في يوم المسرح العالمي لا يسعني إلا أن أقول : كل عام ومسرحنا العربي أكثر جمالاً وسحراً ودهشة ، أكثر جمهوراً وحضوراً ومتابعة ، أكثر دعماً واهتماماً ورعاية، كل عام ومسرحنا العربي ليس موسمياً ولا نخبوياً فقط ، كل عام ومسرحنا العربي لكل الناس ، كل يوم ونحن لدينا مسرح على مدار العام، هذا ما أتمناه وما أحلم به، ولهذا قمت خلال السنوات العشر الماضية بمغادرة مسرح النخبة الذي لا يشاهده إلا المسرحيون أنفسهم، واتجهت نحو مسرح الجمهور ليس في العاصمة فقط بل وفي المناطق النائية والأقل حظاً، وذلك من خلال عملي على مشروع المختبر المسرحي الجوال، ولنفس الغاية أطلقت سابقاً فكرة مسرح المقهى، ثم مسرح السجون، والعام الماضي قمت مع أصدقائي في فرقة مسرح الرحالة التي أسسناها مطلع التسعينات بإطلاق الدورة الأولى لمهرجان الرحالة لمسرح الفضاءات المفتوحة ونستعد حالياً للدورة الثانية، حيث ننجز أعمالاً مسرحية للفرقة ونستضيف عروضاً عربية وأجنبية للمشاركة معنا في المهرجان، تكون قادرة على أن تتواصل مع الجمهور في أماكن تجمعه في الساحات، الحدائق، المقاهي، الأماكن الأثرية والبيوت القديمة، بحيث يتحول كل فضاء إلى مسرح، فبدلاً من أن يذهب الجمهور للمسرح فإن المسرح هو الذي يذهب للجمهور، وهي الفكرة التي لأجلها تأسست فرقة مسرح الرحالة عام ١٩٩١ حتى لا يبقى المسرح حكراً على أماكن محددة وجمهور محدد، وفي نفس الوقت فإن فكرة المسرح خارج العلبة الإيطالية المغلقة فيها بحث مغاير ومقترح جمالي جديد ودهشة من نوع آخر تستفز مخيلة وعقل المتلقي، وهي أيضاً بمثابة انعتاق وعناق مع روح المكان. أعتقد أن هذا ما يجب أن نركز عليه اليوم ونسعى لتحقيقه ونحن نحتفل باليوم العالمي للمسرح؛ الجمهور أولاً، فمسرح بلا جمهور لا يتعدى كونه رقصا في العتمة، فالأمور بحاجة ماسة لخطابنا المعرفي والجمالي في هذه الأيام المصيبة التي تشهدها المنطقة العربية، فإذا لم يلعب المسرح دوراً في الارتقاء بالوعي وتسليط الضوء على المخاطر التي يتعرض لها وطننا العربي من المحيط إلى الخليج، ودق ناقوس الخطر اتجاه ما يحاك لهذه الأمة، وكشف مواطن الفساد، ومحاربة الجهل والفكر الظلامي، وحماية الشباب من الضياع والمخدرات والخواء الروحي والعقلي، اذا لم يقم المسرح بكل ذلك فلا خير فينا ولا في مسرحنا، فالمسرح ليس وسيلة ترفيه وتنفيس أو صفقة مربحة لتحقيق الثراء ولا استعراض نرجسي لتحقيق الشهرة لفرد على حساب مجتمع كامل وأمة كاملة . هكذا أفهم الاحتفال بيوم المسرح العالمي، أن نعيد للمسرح هيبته وأن نعيد له جمهوره، وما عدا ذلك يعتبر جعجعة بلا طحن وذر للرماد في العيون واستعراض على طريقة المولد الذي يقام لليلة أو ليلتين أو أسبوع ثم ينفض المولد بلا حمص. وحقيقةً أنا لم أكن في يوم من الأيام مهووساً بالمسرح