نشأت بدايات المسرح التونسي كغيرها من الفنون، بالموجات المسرحية الأوروبية، وطغى الطابعان الفرنسي والإيطالي عليها. ذلك أنّ مَن أسّس أول فرقة مسرحية تتألّف من ممثلين تونسيين هما محمد بن تركية والهادي الأرناؤوط اللذان كانا يعملان في القنصلية الإيطالية ويواكبان باستمرار العروض الإيطالية.

في 1910، أوّل مسرحية على ركح المسرح البلدي الذي أنشأه الفرنسيّون سنة 1902.

بعد تلك التجربة انتشرت الجمعيات المسرحية نتيجة تزايد عدد الذين التحقوا بمدارس التعليم الفرنسية. هكذا تكوّنت جمعية تونسية بحتة أطلق عليها اسم «الشهامة الأدبية»، وقدّمت مسرحية «صلاح الدين الأيوبي»، ثم «حمدان» التي اقتبسها نجيب حداد عن مسرحية Hernani لهوغو، ونشأت «جمعية الآداب» التي ترأسها المناهض للاستعمار عبد العزيز الثعالبي، وقدمت مسرحية «شهداء الغرام» المقتبسة عن نصّ شكسبير «روميو وجولييت». كما تأسّس العديد من الفرق في الجهات الداخلية للبلاد، وراوحت عروضها بين اللغة العربية الفصحى واللهجة التونسية، وتأرجحت مضامينها بين الفكاهة والهزل من جهة، والملاحم والميثولوجيا من جهة أخرى.

 وفي الأربعينات، آثر مسرحيون تعميق معارفهم، فسافروا إلى فرنسا لاستكمال تحصيلهم هناك، فيما قرّر حسن الزمرلي ومحمد الحبيب وعثمان الكعاك تأسيس مدرسة خاصة للمسرح عام 1951 تحت اسم «مدرسة التمثيل العربي». تمتعت المدرسة بمنحة من إدارة العلوم والمعارف قبل الاستقلال، واستحدثت شهادة تخوّل حاملها تدريس المسرح، وتخرّجت فيها دفعة مسرحيّين عام 1954 من أمثال محمد الرشيد قارة ومنى نور الدين ومحمد جميل الجودي ونور الدين القصباوي...وكانوا النواة لتأسيس "فرقة مدينة تونس للمسرح" عام 1953، وشهدت أوج عطائها عندما تولّى رئاستها الفنّان البارز "علي بنعياد" بين 1961 و1972.الذي تفوق به جماليا وفنيا وجعله ممارسة رفيعة نخبوية.

ومع انتشار الأفكار الحداثية ندد به جمع من المسرحيين وعلى رأسهم المنصف السويسي العائد من إقامة مسرحية مع روجي بلانشون حيث مقولات المسرح الشعبي الملتزم بقضايا المجتمع للمخرج جان فيلار. من خلال البيان المعروف ببيان 11 (عام 1965) الذي كتبه   كل من منصف السويسي وتوفيق الجبالي وفرج شوشان وثلة أخرى من المنخرطين فيه..

إنه أول حركة فكرية تطرح نفسها كبديل لما نعت بالمسرح البورجوازي السمعوي آنذاك وقد لقيت صداها عامها من خلال أولى الفرق الجهوية في الكاف ومؤسسها المنصف السويسي وتلتها فرقة قفصة (مع مجموعة رجاء فرحات.. رؤوف بن عمر وفاضل الجعايبي. والراحل فرحات يامون)

 رغم هذه التجربة الاستثنائية التي استقطبت جمهورا مسرحيا جديدا وشعبيا. استمر تغافل الدولة في فتح مجالات العمل وبعث مؤسسات تحتضن الخبرات المسرحية لذلك نشأت فكرة التجمعات المستقلة (المسرح الجديد ومسرح فو والمسرح العضوي.) وبعدها تفاقمت ظاهرة الفضاءات الخاصة حيث نشأ (فضاء التياترو، الحمراء، المدار، نجمة الشمال …) لقد طرحت هذه المجموعات نفسها بديلا عن الثقافة الرسمية. وهذا ما يميز تجربة المسرح الحديث في تلك الفترة (الثمانينات) فغياب المؤسسات المسرحية وهجرة المؤلفين المعتمدين الذين لم يكونوا مرتبطين بالفعل المسرحي (عزالدين المدني والحبيب بولعراس...) خلقت من هذا الفراغ مجالا رحبا للبحث والاستقصاء في أشكال تعبير وعلاقات جديدة في الإنتاج.

فالحاجة إذن هي التي ولّدت هذه الظواهر وليست ترفا كما يعتقد بعض المتابعين الكسالى لتاريخ المسرح. أما فيما يتعلق بالتياترو فيمكن القول إنه أسعفنا الحظ في إيجاد هذا المكان الواقع ضمن مركب فندقي (المشتل) وهنا لا بد أن اروي هذه النادرة، فعندما تقدمنا بطلب قرض بنكي لتنفيذ الأشغال الأساسية للفضاء وكانت الدولة آنذاك تخصص قروضا مالية لذوي الحرف الصغرى بقينا أشهرا ننتظر من وزارة المالية وثيقة تشهد أننا مؤهلون للحصول على القرض. فلم يجدوا لنا تصنيفا وكادوا يجعلوننا في خانة المهن الخطرة كالملاهي الليلية والمواخير...

