(كونٌ آخر) مجموعة شعرية للشاعر الدكتور علاء العبادي، تتناول القصائد موضوعات ٍ عديدة منها المرأة وهي مبتدأ الديوان.. (جمال) (كفى صمتاً) (رقص) (زائرة ُ الليل) (سيدة الينبوع) (إلى امرأة) وغيرها وهناك القصائد الفكرية.. وقصائد تتناول الموت منها: (مأتم) (الأجل) (بين عالمين). استوقفتني قصيدة مأتم وتداعت الى ذاكرتي صور النساء الجنوبيات وبكاءهن بهيئة النعاوة. يقول الشاعر:
(في مأتمي
النائحات إذ بَكين
تهطّلت على دمي
منابع الدفء
وهاجني الحنين
لِبحة ٍ في الصوت
ورعشة الجبين
تنسابُ في رفق ٍ
لتغمرني،
وأسمع ُ الحسيس من حنجرة طرية
يَلمع فيها طلّ فجر ٍ داكن
فأرتضي المنام)
وهناك قصائد منشغلة بمفردة وعوالم (تيه) وقصائد أخرى معنية بمفردة وفعل (بحث).
كما ضمت المجموعة قصائد بصيغة حكايات شعرية: (الحكايا) (الملك الموعود) (طارق ليل) (القرصان)(حكاية) (الملك وخدمه) (رحلة).
وفي كل تلك القصائد هناك لحظة حاضرة بكل معانيها اللغوية والمجازية. كما أن مفردة اللحظة تكررت في عدة قصائد كعنوان ومضمون، قصيدة (لحظة ص5) وتشع مفردة لحظة في قصيدة (ملل ص7) وفي قصيدة (مخاض ص15) وفي قصيدة (عوز) وهناك قصيدة اخرى بعنوان (لحظة ص 31).
ولأن اللحظة، كلمة تحمل في طياتها دلالات عميقة ومعانٍ متعددة، تتجاوز كونها مجرد وحدة زمنية قصيرة. إنها لحظة التقاء الماضي بالحاضر، وبذرة المستقبل. إنها الانطباع الأول والأخير، والانفعال الذي لا يُنسى.
جاء في قصيدة (لحظة ص5):
(تحطّمت ذاكرتي وانطوت، تحت بقايا مِن ترابٍ وحَجَر،
كل الهواجس والعواطفِ والغناء.
فكل ما عندي هو اللحظة
أعيشها، أغرق في عبيرها
سريعة الجناح إلى مساربِ الفضاء،
لا دونها، لا فوقها
بل ْ لحظة بكل ّ ما فيها،
بلورة النقاء) ص7
عنوان القصيدة بصيغة نكرة (لحظة) وهذه الصيغة متوفرة في بعض القصائد منها (ملل).. (شعر) (نقد) (تحول) (شوق) (مأتم).. وغيرها من القصائد
في نص القصيدة تتحول المفردة النكرة إلى مفردة معرّفة (فكل ّ ما عندي هو اللحظة) لكن هذه العندية في قوله كل ما عندي، تبهجه.. كما يقول (أعيشها، أغرَق في عبيرها) كأن اللحظة وردة ٌ، ثم سرعان ما يستدرك الشاعر وهو يقوم بتوصيف هذه اللحظة (سريعة الجناح إلى مسارب ِ الفضاء) أنها لحظة وامضة متسربة متلاشية في سعة الفضاء، وعلاقة الشاعر بهذه اللحظة بالتماثل (لا دونها، لا فوقها) وينهي قصيدته بقفل موشوم بمجهولية اللحظة (بل لحظة بكل ما فيها) بعدها يفكك الشيفرة: أن اللحظة المعنية هي: (بلورة النقاء).
واللحظة هي المرآة التي تعكس مشاعرنا وأحاسيسنا.. في قصيدة(مخاض)
(مرتجفاً تراني،
منتظِراً أن يعتريني الفيض ُ
في لحظةٍ ينتفضُ الشوقُ
فتصرخُ الروح
وتولد ُ القصيدة ُ)
اللحظة الحاضرة، وقدرتها على التأثير في المستقبل، أنها لحظة تتلهف للجديد شعريا، للفيض الصوفي المنتفض شوقاً لولادة القصيدة.
وفي اغتنام اللحظة والاستمتاع بالحاضر وعدم التأجيل، جاء في القصيدة ثانية التي تحمل العنوان نفسه وبصيغته النكرة في الصفحة (31) (لحظة):
(اللحظة
أعمل ما يبدو لك.
اللحظة
لا تفلت،
إن اللحظة محض ُ قرار،
يبدو صعباً
يُحدث ُ أمرا، ينهي أمراً،
يصنع ُ عزما، يثني حلما
يُصلح تقويما مضطربا
لكن الأجدر أن تمضي
لا تتمهلْ،
إن المهلة محض ُ قرار)
إذا عدنا إلى قصيدة (لحظة) في ص5 سنجد اللحظة في نهاية القصيدة هي (بلورة النقاء).. أما في القصيدة الثانية التي عنوانها (لحظة) ص31
سنرى (إن اللحظة محضُ قرار) وفي نهاية القصيدة يمنح الشاعر، اللحظة اسما آخر (إن المهلة محض قرار).. من جانب ثان هذه القصيدة تشتغل على
فاعلية الإحالة التكرارية:
(1) (اللحظة أعمل ما يبدو لك)
(2) (اللحظة لا تفلت)
(3) (إن اللحظةَ محض ُ قرار).
وفي قصيدة (ملل) حيث اللحظة ثقيلة وشاهقه كحائط، والأشياء مسكونة بالغرابة، والزمن بدقائقه يزحف نحو قوة مريبة لا فكاك منها
(في لحظة ٍ يجثم ُ مثل حائط عال
دقائقٌ تَجر ُ بعضها البعض لعالم غريب
أريدُ أن أخاتله، لكن قوة ً غريبة ً تشلني
وكل شيء شكله غريب، وأصله غريب)
في ص 108قصيدة (عوز) للحظة دلالة كبرى على الكائن الوحيد الضعيف
فالمتناهي الأكبر يوجه خاطبه للكائن..
(دنُياي
ترمقني للحظة
بنظرة ٍ جريئة
تقول لي:
أراك في غمّ ٍ وسلوان
مكدراً تفورُ،
أتظنني خصما ً لك
أم أنني هجرتُك؟)
فيكون رد الكائن المخذول:
(أُلقي عليها نظرة ارتياب
فتبتسم وتقول:
، مشغولة ٌ عنك اليوم،،
ولا يزال قلبي السارد
وأنفاسي
في لهفة
لجِودها
ولونها وعطرها
لعلها لي تلتفت)
قصائد تنوعت فيها وظائف مفردة (لحظة) وسطعت مهارة الشاعر في شحنها بدلالات متعددة.. ومن هنا يمكن القول: "اللحظة" في قصائد (كونٌ آخر) هي الكون الآخر.
......................................................................
علاء العبادي/ كونٌ آخر/ شركة البهاء للطباعة والإعلان/ البصرة/ ط1/ 2021