ماذا تعني الابتسامة المقترنة بالزعامة لنا نحن مواليد الخمسينات تحديدا؟ هل تعني اننا لم نر زعيما مبتسما يشبهه؟ ربما نعم، رغم محاولات التقليد الممسوخة التي أداها البعض من الرؤساء بعده في تقليد ابتسامته لكنهم فشلوا، لم اره مباشرة، لكني كنت في الثامنة او العاشرة من عمري.. "لم اعرف تاريخ ميلادي الحقيقي.. فأبي يقول انه اضاف ثلاثة اعوام الى عمري لكي ادخل المدرسة مبكرا".. كانت علاقتي بالاسم لا تتعدى الصور الكثيرة.. صور الزعيم المنتشرة في كل مكان.. في أواني الفرفوري الناصعة البياض في استكانات الشاي.. في صواني الاستيل الانكليزية.. في كل ماله علاقة بحياتنا.. وصوت زعيمنا وهو يتحدث بسرعة في المذياع الصاجي الكبير.. ذي الازرار العاجية والناس تصفق أو تضحك.. يسميه البعض "ابو آذان" لكبر اذنيه ويسميه البعض "راعي الفقراء" لانه في كل خطاباته يردد هذه الكلمة، لكني سمعت انه أصيب في يده اليسرى في محاولة اغتيال فاشلة نفذها قتلة يكرهون ابتسامته، لكنه نجا بأعجوبة وبعد خروجه من مستشفى الحيدري في ساحة الاندلس، سماه البعض "الأعضب" لم أكن أعرف ماذا تعني هذه الكلمة.. في كل صوره كان مبتسما.. لكننا في أخر صورة له لمحنا شبح ابتسامة مرسومة على وجه صنمي سابح في دمه قرب كرسي مقلوب، وكنت اسمع نحيب أمي يختلط بنحيب امهات كثر، ثم تزايد لغط غريب مصدره العامة في الشوارع، فمثلا كنت اركض مع الناس وراء شخص قال انه رأى الزعيم في اول الزقاق وهو يرفع يده تحية للناس وحينما نصل يقف من رآه غير مصدق، ويحلف بأغلظ الإيمان إنه رآه في هذا المكان.. وهو يضرب مكانا محددا على الرصيف.. وفي الليل كنت احدق مع الناس الى السماء، بعد أن أشيع أن صورة الزعيم في القمر، فكنت اتابع الظهور الاول للقمر حتى لحظة اكتماله بدرا.. وارى بوضوح كما كان الجميع يرى صورة الزعيم في القمر.. اذن الزعيم لم يمت.. انه موجود في القمر..
مرت سنوات طويلة على صعود الزعيم الى القمر ولم يحدث شيء جديد، وبدأ تأثير صورة الزعيم في القمر يخفت رويدا رويدا حتى أختفى تماما ولم يعد أحدا يراه بعد ذلك، وحينما قيل أنه دفن في اطراف بغداد هرع الناس ناحية القبر، الأمر الذي اجبر السلطات على حفره وإخراج جثته ورميها في النهر.. لكنني مع الكثير من العراقيين نلغي هذه الصورة الكئيبة عن صاحب الابتسامة الجميلة وننحاز كثيرا الى صورة الزعيم في القمر.. لم يصدق اغلب ابناء جيلي انه مات، لأنه شخص لا يمكن ان يموت! هكذا قررت مخيلة الطفولة أن تقول.. حقا لم تمت زعيمنا الجميل... المثير للجدل.. اننا في اعماق قناعاتنا ومخيلتنا الشعرية القائمة على الحلم.. نحلم ـ كما هي الصورة التي رسمتها مخيلة الطفولة - ان تعود الينا من رحلتك الطويلة الى القمر.
ضد النسيان.. إبتسامة الزعيم
- التفاصيل
- محمد علوان جبر
- ادب وفن
- 2242