وللتاريخ، فقد وُجد التياترو بوسائل جد متواضعة... حتى انه لم يكن لدينا لا مقاعد ولا منصة فاستأجرنا خمسة ألواح (مادريات) من التي تستعمل للبناء وأقمناها على عوارض حديدية... وهكذا قدمنا أول أعمالنا "مذكرات ديناصور". ، كان اختيارنا ان يكون التياترو قبل كل شيء فضاء الاختبار... اختبار المسرح واختبار البيئة الثقافية واختبار مدى قدرتنا على التواصل مع الجمهور بشكل مستمر ومتوازن ليصبح فضاءً للابتكار واحتضان كل التجارب الفنية الطريفة والمجددة من رقص ومسرح وموسيقى وفنون تشكيلية ولقاءات بروح تطوعية منفتحة...

 إن تجربة التياترو في هذا المجال تتوق إلى جعل الفعل المسرحي فعلا لا يرضخ لأية قيود أو قواعد مسبقة إلا بحسب ما تمليه الحاجة أو ظروف العمل نفسه... باعتبار أن المسرح هو فضاء تجريبي قوامه الحرية والبحث عن تعابير غير سائدة ومقنعة ومساءلة متواصلة عن ماهية هذا الفن ومتاهات التواصل دون الخوف على مكتسبات مفقودة فلا مالا متاح ولا جاها محتمل...

أنشأ التياترو في اكتوبر عام 1987 أي شهرا قبل أن يقصى بورقيبة بانقلاب طبي ويأخذ محله بن علي، أنشأنا هذا الفضاء الخاص وكان في ذلك الوقت من الفضاءات النادرة في المدينة نتيجة تهميش المؤسسة الثقافية من جهة وقلة الفرص لتأمين فضاء يعتمد على موارده الخاصة بقطع النظر عن سياسة الدولة التي تتباهى بأنها تدعم الفنون والثقافة.

نشأ إذن مسرح التياترو ببادرة فنانين مسرحيين معتبرين المسرح نشاطا إنسانيا جديرا بالتضحية والصبر والالتزام.

لقد استطعنا كل تلك الفترة مراوغة الرقابة باتخاذ كل اساليب التعبير المجازية والابتعاد عن مناطق الزوابع بما لا يثير حفيظة الهيئات الرقابية المتتالية بالاعتماد على كسلها الفكري أو غبائها البيروقراطي الذي استفدنا منه إلى درجة قصوى مما جنبنا كثيرا من المضايقات والتصادم المباشر مع النظام إلا فيما قل وندر من الفترات التي كان فيها هذا النظام يمر بفترات من التوتر والانغلاق …

كانت الرقابة رقابة بوليسية أكثر منها فكرية وكان المسرح نسبيا يتمتع بنوع من اللامبالاة من طرف الهيئات الحاكمة أو لا ينظر له من باب المهدد لمصالحه وممارساته القبيحة.

كان التياترو في كل ذلك ملجأ لكل القوى الحية في المدينة وملاذا لكل المهمشين والذين لم تستوعبهم الفضاءات الثقافية العمومية ومربعا حيا من الحرية للمسرحيين للقيام بتجاربهم وابتكاراتهم المتواصلة...

ثم جاءت ثورات ما سمي بالربيع العربي وما بشرت من قيم جديدة وانعتاق قوى التغيير والحلم بالمدينة الفاضلة التي تخلصت من كابوس الاضطهاد النفسي والبوليسي …

كان فضاء التياترو متزامنا مع هذه الاحداث ومواكبا لجميع أشكال الحوار واللقاءات الفكرية والسياسية وفتح أبوابه كذلك للمجتمع المدني لكي يجادل ويتجادل...

رغم الخيبات المتتالية التي سجلتها القوى الحية في تحقيق حلم الثورة فان فضاء التياترو بقي محافظا على وتيرته في مواكبة الأحداث السياسية والثقافية والدفاع عن الحريات الشخصية والعامة...

خبرة التياترو في العمل في المحيط الرقابي تعطيه اليوم سلوكا واعيا بدقة المرحلة الحالية لكونها تخلصت من حقبة كان فيها انعدام الحرية شبه مقنن بشكل بيروقراطي ذي قراءة أمنية بحتة إلى حرية مطلقة غير مقننة لعلها أخطر مما سبقها لكونها تجيز كل التجاوزات والمضايقات.

لكن هذا لم يبعده عن دوره كفضاء للفن والابتكار... وهو يعد من أندر الفضاءات التي واكبت هذا التغيير بكثير من الأعمال الفنية والمسرحية وذلك بمعدل ثلاثة إلى أربعة أعمال موسميا واحتضان الكثير من العروض الضيفة ... شرطنا في ذلك ان تكون أعمالا قيمة وجديرة وتقدمية... تحترم فنها وجمهورها بعيدا عن غوغاء السوق التجارية او استدراج عواطف الجماهير بالالتزام الشعبوي.

ومما زادنا تحصينا وجود استوديو التياترو منذ 15 عاما كمساحة لتكوين فن الممثل استقطبت ومكنت جيلا كاملا من المسرحيين من التجريب دون عناء موانع الاحتراف وتعقيداته الإدارية والمالية فكانت محصلة ثمينة تمتاز بالثراء والتنوع وأصبحت تؤثر بشكل مباشر على المشهد المسرحي والسنيمائي التونسي...

عرض مقالات: