كان وما يزال الحكي والقصّ، وأنواع السرد - منذ ألف ليلة وليلة وحتى اليوم – يلتقط المعاني الإنسانية الثرة ويقدمها خدمة للبشرية.

صحيح إنّ مسارات السرد تغيّرت كثيراً، وراح البعض يتفنن في طرق التعبير؛ حتى صار هذا اللون من الابداع غاية في حدّ ذاتها عند البعض من القصاصيين. غير أن (سها شريّف) التي تكتب النقد الأدبي أيضا - وقفت في قصتها هذه عند عتبة البُعد الإنساني، ولم تحشر نفسها في عملية البحث عن أساليب فنية مبتكرة أو تجديدية، وإن حاولت استخدام الرموز ودلالاتها اللغوية في اعطاء أسماء لشخصياتها الثلاثة: المرأة الساردة (صحارى) والزوج الأول (وفى) والزوج الثاني (صخر) .. بقدر ما حاولت خلق “مفارقة” في متن القصة.

والمفارقة من الموضوعات المحببة في القصة القصيرة, لكن القاصة أضافت إلى عنصر المفارقة مشاعر الوفاء والتفاني نادرة الوجود في هذه الحياة التي سادتها “روح الأنانية” البعيدة عن الحب الحقيقي والمشاعر الإنسانية الصادقة النبيلة؛ إلى الدرجة التي تكاد أن لا تُصدّق وجود كائنات بشرية حقيقية تمتاز بكل هذا التفاني الخالص كما رسمته القاصة في نموذج “الزوج الوفي” الذي أراد أن لا يُحرّج/يجرح مشاعر زوجته فادعى إنّه عقيم فيما كانت الحقيقة تقول: ((إنك لم تكن الشجرة اليابسة، بل كنت أنا الصحراء القاحلة. لم تكن أنت العقيم، بل كنت أنا العاقر)).

القصة:

انتظرتكَ طويلاً، وأخيراً عدتَ تعلو وجهك صفرة الخريف، وكأن الشمس لم تعد تشرق بأمل جديد. تهاوت أحلامي جميعها عندما صفعتني بكلماتكَ المرعبة، وأنت تحمل التحاليل والصور الظليلة. أحسستُ بحزن يمضغ أمومتي ويبصقها، ويفتح داخل روحي جرحاً نازفاً، ويلقيني في هاوية اليأس عندما أطرقتَ وحركت شفتيك بصوت مهموس:

“ قال الطبيب بأنني عقيم، ولا أمل نهائياً، ولا حتى طفل الأنبوب. “

أتتْ كلماتُك كالرصاص الذي اخترق أعصابي، فشلت رصاص كلماتك تفكيري فجأة، وتعطّلت جملتي العصبية، وتردّد صدى كلماتك في أذني (( أنا عقيم )). صفعتَ أحاسيسي وأحلامي وحرقتَ جذوة الأمل في نفسي وحوّلتها إلى رماد ونثرته رماداً في عيني وروحي .. قلتها لي يا ( وفى ) والدموع محبوسة في مآقيك:

“ نعم يا ( صحارى ) أنا شجرة صماء لن تزهر ولن تثمر، العيب بيّ، ولن أستطيعَ أن أهبكِ طفلاً. “

انزويتُ بعيدة عن البشر أبكي، فقد حكم القدر عليّ، وها هي الدموع تبلل أهدابكَ حزناً على حالتي. كنتَ خير زوج وحبيب ونصير ومعيل. أمطرتني حباً مدراراً، ولكنه لم يعد يروي أرضي، وذوى بريق عينيَّ، وضعفت عزيمتي، ونقصت حيويتي وامتلكني صداع متكرر وتسللَ إلى قلبي وسواس البعد والجفاء.

لم تعد مشاعرك الدافئة تصبّ الأمان والرضا على قلبي. بدأت أتذمرُ منكَ وأحسب عليك هفواتكَ، ولكنك كنتَ خير زوج. ما عرفتُ فيكَ إلاّ الحنان والفضيلة؛ ولكنني لم أعد أشعر - مع مضي الأيام - بأنك قادر على أن تحتل أعماقي وترضي أنوثتي وتخرجني من كآبتي، ولم أقدِّر حنانك وعطاءك واهتمامك اللامحدود. كنتُ أرى ذلك واجباً عليكَ وأرى تحملك لموجات غضبي واجباً آخر. كنتَ تتسلل إلى أعماقي لتخفّف عني أحزاني، ولكنني لم أعد أسمع صوتك ولم أعد أرى نقاء قلبك وأوصدتُ باب الرضا عنك، وحنثتُ بقسم الوفاء والإخلاص الذي تعاهدنا عليه يوم زواجنا بأن يكون الوفاء شريعة حياتنا.

وأطفأتُ شموع محاولاتكَ كلها، وقطعتُ لكَ حبل وريد الحب حين طلبتُ منكَ الطلاق لأتحرّر من إسارك. رجوتني وقتها لكي أتراجع عن قراري، ولكنني لم أعد أسمع صوتاً سوى صراخ حنان الأمومة داخلي، فصرخت بك بعد أن انفجرت الشحنة المكبوتة في داخلي ساعة الصفر:

- “ كفاك زيفاً يا ( وفى )، ما حبّك الشديد لي إلا ستاراً تخفي وراءه عيبك. كفاك تسرق أحلامي. كفى تقتل أمومتي بسكين المراوغة. ما ذنبي أنا ؟ العيبُ فيكَ. لو كان العكس صحيحاً أما كنت فعلت ما أفعله ؟ “.

رمقتني وقتها بنظرة عميقة، صفعتني بها كريح صرصر، وكأنك تعريني من رعونة قراري. لم أفهم كنه نظراتك في ذاك الوقت لأني ما اعتدتُ الغوص في ذاتك، ولا اعتدتُ استخراج لآلئ ودرر مشاعرك وحكمتك.

تحرّرتُ من إسارك قبل أن يذبل الشباب فيَّ وتزوجتُ برجل آخر انفصل عن زوجته لأنها عاقر، عجزتْ طليقته عن أن تمنحه طفلاً يكون امتداداً له. تزوجتُ من (صخر) علَّه ينتشلني من رحم القنوط ويرميني في رحم الأمل، ويعيد الطمأنينة إلى قلبي.

لم يستطع (صخر) أن يمنحني حبك ولا صدق مشاعرك، فتلطختْ يداه بدماءِ مشاعري التي يسفحها كل يوم على مذبح البرود. كان مكتوف المشاعر، حاد الطباع، جاف الأحاسيس، صوَّبَ رصاص لاءاته المظلمة اتجاهي فاغتال قلبي الأخضر المليء بالحب والأحلام.

بعد سنة من زواجي اصفرّ ربيع عمري بين يديه وشحبت زهرة شبابي وتخدّرت الطفلة الهاجعة في داخلي وأسلمت جفنيها إلى الرضا والتعوّد. وها أنذا اليوم، بعد سنتين، أفتح أجفاني الصدئة أبحث عن سبب تأخر إنجابي. تساءلتُ بيني وبين نفسي وأنا أنتظر جواب الطبيب: “ هل حظي أن أتزوج الرجل العقيم ؟! “

وانحدرت دموعي كشلال انهمر من أقاصي روحي يفضح ما بداخلي من حيرة وضياع وألم وندم عندما اكتشفت الحقيقة بأنك لم تكن الشجرة اليابسة بل كنت أنا الصحراء القاحلة. لم تكن أنتَ العقيم، بل كنت أنا العاقر. نعم قالها لي الطبيب بكل ثقة:

- الناس يتقاسمون الحظوظ، فهذا بالمال، وآخر بالعِلم، وبعضهم بالولد، ولكلّ نصيبه في هذه الدنيا. أنتِ لا تستطيعين الإنجاب - ولا حتى طفل الأنبوب - فلا تهدري أموالك سدى وارضي بقضاء الله وقدره “.

أحرقت شمس الحقيقة بوهجها الحارق روحي، وشعرتُ بتأجج نار مستعرة أوقدتها ذاكرتي عندما قطعتُ حبل الوفاء، وطلبت منك الطلاق. تداعت صور الماضي أمامي كشريط سينمائي، قلت لي يوماً وأنت تمسح دموعي: (( اصبري وارضي بقضاء الله، وأنا جاهز لأن أقدم لكِ كل ما يُسعدك، فقط اطلبي ما تشائين. فأنتِ عندي تعادلين الدنيا كلها.”

وأجبتك وقد اعتلى وجهي الغضب: “ المال والبنون زينة الحياة الدنيا. هم أنس وعزوة و ((ونس))، وزينة. كيف ستعوّضني عنهم ؟ ستغرس حباً زائفاً مقابل استمراري معك ؟! “ ... وزفرت روحي دخاناً أسود من آلام آهاتي أزكمَ أنفك بكآبة ما أزال أذكرها.

 لماذا لم تقل لي الحقيقة وقتها. لقد أردتَ أن تحمي كبريائي وأنوثتي. ما زلتُ أتذكّر كلماتك إنها تعشش في مسام ذاكرتي: “ما جدوى الحياة بلا حُب ؟! لكل إنسان رزقه في هذه الدنيا، وهو مقدّر له، المهم أن نحافظ على حبنا، فأنتِ أغلى عندي من الدنيا وما فيها”.

رمقتكَ بنظرة استهزاء، وأبعدتُ يدك عني التي كانت تحتضن يأسي، ورميتُ نفسي على السرير، وانفلتت دموعي باحتجاج ورفض وثورة كان وقودها اللهب المستعر بداخلي. أفقتُ من ذهولي والعرق يتفصد من مسامي وجرحي، ينضح ندماً. لقد شلّ نبض قلبي المدجج بالحنين وتشتت تفكيري.

خرجتُ من عند الطبيب. أسرعت الخُطى - بعد أن نبّهتْ {بوصلتك} طريقي - فتيمّمت قبلة بيتك، وأنا أركض، وأفقٌ يمتد بحجم الحزن الممزوج بالندم داخلي.

وصلتُ قرب منزلك وتواريتُ خلف الشجرة أراقبُ زوجاً أضعته بأنانيتي، وأفسحتُ المجال لمن هي خير مني.

خرجتَ تحملُ طفلة على يديك، ومعك زوجتكَ تحمل في أحشائها جنيناً .. تحسّستُ بطني، وساد صمت جنائزي يلفني .. وبأنين مروّع تخنقه دموعي قلتُ لنفسي: “ رحمي يلفظ الجنين يا (وفى)، ولكن طفلاً في داخلي لن يلفظه رحمي أبداً .. هو أنتْ ، نعم هو أنت “.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتبة وناقدة سورية

** كاتب عراقي مستقل مقيم في سورية.

عرض مقالات: