومي في التعامل مع العديد من شركات القطاع الخاص التي سرّحت عمالتها بعد انتهاء تنفيذ عقود المشروعات الحكومية، حتى وإن لم تتاجر في إقاماتهم، وعلى نحو أعم يمكننا القول إن أسباب ما يسمى مشكلة الخلل في التركيبة السكانية أعمق وأوسع من ذلك كله، فهي تتصل بمنظومة الاقتصاد الرأسمالي الطفيلي الذي يحرص على جلب ملايين العمال الوافدين المحرومين من أبسط حقوقهم العمالية والنقابية ليستغلهم أبشع استغلال كقوة عمل رخيصة الأجر وكقوة شرائية وكمستأجرين، ونضيف إلى الأسباب سبباً آخر يتمثل في نمط الحياة الاستهلاكية السائد في مجتمعنا الذي ساهم في جلب مئات آلاف العمالة الوافدة الهامشية كعمال منزليين.

واليوم، هاهو مجتمعنا الكويتي بعدما استفحل الأمر في ظل جائحة كورونا فقد بدأ أخيراً في الانتباه إلى الأمر ومحاولة مواجهته، ولكن من الواضح أن هذا الانتباه لم ينطلق من وعي كامل بالمشكلة وأبعادها، وأن مواجهة المشكلة تتم بطريقة انتقائية سطحية تنظر إلى الظواهر وتتجاهل الأسباب العميقة... وفي هذا السياق أيضاً، أقدمت الحكومة على تطوير ما اعتادت على ممارسته في السنوات السابقة من إجرءات تستهدف بالأساس تنظيف ملفات شركات تجارة الإقامات، حيث أعلنت وزارة الداخلية هذه المرة عن منح مهلة استثنائية لمخالفي الإقامة بالمغادرة من تاريخ 1 أبريل وحتى نهايتـه، دون دفع تكاليف السفر وتوفير تذاكر الطيران مع إمكانية عودة المخالفين الى البلاد مرة أخـرى، وأعلنت كذلك عن تجهيز أماكن لإيواء المخالفين بعد إنهاء إجراءاتهم حتى موعد سفرهم ومغادرة البلاد.

ولكن على أرض الواقع فقد كشفت التجربة العملية الملموسة أن هذا الإجراء الحكومي لم يكن مدروساً، بل كان قراراً عشوائياً لم تحسب الحكومة ممثلة بوزارتي الداخلية والخارجية تعقيداته وتداعياته وعواقبه، فمن جهة أولى لم يتجاوز عدد المخالفين الذين سجلوا أسماءهم والتحقوا بمراكز الإيواء سوى 25 ألف مخالف، فيما لم تسجل الغالبية الساحقة اسماءها ولم تلتحق بمراكز الإيواء، ومن جهة أخرى وهذا هو الأسوأ أن الحكومة لم تستطع أن تنسق بصورة عملية وملائمة مع حكومات دول المخالفين أمر تنظيم عودتهم، فيما استغلت تلك الحكومات الظروف الاستثنائية لجائحة كورونا لتبرير عدم قدرتها على توفير محاجر لاستيعاب العائدين من مواطنيها، وبذلك نشأت مشكلة إنسانية وأمنية جديدة وخطيرة لم تحسب وزارة الداخلية لها حساباً تمثلت في تكدس عشرات آلاف البشر في مراكز إيواء مؤقتة يعانون من العزلة والإحباط ومن دون أي أفق واضح لموعد عودتهم إلى بلدانهم.

وعلى خلفية هذه المشكلة المستجدة الناجمة عن تخبط حكومي صارخ وقرارات متسرعة غير مدروسة شهدت أحد مراكز الإيواء في كبد مساء أمس أحداثاً مؤسفة تم الاكتفاء بالتعامل معها أمنياً، بينما تم تجاهل الأساب العميقة التي أوجدت هذه المشكلة، وسرعان ما تحولت تلك الأحداث إلى مادة للإثارة العنصرية البغيضة ضد الضحايا المستائين لتصبّ المزيد من الزيت على النار، من دون أن نستبعد في المقابل أن تتحول تلك الأحداث إلى مادة تحريضية قد تستغلها جهات خارجية.

ونحن في الوقت الذي لا نبرر فيه حوادث الفوضي، ولكننا لا نستطيع أن نتجاهل أسبابها، وننبه إلى أنه مالم تتم معالجة هذه المشكلة على نحو سليم يراعي العديد من الاعتبارات ومن ضمنها حقوق الإنسان والظرف الاستثنائي الراهن، فإن الأمر عرضة لأن يتكرر وربما أن يتسع.

الكويت في 4 مايو 2020