اقامت الجمعية المغربية والإستراتيجيات الترابية بمشاركة جمعية الرافدين العراقية بالمغرب يوم السبت 10 أيلول 2020 ندوة بعنوان (تكنولوجيا المعلومات وأسئلة تجديد الفعل الثقافي)، ادارها المهندس مثال عبد الوهاب والاستاذ الجامعي جواد دابوني. وشارك فيها من المغرب الأستاذ الجامعي حمادي كيروم والناشط الثقافي ضمير العاني. ومن العراق الناشط المدني فاروق فياض، ومن السويد الإعلامي رشاد الشلاه.. في ادناه الأسئلة التي طرحت خلال هذه الندوة، واجوبة فاروق فياض ورشاد الشلاه عليها.

سؤال للأستاذ فاروق: ما مدى ارتباط الثقافة في عصر التكنلوجيا في هيمنة الصورة والنزعة الاستهلاكية؟ 

 لم يبلغ دور للإعلام المرئي كما بلغه في ظل العولمة من خلال ثورة تكنولوجبا المعلومات والاتصالات وانتشار الفضائيات، مما دعا بعض الخبراء بالقول إذا كان القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هو بداية عصر المواصلات التي قربت المسافات، فان النصف الثاني من القرن العشرين وما سيأتي في المستقبل هو بلا هو منازع عصر الاتصالات، مما يعزز قوة وتأثير دور الفضائيات وتغطيتها لمجمل احداث العالم حاضرا ومستقبلا، بدا بشكل الاعلام المرئي للباحثين بأن يقولوا بان هناك الثقافة الجديدة التي هي ثقافة الاعلام المرئي حيث تحولت البشرية من ثقافة شفاهية الى المكتوبة ومنها الى راهنا، الى ثقافة الصورة، وهذا ما يدلل على تراجع القراءات والاقبال على الاعلام المقروء: الصحف، المجلات، الكتب، وليس فقط في وطننا العربي وانما هي ظاهرة عالمية لتأثير دور الصورة ودور الفضائيات، مما يعطي فرصة للنقاش وتعدد الآراء وجدل الأفكار والتأمل وبذل الجهد، بينما ثقافة الصورة في ظل العولمة عرضة للاحتكار من قبل رأس المال المعولم فهي تطرح رؤيا احادية، وتمارس التلقين وتدعو الى الاتكالية مما يطرح من اخبار او برامج تبدو انها تعكس الواقع، ونستطيع ان نقول لأول مرة لم يعد الاعلام ينقل الاحداث ويروي الوقائع بل اصبح يصنعها، فالأخبار هي اساسا ما يقدمه المراسلون على عجل من خلال شاشة التلفزيون، اختيارا وانتقاء وعرضا وتركيزا وتضخيما او تحجيما. اي ان الاعلام يساهم في التأثير على الاحداث. السؤال الذي نستطيع ان نطرحه لمصلحة من يؤثر الاعلام بصيغته المرئية على صناعة المواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟ لا اعتقد بان الجواب بحاجة الى المزيد من العناء حيث اننا نكتشف أن من يمتلك هذه الوسائل العملاقة الاعلامية والشركات الكبيرة، يستطيع ان يروج ما يريد، مما يتطلب دراسة تأثير الاعلام المرئي حاضرا ومستقبلا، وفي فهم دوافعه المباشرة وغير المباشرة المعلنة والخفية من خلال ما يعرضه وبذلك نستطيع تكوين رؤيا نقدية لأهم وسائل الهيمنة الرأسمالية في ظل العولمة وهذا ما يؤكد مسعى القوى السياسية والمالية المحموم، لأجل امتلاك وسائل الاعلام المرئي عالميا واقليميا ومحليا، وطرق الاستفادة من المنجز التكنولوجي في تقنية المعلومات والاتصالات. ومن خلال ما يطرحه الاعلام المرئي نستطيع ان ندرج الاخبار التي تحاول المؤسسات الاعلامية وفي الصورة ان تبرزها، ما تريد من هذه الصورة، لذلك اصبحت عملية نقل الاخبار هي عملية منزوعة عن نسقها التاريخي، وكأن كل حدث هو حدث في ذاته غير مرتبط تاريخيا بأحداث، وغير مرتبط بالمستقبل، فلذلك انتزاع هذه الاخبار وكأنها اخبار في حد ذاتها، ولذلك معظم الاحداث التاريخية او معظم الاحداث السياسية التي يتم نقلها كأنها تنقل على شكل كوارث طبيعية. اي ليس هناك ما هو المسبب، وما هي الآثار والنتائج على هذه السياسات. هذا من ناحية الاختزال الكبير من خلال الاخبار. ثم ما يغري بالقول ان وظيفة وسائل الاعلام بالذات ليست سوى دفع الوقائع الحاضرة في الماضي بأسرع وقت ممكن، وبالتالي لا يصبح هناك وقت للتفكير والتحليل والتبصر والاستيعاب، ثم اتخاذ الموقف وهو المطلوب. لهذا عبّر عنها الفيلسوف فريدريك جيمسون ان احد ابرز سمات الاعلام المرتبطة بظهور الرأسمالية الاستهلاكية، متعددة القوميات، هو اختفاء التاريخ؛ فالنظام الاجتماعي بأكمله بدأ يفقد شيئا فشيئا قدرته على الاحتفاظ بماضيه. هو ذاته كأنه يعيش في حاضر ابدي. الماضي القريب يصبح تاريخا بعيدا، مما يطمس المرجعيات الاجتماعية. وكأن وسائل الاعلام لا تقوم سوى بقتل الاخبار. اهم القضايا الانسانية سرعان ما تصبح قديمة، ويطويها تلاحق الاحداث، وبذلك تضيع المسببات الفعلية للأحداث السابقة، والمسببون، وفصل الأحداث القادمة، وكأنها بنت ساعتها. لذلك اشار الباحث في المجال الاعلامي الدكتور محمد السيد أستاذ الإعلام المتخصص في أبحاث الإعلام الأمريكي المرئي 2004، إلى دراسة حول الإعلام التلفزيوني خلال حرب الخليج الثانية (1991)، أظهرت انه كلما زادت مشاهدة الجمهور لقناة cnn التي احتكرت تغطية تلك الحرب، وبنت شهرتها عالميا على تلك التغطية الحية، كلما قلت معرفتهم بحقائق الصراع الفعلي.

لذلك تم اختزال عملية الحرب وعملية اختزال الشعب او الامة او الوطن بشخص ديكتاتور معين، واهملت عملية الخسائر الكبيرة وفظائع الحرب. والجانب الاخر هو ما اطلق عليه بمفهوم التسلية والاثارة. وقد عبّر عنه المفكر الاستراتيجي الامريكي بريجينسكي بشكل دقيق على انه رضاعة التسلية من خلال البرامج التي تبثها وسائل الاعلام المرئي مثل الفوازير والبرامج الترفيهية، واصبحت فلسفة تجارية من اجل ترسيخ النزعة الاستهلاكية، وبالذات التوجه الى الشباب وترسيخ مهمتين رئيسيتين لهذه التسلية؛ اولا هدر الوعي وتزييفه من جانب. والجانب الآخر هو ترسيخ النزعة الاستهلاكية. وعندما يتم ترسيخ هذه النزعة الاستهلاكية لدى جمهور كبير، ستتغير القيم الاجتماعية لتصبح كم هي قدرة الفرد على الاستهلاك، أي كلما زادت قدرة الفرد على الاستهلاك كلما كانت له القيمة الاجتماعيىة المطلوبة، ولذلك استبعدت عملية الانتاج والاداء والعمل والاخلاص والثقافة بمفهومها الواسع، لان القيم الاجتماعية اصبحت مقترنة بكمية الاستهلاك للفرد هذا من جانب. وقد حاول الاعلام المرئي ان يمزج او ان يصبح الاعلام مساويا للإعلان، ولقد وجدت غايتها وسائل الاعلام الكبيرة من خلال كرة القدم التي يتابعها جمهور كبير. لهذا اصبحت ادارة هذه المباريات الكبيرة من قبل شركات كبيرة هي التي تعتمد ادارة هذه المباريات، من اجل ان تكون هنالك كمية اعلان كبيرة جدا. ومن ضمن الاشياء المهمة التي قد تكون هناك كنظرة انه ينظر الى الاعلام الذي يحمل صفة الثقافة الاستهلاكية والاعلام المرئي لبرامج الفضائيات الاصولية الدينية او العرقية، انهما على طرفي نقيض؛ اي ان الاعلام صاحب الثقافة الاستهلاكية الذي يروج عمليا سياسة السوق الحرة والخصخصة، وللعولمة وللرأسمالية بصبغتها الليبرالية الجديدة، كأنه على طرفي نقيض، مما تدعو اليه المرئيات الأصولية، لكن في حقيقة الأمر هناك عدة مشتركات ما بين الاعلام المرئي الاصولي والاعلام المرئي الاستهلاكي؛ كلاهما يشترك في مواقف محددة. وكلاهما يقوم بعملية تزييف وعي وخاصة المبعدين عن السلطة. وهناك من يبحث عن اولويات خارج الاولويات الاجتماعية، وبالذات كلاهما يسعى الى نزع شرعية الدولة الوطنية. وكلاهما لديه موقف محدد من المرأة: الاعلام الأصولي بسيطرته واستعباد وتهميش دور المرأة بالمجتمع. بينما يقوم الاعلام الاستهلاكي بتحويل المرأة الى سلعة من خلال الدعايات، وان تكون رمزا للإثارة. ومن خلال الافلام الاباحية ومن خلال اثارة الغرائز. كذلك كلاهما يعتمد على النظرة الأحادية، فيتخذا موقفا من المستقبل، ثقافة الاستهلاك التي تعمد الى تعزيز النزعة الفردية على حساب الجماعة. يقوم الاعلام الاصولي بتذويب هذا الفرد في الجماعة وفصله. اي لا يكون له اي دور كفرد، كذلك نستطيع القول إن الثقافة الاستهلاكية معنية بالحاضر اللذوي، والمتعة الآنية وهي غير معنية بالمستقبل. اما الاعلام الاصولي فيقوم أيضا بنفي دور المستقبل والرجوع الى الماضوية والتقوقع في الماضي. اعتقد ان الاعلام المرئي ولخطورته لا نستطيع ان نقول هناك اعلام محايد في ظل العولمة. الاعلام من اهم وسائل الهيمنة سابقا وحاضرا ومستقبلا، فلا يمكن بالتالي فصل الاعلام المرئي عن الغايات السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل المجتمعات. بالإضافة نستطيع ان نقول ان هذا الاعلام يتفاعل مع مواقع التواصل الاجتماعي ويؤثر بها ويتأثر ايضا، فلذلك لا نستطيع ان نقول ان هناك جزرا معزولة ما بين مواقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك، التويتر والانستغرام، وبين ثقافة الصورة؛ فكلاهما متداخل ومتشابك، مؤثر أحدهما بالآخر.

السؤال الآن للأستاذ رشاد الشلاه: ما هو تأثير تكنولوجيا المعلومات الإيجابي والسلبي في الفعل الثقافي؟

من البديهي التأكيد على أن كل منجز علمي جديد يمكن تسخيره بما هو نافع وضار في آن، والتطور العاصف في وسائل الاتصال الرقمية ليس استثناء. وبالعودة الى أحد تعريفات الثقافة كونها كل ما صنعته يدا الإنسان وعقله. أي كل ما اخترعه الإنسان وما اكتشفه، وكان له دور في العملية الاجتماعية. أي أن الثقافة تشمل: اللغة، العادات، التقاليد، المؤسسات الاجتماعية، المفاهيم، الأفكار والمعتقدات، التراث.. إلى غير ذلك مما نجده في البيئة الاجتماعية من صنع الإنسان وقد توارثه جيلا بعد جيل، وفي ظل عالم العولمة الحالي لا بد من خضوع تراثنا إلى مراجعة شاملة، وهذا ما أراه ضروريا لأن إعادة النظر بالتراث يعني تخليصه من كل ما هو مسيء للإنسانية. وبذات الوقت فأنه من الطبيعي أن يرفضه أولئك الذين يستخدمون التراث كسلاح إيديولوجي من اجل الدفاع عن الهوية القومية.

 لقد فتحت التقنية الرقمية آفاقا رحبة للغاية، امام نشر المنتج الثقافي، وإن كانت هذه الآفاق افتراضية:

أولا/ عبر إمكانية الاطلاع عليه ما دام للمتلقي أداة هذه التقنية أي أجهزة الاتصال وفي أي مكان في العالم.

ثانيا/ لقد تحرر المنتج الثقافي من سلطة الرقابة التي تمنع صدوره أو تكييفه لينسجم مع ارادات سلطة الرقيب، وهذا جانب إيجابي، ولكن السلبي فيه هو استسهال عملية النشر لمنتج قد لا تتوفر فيه مواصفات الرصانة.

ثالثا/ وفرت هذه التقنية تشكيل مجاميع حسب الاهتمامات المشتركة، ومنها تشكيل مجاميع تهتم بالشأن الثقافي العام، وكذلك مجاميع لمعنيين بأحد فروع الثقافة الأخرى المتنوعة كالكتاب والفنانين التشكيليين والسينمائيين والمسرحيين.. الخ، وهذا ما يساعد على توطيد الصلة بين عدد من المنتجين وتبادل الآراء وطرح محاور للنقاش في ما بينهم. ومن شأن هذا إثراء السجال بين اوساط المثقفين.

رابعا/ توسيع وتعزيز الصلة بين المثقف وبين قرائه أو مريديه، من خلال التواصل معهم عبر الحوار والاجابة على اسئلتهم. وهذا التواصل أو التفاعل يخلق تأثيرا متبادلا بين المثقف وجماهيره.

خامسا/ سهلت هذه التقنية لقاء المثقف بالجمهور افتراضيا، وقللت من كلفة اللقاء المادية الى حد كبير، فلم يعد أمرا ملحا عند أعداد لقاء ما توفيرُ قاعة مناسبة واجراءاتُ سفر بسبب التباعد الجغرافي للمتحدث او المتحدثين، حيث يمكن اتمامها على غرار ما يُلجأ اليه الآن في طريقة القاء المحاضرات في الدراسة عن بعد. على الرغم من أن التفاعل الواقعي أثناء اللقاء المباشر بين الأشخاص أكثر حرارة من اللقاءات الافتراضية، ولكن للضرورة أحكام كما يقال.

سادسا/ لما كانت ثقافة الكلمة تحتاج الى اجهاد العقل ومن ثم ابحار المتلقي في رسم المتخيل مما يرمي اليه الكاتب وقد لا يوفق في الانسجام مع هدف الكاتب، لكن النص المعزز بالصورة يرسخ هذا الانسجام لدى المتلقي عندما تقترن الكلمة بالصورة، وهذا يبرز عند العرض النقدي للأعمال الفنية، حيث تتيح هذه التقنية نشر عدد غير قليل من الصور وبجودة عالية.

سابعا/ تمتاز هذه التقنية بسهولة وسرعة عرض المنتج الثقافي لتتجاوز عقبات فترات انتظار انجاز الطباعة والشحن والتوزيع.

ثامنا/ تمتاز محركات البحث بدقة لافتة، وهذا يعين أي مثقف على كشف من يسرق نتاج غيره، فتكفي جملة واحدة في أي نص للعثور عنى مكان وزمان نشرها، وهذا ما يحد من الاعتداء على الحقوق الأدبية للمثقف وبالتالي صونها.

تاسعا/ يقول الفيلسوف والكاتب الكندي مارشال ماكلوهان "إن الوسائل الالكترونية تجعل الاتصال سريعا، لدرجة أن الشعوب ـ على اختلاف مواقعها في العالم ـ تنصهر في بوتقة واحدة، وتشارك بشكل عميق في حياة الآخرين. والنتيجة كما يرى ماكلوهان أن الوسائل الإلكترونية تقضي على الفردية والقومية، وتؤدي الى نمو مجتمع عالمي جديد. وبهذا المعنى فان هناك من يقول إن شيوع هذه التقنية سيؤدي الى سيادة ثقافات الدول والمجتمعات المالكة لهذه التقنية على ثقافات الدول والمجتمعات الأدنى منها علمياً وتكنولوجياً. وبالتالي تشكل تهديدا لخصوصية الثقافة الوطنية والقومية.

عاشرا/ تعاني مجتمعاتنا بشكل عام من الخلل في ثقافة الحوار، وكثيرا ما يقمع المثقف بدل الحوار معه، بل وصل القمع حد التصفية الجسدية للمثقفين وهذا ما حدث في تصفية حسين مروة ومهدي عامل العام 87 في بيروت، وفرج فودة العام 92 في القاهرة، وكامل شياع العام 2008 في بغداد. ووسائل الاتصال الحديثة وفرت للمواطن العربي فرصة إضافية لمشاهدة جملة من فعاليات حوارية ثقافية، تدار بأسلوب حضاري ويتجلى فيها احترام الآخر ووجهة نظره. اسلوب خال من الصراخ أو الاعتداء اللفظي أو البدني، أيا كانت نقطة الاختلاف في وجهات النظر بين المتحاورين.

سؤال آخر للأستاذ رشاد الشلاه: في ظل العولمة وسطوة تكنلوجيا المعلومات كيف يمكن للمثقف ان يستثمر امكانيات تكنولوجيا المعلومات في ابداع ونشر فعل ثقافي متميز وسط طوفان المعلومات وقوة الصناعة الثقافية المحكومة بالبنيات الاقتصادية الراهنة؟

كما أشار الاخوة المتدخلون الى أهمية وخطورة هذه التقنية، أصبح واضحا أن تقنية المعلومات هي فرصة ذهبية ورخيصة لاطلاع المتنوع، ناهيك عن أي قارئ آخر وقد وفرت تقنية المعلومات فرصةً ذهبية ورخيصة لاطلاع المثقف، ناهيك عن أي قارئ.. للاطلاع على كم غير محدود من المنتج الثقافي المتنوع. وكما نرى اليوم فان شبكة المعلومات توفر آلاف الكتب والإصدارات الرقمية وبلغات عالمية عديدة.. وهذه الميزة لم تكن متوفرة قبل ظهور الانترنيت، وعدم توفرها كان عائقا جديا أمام توفر مصادر الثقافة وتنوعها عندما كانت تدون ورقيا. كما ساعد توفر خدمة الترجمة الفورية الرقمية من وإلى عشرات اللغات العالمية رغم عدم الدقة المطلوبة فيها، في إمكانية اطلاع الباحث على مصادر مهمة لثقافته لا تتوفر في لغته الأصلية.

ولم توفر تقنية المعلومات الحديثة المطبوعات الورقية بشكل رقمي فقط بل وفرت وبجودة عالية الصورة والأفلام والموسيقى، وكذلك النقل المباشر للفعاليات الثقافية المختلفة وتوثيقها فلميا وإمكانية العودة للاطلاع عليها في أي وقت كان. وهذا الانتشار الذي يمكن ان نسميه انتشارا بلا حدود، اوجب على المنتَج الثقافي أن يكون متميزا، حيث لم يعد محصورا في مدينة او بلد ما، بل يتم الاطلاع عليه وتقويمه ونقده في العديد من البلدان، بمعنى الانتشار عالميا.

كان المبدع بشكل عام قبل ظهور الانترنيت يعاني من إشكالية تسويق انتاجه بسبب العائق المالي او صعوبات لوجستية، وكانت هذه الإشكالية كثيرا ما تصيب هذا المبدع أو ذاك بالإحباط وربما العدول عن اصدار منتجه الثقافي.

إن توفر خدمة اللقاء عبر الخدمة الرقمية كما هو الحال في مثل هذا اللقاء اليوم، تشجع المبدعين على تنظيم لقاءات متنوعة كمناقشة صدور ديوان شعر او رواية او مسرحية او كتاب معني بشأن ثقافي ما، عبر الدعوة الى مشاركة عدد من المهتمين في بلد واحد او عدة بلدان، ولا بد أن تحقق مثل هذه اللقاءات تقاربا وفهما أعمق بين المشتركين، وكذلك توفر فرصة للاطلاع على منتج ثقافي من قبل جمهور المتلقين في أي بلد ما كانوا.

ولا تقتصر الفائدة على تحقيق التقارب بين المبدعين والاطلاع الواسع على نتاجاتهم. بل تحقق شيوع المنتج الثقافي، وتحديدا بين أوساط الشباب، في الوقت الذي نلاحظ فيه عزوفا عن قراءة المنتج الثقافي الرصين والميل الى ما هو سطحي أو هابط مما يطرح اليوم في الساحة الثقافية عموما. والعزوف عن القراءة في مجتمعاتنا العربية الفقيرة والغنية أزمة عامة لها أبعاد تربوية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وما عمق هذه الأزمة وصار أحد اسبابها انصراف الشباب الى وسائل الاتصال الجماهيرية.

لذلك من الضروري استثمارُ هذه الوسائل للوصول الى المتلقي الشاب وتزويده بالمواد الثقافية الراقية عبر إقامة مختلف الفعاليات الثقافية وبأسلوب يجمع ما بين النخبوية والاهتمام الأعم بالمنتج الثقافي، وهذه مهمة ليست سهلة ولكن المباشرة فيها وتكرارها لا بد لهما من أثر ايجابي بين أوساط الشباب. اذن على المنتِج الثقافي السعي الى الوصول للمتلقي بالوسيلة المرغوبة لديه، وأعني قطاع الشباب حيث تشير دراسات عديدة الى تضاؤل دور الكتاب والصحف الورقية كأحد مصادر تشكيل ثقافة الشباب لصالح منصات التواصل الاجتماعي، ما دفع أصحاب دور النشر والصحف الى اللجوء الى الإصدار الرقمي بدل الورقي أو كليهما للحفاظ على تواصلها مع الجمهور المتلقي.

ملاحظة أخيرة.. رغم الدور الفاعل والمؤثر لتكنولوجيا المعلومات في حياتنا الى أن استثماره على المستوى الرسمي الحكومي في إشاعة مستوى ثقافي معقول في مجتمعاتنا محدود جدا للأسف.

سؤال للأستاذ فاروق فياض: هل يسهم المنتج الثقافي عبر وسائل التكنولوجيا الجديدة في إعطاء الثقافة مفهومها المطلوب؟ ومدى مساهمة هذه الوسائل في تنمية الثقافة وما هو المطلوب من المثقف في سبيل ان ينتزع هذا الوقت الضائع بالنسبة للشباب؟

تحدث الاخوة عن ان الثقافة بصفة عامة كأنها شيء مجرد عن الواقع لكنه من المؤكد لا توجد ثقافة واحدة. هنالك ثقافات متعددة وهذه الثقافات لها جذورها في ارض الواقع والصراع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي أيضا، فليس هناك ثقافة واحدة يمكن الحديث عنها وليس هناك ابداع واحد يمكن الحديث عنه. في كل جزء هنالك ابداع وصيغ جمالية معينة تقود الى العزلة او الذاتية أكثر مما هي تقود الى الجانب الاجتماعي والمواقف المهمة الاجتماعية والسياسية في لحظة تاريخية محددة.

 بالنسبة للثقافة علينا ان نربط أيضا بين الثقافة والمؤسسات التعليمية. للأسف اغلب المؤسسات التعليمية وبمناهجها وطرق تأثيرات الدولة على هذه المناهج، نجدها ترسخ جانبا من العقل النقلي. أي انها لا تضع منهجية للعقل النقدي. المؤسسة التعليمية بدءا من المراحل الأولى، وحتى المراحل الجامعية تساهم بشكل او بآخر في عملية خلق شكل من اشكال التفكير، بما تتطلبه سلطة او حكومة او دولة محددة. وهذا يؤثر بدوره في التناول الثقافي والجمالي أيضا، أي ان الثقافة لا تكون معزولة عن المؤسسة التعليمية في جميع مراحلها، أما عن موضوعة الترويج الثقافي  فقد تحدثنا عن تأثير دور ثقافة الصورة وثقافة الاستهلاك. صحيح أصبح المجال مفتوحا امام المثقفين، في مجال نشر المنتج الثقافي، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، لكن بشكل مواز هناك قوة تأثير أخرى يجب ان تؤخذ بنظر الاعتبار في ثقافة الاستهلاك، مما يزيف ويعرقل الوعي الجمالي الثقافي، لهذا على سبيل المثال ممكن ان تجد مشاهدة لأغنية كلماتها بائسة ومضرة اجتماعيا وموسيقيا وأدائيا، لكن تجد نسبة المشاهدة لها عالية جدا مقارنة بمشاهدة تسجيل معين لقصيدة شاعر معروف، فيها رؤى جمالية وفنية عالية، لكن نسبة مشاهدتها  ضئيلة.

لهذا هناك أيضا حصار للمثقف في ظل تسيد الفضائيات وثقافة الصورة. هو أيضا أصبح فيه حصار ما بين هذا السائد، وما بين الفعل الثقافي الجمالي والهادف والذي يعني بهموم المجتمع بقدر ما ان هناك كما كبيرا من عملية التلقين التي تدار من قبل وسائل الاعلام المرئية، والتي تؤثر شئنا او ابينا في عملية وعي الشباب خاصة. وكما ذكر بعض المتداخلين، بضرورة التوجه الى الشباب بأن وسائل الترفيه والتسلية ورضاعة التسلية كما تسمى تؤدي الى هدر الوعي أيضا. هذه الوسائل من التقنيات، ومن استخدام العلوم والتكنلوجيا بدقة، توصل الصورة بشكل غير قابل للنقد، كأنها أصبحت كما يسمى بالإيمان الديني غير القابل للنقد والتفكيك والتحليل، والى اين تؤدي بنتائجها المباشرة، فلذلك ممكن ان تكون هذه التقنيات في مراحل معينة استطاعت المساعدة في تنظيم جزء كبير من الحراك الاجتماعي حتى في الانتفاضات التي حصلت في المنطقة العربية. كان هناك دور كبير لمواقع التواصل الاجتماعي التي لم تكن عليها الرقابة، مثلما يمكن ان تأخذ في المستقبل، في ظل حكومات معينة، تخدم طرقا من طرق الاستبداد، فلذلك التكنلوجيا سلاح قد يكون ذا حدين في عملية استخدامه من قبل المؤسسات والشركات المحتكرة لهذه التكنلوجيا. وممكن ان يكون هناك دور للمثقف. وهنا المثقف الذي لا يكون تابعا للسلطة او تابعا للأصوليات أي المثقف التنويري. علينا ان نميز بين ثقافات متعددة فليس هناك ثقافة واحدة، أو شكل واحد لها، وهي تنتمي بشكل او بآخر الى أيديولوجيا بشكل مباشر او غير مباشر. ذكر الأستاذ حمادي قبل قليل مستشهدا بما قاله نيتشه برفضه جزءا كبيرا من عملية التمردات، وعاد للثقافة الاغريقية. هذا الطرح بحاجة الى نقد، فليس الارتهان الى العدمية في الثقافة، ويجب ان تؤخذ هذه الثقافة في مراحلها التاريخية المحددة، ضمن فتراتها المحددة، وكيف ينظر المثقف الآن الى المراحل التاريخية القريبة، على سبيل المثال في العراق وخلال الفترة الأخيرة هناك حدث تاريخي وطني وهو ثورة 14 تموز 1958، هذا الحدث اختلف  المثقفون بشأنه، منهم من وضعه في مصاف المسبب لما آل اليه الوضع في العراق، وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي جدالا كبيرا حوله وهجوما على هذه الثورة ومنجزاتها أيضا من قبل مثقفين، فبالتالي لا يمكن ان نعتمد على ان الثقافة بحيزها الفضائي الرمزي، غير مقطوعة الجذور مع صلتها بحاضرها، وبالتاريخ البعيد او القريب.

اذن، لا توجد ثقافة واحدة يمكن الركون اليها. هناك ايضا ثقافة مضادة لما هو تقدمي تنويري، وهذه أيضا تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي. أي انها صراع أيضا داخل هذه المواقع، وداخل هذه الثقافات.

سؤال: يعتقد البعض أن المثقف يعيش عالما افتراضيا وأنه يفكر من خارج المجتمع، والحال أن الثقافة هي مرآة للمجتمع بإيجابياته وأزماته، والفعل الثقافي هو تفاعل واع مع المجتمع. أي المقصود ان المثقف الآن هو مبتعد عن  مشاكل المجتمع. أستاذ رشاد؟

 إجابة سريعة او اجتهاد.. لاحظ أننا غير متفقين على تعريف محدد. من هو المثقف؟ ولكن هناك من يضع المثقف في ثلاثة أصناف، مثقف كما يسميه "كرامشي" بالمثقف العضوي المنحاز والمدافع عن طبقة او فئة، والمثقف الساكت المنعزل الذي لا يعنيه شيء، والمثقف الآخر يجابه ويجاهر برأيه، ويتحمل ثمن هذه المجاهرة، كما اشرت في المداخلة السابقة ويتعرض للقمع والملاحقة وحتى التصفية، لكن المثقف سيموت ثقافيا اذا ابتعد عن واقعه، اذا لم يكن منحازا ولم يكن قادرا على فهم الماضي وترويض هذا الفهم للحاضر للمساعدة في فهم التحولات المستقبلية، كما نشير الآن الى هذه الثورة الرقمية  التي لم تكن تخطر على بال أحد، كيف الآن غيرت بعض مفاهيمنا وأثرت حتى على البنية الثقافية بشكل واضح جدا.

 فاروق فياض.. أود ان اطرح التساؤل الآتي:

في العالم الرأسمالي المتقدم نسبيا هنالك معرفة رقمية وهناك معرفة تقنية ومعرفة عالية في التكنولوجيا، لكن هذا لا يعني ان هذه المعرفة قد تصب في مراحل من اجل التطور الإنساني، ومن اجل ما هو يسير نحو العدالة والمواقف الإنسانية، لهذا نلاحظ ازدياد النزعات ضد المهاجرين في هذه البلدان، ورواج الخطاب الشعبوي واليميني المتطرف رغم ان هناك معرفة وهناك ثقافة تختلف تماما عما موجود في المنطقة العربية او في ما يسمى بالعالم الثالث أو الأطراف، رغم ما موجود من تقدم ومعرفة في هذه التقنيات لكن الآراء  والافكار السائدة التي نشأت والتي روجت داخل المؤسسات الرأسمالية العالمية، وخاصة في ظل التمسك بالليبرالية الجديدة او ما سمي بالرأسمالية المتوحشة هنا علينا ان نفهم ما هو الموقف من التحالف بالنهاية، وهذه الانتفاضات وهذا ما حدث في العالم العربي يعتبر هو امتداد لرفض  وهو نتيجة مباشرة لتطبيق سياسة الليبرالية الجديدة في المنطقة العربية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات خاصة في مصر وتونس، وجرى ترويجها من خلال المؤسسات الدولية: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.. اعتقد انه غير كاف عمليا التحصن من جانب الثقافة الرقمية وعملية انتشار هذه داخل المجتمع بقدر ما كيف تصوغ هذه البلدان مواقفها الاجتماعية مما يجري من عملية التصنيع الجاري في هذه البلدان وعملية موقعها داخل التقسيم الاجتماعي الدولي للعمل، وكيف تقاوم هذه التقسيمات الدولية للعمل وما هي طرق النضال ضد التحالف الطبقي المسيطر، داخل هذه الأنظمة والذي اصبح سائدا، حتى هذا الذي جرى بالنهاية هو ليس في عملية التطبيع التي ذكرت بين الكيان الصهيوني وبين دول عربية معينة لو نلاحظ بأن هذا الذي جرى هو يمثل بالنهاية مصالح تحالفات طبقية سائدة داخل المنطقة العربية تحت مسميات البرجوازية البيروقراطية او البرجوازية الطفيلية او الكومبرادورية المرتبطة مصالحها مع الرأسمالية المعولمة، اذا لم نعرف ان هذه التحالفات تتحمل الأسباب الكارثية في المجتمعات العربية كالتهميش الاجتماعي، زيادة نسبة الفساد المالي والإداري وعملية انهيارات في الصناعة والزراعة.    

من هذا المنطلق نسأل عن دور المثقف كما ذكر العزيز رشاد بأن المثقف العضوي هو الذي ينتمي لمشروع طبقي معين، ويناضل من أجل هذا المشروع الذي يؤدي بالنهاية الى دولة المواطنة، دولة العدالة الاجتماعية؛ فمن هنا يكون موقف المثقف ليس موقفا تجريديا او موجودا في برج عاجي، لهذا يمكن القول بغض النظر عن هذه الثقافة الرقمية وهذه الهيمنة الرقمية وهذه المعرفة حتى في الدول الرأسمالية  ضمن الأيديولوجية المهيمنة في تلك البلدان  بقيت حتى الآن هي ايديولوجيا الليبرالية الجديدة التي تؤثر بشكل او باخر على الحركة الثقافية داخل هذه البلدان لديها معترضون على هذه السياسة ونتيجة لجائحة كورونا وانكشاف الرأسمالية أمام الجانب الاجتماعي في مجانية الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي التي تم تقليصها من سياسات الليبرالية الجديدة، فعلينا إعادة النظر بالمواقف والتحالفات الطبقية السائدة والتي تسعى الى ان تسود ثقافة معينة تخدم مصالح هذه الطبقات ولهذا ان هذه المصالح الطبقية لهذه التحالفات، هي التي تسعى الى ان يكون هناك ترويج لثقافة معينة كثقافة استهلاك  ام ثقافة اصوليات، وفتح المجال امام هذه الثقافة و التصدي لثقافة المواطنة والعدالة الاجتماعية والتنوير.. يجب ان تؤخد بنظر الاعتبار في كيفية النظر الى الثقافة في هذه المجتمعات، وما هي المواقف التي يمكن ان يتخذها المثقف العربي في ظل هذا الصراع الدائر ما بين الرأسمالية بهذا الشكل المتوحش وبهذه العنجهية وما بين مقاومة هذه الشعوب. ان انكار الايديولوجيا هو موقف ايديولوجي ايضا.

* مجلة الثقافة الجديدة العدد 416 - 417 تشرين الثاني 2020