لأجل المسرح، ففي طفولتي كنت أحلم بأن أصبح قبطاناً بحرياً وليس مخرجاً ولا ممثلاً مسرحياً، وقد سعيت للسفر إلى اليونان لتحقيق ذلك بعد إنهاء دراستي الثانوية، ولكن عندما تحطم حلمي الجميل على صخرة الواقع؛ وجهت دفة سفينتي باتجاهٍ آخر، وقررت أن أدرس أي شيء حتى لو لم أكن أحبه، فدخلت كلية الاقتصاد على مضض ولكن عندما تعرفت بالصدفة على المسرح أصبح المسرح سفينتي التي أقتحم بها بحار المعرفة ومحيطاتها، ولكني لم أحب المسرح يوماً لأجل المسرح؛ بل لأنه عوضني عن حلمي الطفولي الجميل، فجعلني أبحر لاكتشف جزراً وقارات من نوع آخر، إنها جزر المعرفة ومحيطات الوعي وقارات الجمال، لهذا بقي المسرح بالنسبة لي وسيلة وليس غاية بحد ذاته، فأنا لا طموح لدي بشهرة أو نجومية أو تحقيق مالٍ وفير، فماذا أفعل بكل ذلك؟ لذلك تعلق قلبي بالمسرح من باب أنه مغامرة ورحلة وإبحار، بهدف اكتشاف المجهول وكشف القناع عن وجه الحياة فقط لا غير، لهذا عندما أسست فرقتي المسرحية مطلع التسعينيات أطلقت عليها اسم "مسرح الرحالة"، تأكيداً مني على الميل نحو الرحلة والاكتشاف والإبحار، فلست من أصحاب مقولات مثل :(عاش المسرح، المسرح حياتي، أنا أقدس المسرح.. الخ)، أشعر أن ذلك فيه صناعة جديدة للأصنام وتقديس للوسيلة على حساب الغاية، فلم يكن المسرح بالنسبة لي في يوم من الأيام حالة رومانسية أو جسر ينقلني إلى الشهرة والثراء، كما وأنني لم أحب يوماً مسرح المناسبات، فأنا أحب المسرح لأجل الحياة والناس والأوطان لا لأجله هو بحد ذاته، أحب المسرح كسلاح أقوى من الرصاص، وكمنبر للتعبير عن موقفي اتجاه ما يحدث حولنا من فوضى وعبث وظلم وفساد، لأجل أن أكشف وأعري وأحذر وأدق نواقيس الخطر نحو قضايا الناس والأمة المصيرية، فما قيمة المسرح إذا كان بلا موقف؟؟؟ وماذا لو كسب الفنان المال والشهرة وخسر نفسه وباع مبادئه؟؟؟ ولا أذيع سراً إذا قلت بأنني لا زلت أحتفظ بداخلي بشخصية القبطان أو البحار، وحتى هذه اللحظة لا زلت اتعامل مع المسرح على أنه سفينتي التي أقتحم بها البحر لكي أُبحر ما وراء المجهول، بهدف تحقيق كشف مختلف ومغاير، وهذا هو المسرح بالنسبة لي مغامرة ذهنية ووجدانية واقتحام لفضاءات جديدة وأفكار جديدة وإبحار وسط الأعاصير، فعلى المسرح أن يكون ثورياً، محرضاً، مقلقاً، جريئاً، شجاعاً وغير مهادن. ما عدا ذلك لا يعتبر مسرحاً بالنسبة لي، وهذا ما أنشده واتمناه وأسعى لتحقيقه في اليوم العالمي للمسرح وكل يوم، وهذا ما أتمنى أن يفعله المسرحيون العرب في اليوم العالمي للمسرح: تحويل المسرح العربي إلى منصة يومية لبث الوعي ودق ناقوس الخطر اتجاه كل ما يتهدد الأمة من أخطار، بعيداً عن الفذلكات والتهويمات والرومانسيات والعبثيات التي لن تنجح إلا في تعميق الفجوة بين المسرح والمتلقي.

عرض مقالات: