تمر البشرية عشية مواجهتها لخطر فايروس كورونا المتجدد بمرحلة انتقالية حساسة لم تكن بدايتها منذ ظهور الفايروس وانتشاره عالمياً. فمنذ أكثر من عقدين تراكمت ظواهر سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة بشكل كمي على الصعيد العالمي كانت دائماً محط صراع بين قوى مهيمنة دوليا بالتعاون مع قوى سياسية على الصعيد الداخلي لمجموعة من الدول تعمل لتوجيه البشرية الى سياسات الانكفاء والحمائية وصراع الحضارات، والابتعاد عن المسؤولية المشتركة والقضايا الرئيسية التي تهم البشرية كمواجهة الفقر والتلوث والحفاظ على البيئة ومعالجة الهجرة، وبين قوى دولية ووطنية تؤكد على المسؤولية المشتركة عالمياً في مواجهة المخاطر والتحديات لتحقيق التنمية المشتركة. ويأتي توجه الحزب الشيوعي الصيني والمساهمات النظرية والعملية للرئيس شي جين بينغ حول بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية، والـتأكيد على الفوز المشترك، وبناء طريق الحرير، والتأكيد على الحوكمة الدولية في كافة المجالات، ضمن المساعي والجهود التي تهدف الى حل التناقضات الأساسية على الصعيد الدولي، وما يتعلق بالصعيد الداخلي لمواجهة التناقضات الجديدة ومواجهة التحديات التي تواجه التنمية.
ساهم ظهور الفايروس الجانح على البشرية في تعرية تلك القوى المناهضة للمسؤولية العالمية المشتركة وبدأت التناقضات الموجودة في العالم تظهر أمام الرأي العام العالمي بشكل فاقع. وبدا العالم يتساءل عن سبب عجز بعض الحكومات التي كانت تعتبر بلدانها مركزا للحضارة العالمية في مواجهة المخاطر وعدم تحركها في تقديم المساعدات، وتوجهها للانكفاء على الذات والانعزال وعدم الجدية في اتخاذ الإجراءات الصحية الوقائية الضرورية واتخاذ طريق التعامل مع المخاطر والكوارث وفق آليات السوق المنفلتة بعيدا عن تخصيص الموارد المالية الضرورية لمواجهة المخاطر المحدقة.
تدعو اللوحة الجديدة للتناقضات الموجودة على البحث الجدي في تحديد معالمها وتجلياتها ضمن مسار جديد ومرحلة جديدة غير منفصلة عن سابقتها من حيث العوامل المؤثرة عليها من أجل رسم المعالم الأساسية للصراع الدائر والمهام الملقاة على كافة القوى التي يهمها المجتمع الرغيد والفوز المشترك والمصير المشترك للبشرية.
تشير اللوحة الجديدة بأن القوى اليمينية والمحافظة التي تهرب من المسؤولية المشتركة وتربط مصير البشرية بآليات الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق المنفلت والاكتفاء بمفهوم الدولة الحارسة وحصر مفهوم الأمن بالجانب العسكري فقط بعيدا عن الأمن الصحي والحوكمة الدولية في كافة المجالات، لا تزال تستخدم الحجج البالية والمنطق المشوش لخلق وعي اجتماعي زائف مبني على عاملين أساسيين. الأول خطاب الكراهية والذي بدا واضحا من التوجهات الإعلامية لهذه القوى وهدفها صياغة توجه عالمي للانعزال عن الصين التي كانت أول ضحية للفايروس الجانح، وصولاً إلى استخدام ترامب تعبير الفايروس الصيني بدلاً من فايروس كورونا، والأمنية بحدوث كارثة إنسانية كبيرة في الصين وانتهاء النظام الصحي فيها، وتراجعها في مجال النمو الاقتصادي. والتوجه نحو عزلها عن المحيط الدولي. وانعكس خطاب الكراهية في توظيف خطابات دينية وخاصة في الشرق الأوسط وتوجيه المجموعات السياسية الدينية بنعوت الكراهية ضد الشعب الصيني.
ويأتي الخطاب الشعبوي كعامل ثان متمم لخطاب الكراهية عبر نشر الأخبار الكاذبة المبنية على نظرية المؤامرة ومسؤولية الحكومة الصينية في نشر الوباء.
و لم تتخل القوى اليمينية عن أسلحتها الأيديولوجية القديمة في نشر المخاوف حول تدخل الدولة والقيام بمسؤولياتها في الحفاظ على الصحة العامة عبر الحديث عن وجهة تدخل الدولة وفرض الإجراءات الاستثنائية والتي تعني العودة إلى نموذج الدولة الشمولية مما يشكل خطرا على حقوق الإنسان.
ويبدو ان التعامل الدولي المختلف مع الوباء منذ ظهوره، أبرز للعالم تناقضات جدية كانت موجودة قبل بداية عام 2020، غير أن تداعيات التعامل وتشخيص الحالات والظواهر ودراستها لا تزال عملية في قيد الصيرورة وهي تترافق مع سعي البشرية لمواجهة الوباء وسوف تُثار تساؤلات عديدة لما بعد السيطرة عليه والتخلص من مخاوفه.
وارى أن على كافة الأحزاب اليسارية والتقدمية والمجاميع التي تأخذ بنظر الاعتبار المصير المشترك للبشرية المساهمة أولاً ضمن حدودها الوطنية في ابتكار الوسائل البناءة للحد من المخاطر وتقليل الخسائر بالاستفادة من النجاحات التي حققتها التجربة الصينية في التعامل مع الوباء، وتبادل الخبر والتجارب الناجحة، والعمل من أجل دراسة التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على الصعيد الوطني وما يتعلق بالمسؤولية الدولية وإمكانية تحقيقها.
إن بلورة ما يمكن أن يكون عليه الوضع الجديد يتطلب الإشارة إلى النقاط التالية بغية المشاركة الجادة فيها واستمرار البحث بشأنها:
ـــ إن التناقضات الحالية تعبير عن عمق أزمة النظام الرأسمالي الحالي وأزماتها الدورية، والتساؤل الكبير هو حول إشكالية الحداثة الرأسمالية والعدمية المرافقة لوجهة ما بعد الحداثة. إن الوضع الحالي ليس نهاية التاريخ، كما ان الرأسمالية بنمطها الليبرالي الجديد لا تستطيع تجديد نفسها، ويتطلب الأمر الجهد النظري والعملي لصياغة مفهوم جديد للحداثة لا يتقاطع مع انجازاتها، ولكن تعالج اشكالياتها وفق حداثة اشتراكية مبنية على التجديد المستمر في طرائق العمل من أجل العيش الرغيد والفوز المشترك والمصير المشترك للبشرية وايجاد الاجابة المقتعة والعملية حول الاسئلة الملحة التي تطرحها الحياة وخاصة ما يتعلق بالحفاظ على البيئة ومعالجة مشكلة الفقر والهجرة.
ـــ هناك تساؤل كبير حول جدوى النظام العالمي الحالي والأجهزة الدولية الموجودة في الوقت الحاضر. لقد حدث خلل كبير في التوازن الدولي. إن هذا الخلل موجود قبل انتشار الوباء ولكن ما جرى ساهم في توضيح الخلل وعدم التوازن، والحديث عن فشل نظام القطبية الواحدة (أمريكا ــ أوروبا) في قيادة العالم والذي لا يزال مبنيا على أساس المركزانية الأوروبية. إن ما يتطلبه العالم هو بناء نظام عالمي جديد ونماذج أكثر أمنا وضماناً للتعاون المشترك.
ـــ خلقت الحالة الجديدة الناتجة عن موقف عدم المبالاة تجاه ما حصل في ايطاليا وعدم تقديم المساعدات من الاتحاد الأوروبي لها، وخروج بريطانيا من الاتحاد من قبل، ومواقف الاتحاد الاوروبي السابقة حول الصراعات الجارية في الشرق الأوسط، التساؤل حول مصير الاتحاد الأوروبي أو فعاليته العملية.
ــ توقع أزمة اقتصادية أكثر خطورة من الأزمة المالية 2008 ، نتيجة ضعف القدرة الإنتاجية للاقتصاد العالمي، بسبب ضعف هيكل القوى العالمية للاقتصاد، ووقف عمليات التصنيع العالمي والتجارة العالمية من جهة، وانخفاض سعر النفط من الجهة الأخرى. وسوف تؤثر هذه الأزمة الاقتصادية بشكل كبير على الطبقة العاملة وسائر الكادحين والفئات المهمشة تحديدا، وخاصة في البلدان النامية. ومن المتوقع حدوث حملة جديدة من الفعاليات الاحتجاجية للفئات المهمشة بعد انقشاع غيمة الخطر الفايروسي.
ـــ ازدياد الصراع الدائر بين القوى الداعية إلى عولمة مبنية على أساس المصير المشترك للبشرية وتحقيق المجتمع الرغيد من خلال الفوز المشترك، والتمسك بالحوكمة الدولية في كافة المجالات بما في ذلك حوكمة الصحة العالمية، وخاصة بعد فشل السياسات الصحية في دول الاتحاد الأوروبي بسبب إخضاعها لآليات اقتصاد السوق المنفلت، وبين القوى التي تدعو إلى الحمائية والانعزال والانكفاء والاكتفاء الذاتي والنأي عن المناقشة أو المساهمة في القضايا ذات الطابع الدولي كقضية الهجرة، والحفاظ على البيئة، والمسؤولية الدولية عن الصحة البشرية.
ــ أهمية التنمية المستدامة على صعيد الدولة الوطنية التي يجب أن تتخلى عن دور الدولة الحارسة، وتتدخل في التنمية وتقوم بوظائفها الاقتصادية والاجتماعية عبر توفير فرص العمل والاستثمار ومناهضة الفقر، وتضمن شكلا من أشكال الضمان الاجتماعي العام في مواجهة الكوارث والأوبئة، بما في ذلك أهمية التنمية في مجال الصحة العامة. وتخلق هذه الحالة تحديا كبيرا للدول الفاشلة وخاصة دول الشرق الأوسط التي تشهد إشكالية في بنية الدولة، ومنها العراق الذي يعتمد على الاقتصاد ألريعي في وقت يشهد سعر النفط هبوطاً حاداً.
ختاما... اننا نشهد مرحلة جديدة من التناقضات والصراعات على المستويين الوطني والدولي، ولا تزال التراكمات الكمية التي اشرنا إليها لم تتحول إلى تحولات نوعية. غير إننا نستطيع فعل ذلك عبر النضال الوطني والأممي لتفعيل قوة الروح الإنسانية ونجاحها في مواجهة الخطر، والنضال من أجل عالم أكثر غنى وأكثر حرية وأكثر انفتاحاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سكرتير الحزب الشيوعي الكردستاني – العراق