حين ناقشني أساتذة المسرح في بلغاريا، عن مسرحية “ الطوفان “ التي كتبها (عادل كاظم) ضمن متطلبات الدراسة التخصصية أبدى كل من البروفيسور (تينيف) والناقدة (بانوفا) إعجابهم بالمعالجة الدرامية والاخراجية لهذا النص.

يبدو لي أن سرّ هذا الأعجاب يكمن فيما يتوفرون عليه من (ثقافة إشتراكية) تنتمي الى قيم الشعب وليس إلى مصير فرد طاغية، وهم يرون في هذا النص إن البنية الفوقية تمثّلت بكهنة المعبد وتراتيلهم وطقوسهم التي غاب فيها المنطق الإنساني ، حيث استطاع المصمم “ فاضل قزاز “ أن يبني معماراً فوقياً مهيمناً بتسلطه على من يسكن في القعر الأسفل من هذا التكوين، وهم بشر مستلبون يعانون الفقر والمرض والإضطهاد.

إن هذا النص هو ضرب من تكييف ملحمة كلكامش القديمة مع الواقع السياسي الراهن في ما يخص علاقة سلطة الدكتاتور بالبيئة الإجتماعية  وصراعاتها الطبقية. وهي حسب تنظيرات (بليخانوف) عبارة عن تجلّي لتصادم الميتافيزيقيا مع المادية المقترنة بإطارها التاريخي. وقد إتخذ (عادل) المسرح أداة كاشفة عن جدل الفن والواقع الملموس على وفق منهج (الواقعية الإشتراكية) في الفن  والذي يخص بشكل أساس مفهوم البطل الإيجابي من ناحية أو في اعتمادها على (التغريب) البرختي من ناحية أخرى  فضلاً عن وجود بعض المؤثرات في التجربة الدرامية عنده بملامح من مسرح العبث والوجودية.

وقد نجد صدى للتراجيديا الاغريقية في مسرحية (أوديب ملكاً) لـ”سوفوكليس” حين يفقأ عينيه كما فعل سائس الخيل في مسرحية (الحصار) حيث يفقأ عينيه أيضاً بطريقة تراجيدية حتى لا يرى (بغداد) مستباحة من قبل المحتلّ العثماني  أو مثلاً في مسرحية (الخيط) نجد أشخاص مثل (شعيط ومعيط) وهما يذكّراننا بمسرحية (بيكيت) “ في انتظار غودو “. ومن التغريب البريختي مثلاً أن نرى حضور التاريخ مع زمن معاصر في مسرحية (المتنبي) وقد تمثّلا براو قديم هو (أبو العلاء المعرّي) مع آخر (معاصر) وقدما معاً  مفتتحاً العرض.

إن (ابراهيم جلال) المخرج تفاعل مع ثقافة النهج البرختي حيث تم تنميط (الجوقة) بأداء متجانس وكأنّها تمثّل كتلة واحدة وليست مجموعة منفرطة من أفراد في حركاتها وتعبيرها وإيقاعها كالّذي يحصل في تجارب المسرح الغربي الحديث. وبصورة بصرية تحوّل البعد الدرامي من أدبيته البيانية والشعرية الى (مشهدية) ملموسة يتفاعل فيها الصوت والمؤثرات التابعة له مع ذلك الشكل المنحوت بإتقان بصري وحضور مجسّم في فضاء الخشبة وتحولاته في رحلة الذهاب والإيّاب ما بين الأمكنة والأزمنة، وامتزاج الداخل بالخارج، والحاضر بالماضي، كما نرى تحقق ذلك في (المتنبي) منذ ولادته الى وفاته وإرتحاله من الكوفة الى بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب، ومن ثم في رحلته الى كافور الأخشيدي في مصر،وصولاً الى مصرعه مستعرضاً ما مرّ به من علاقات بين ملوك وأمراء وبين الجوقة التي تمثّل الشعب في وحدة تصميمية جامعة، يتخذ فيها البطل المتنبي المركز أو البؤرة الجاذبة للأطراف المحيطة، مثل المناظر والأضواء والتكوينات في رؤية بصرية متخيلة حفّزتها ثقافة المؤلف، وما قام به المخرجون من تأويلات خلاّقة لنصوصه ويبرز بشكل استثنائي المبدع (ابراهيم جلال) الذي بات عرّاباً ومرشداً ومعلّماً للمسيرة الإبداعية وتبني المؤلف (شفرة) جمالية كان يصنع ترميزاتها المخرج بجدارة إخراجية متميزة لا يقدر الكثير على محاكاة اسلوبيتها، حتى ان المؤلف، حاول أن يمارس اللعبة الاخراجية بوصفه مخرجاً للمرة الأولى في مسرحية (حب وخبز وبصل)، لم يلقَ تلك الاستجابة في جانبها الخاص والمؤثر كما لدى ابراهيم.

ومن بين من اجتذبتهم نصوص  عادل كاظم  كبار مخرجينا أمثال : “سامي عبد الحميد” و“بدري حسون فريد” و”محسن العزاوي” و“أديب القليه جي” الذي قدّم نص (الغضب) لعادل و(المنتقم) الذي اعده عن قصة لـ (تشيخوف)، وبعد ذلك تبعهم جيل من المخرجين الشباب، مثل (غانم حميد) في إخراج نص (المومياء) و“ محسن علي” في نص (الرأس).

ولو حاولنا مقاربة نص (الحصار) المتماسك في بنيته الدرامية، في تجربة المخرج (بدري حسون فريد) الذي قام بتوظيف بُعُد تعبيري مؤثر حين ابتدأ العرض بعزف مباشر حيّ من قبل عازفين موسيقيين، تُقرع فيه الطبول وتصدح آلات نحاسية هادرة عند بدء افتتاح العرض، ويدخل بالتزامن من بين صالة المتفرجين (المنادي) و(الطبّال) ببعد برختي، لكسر تقليد الجدار الرابع، وهم يترنمون بأصواتهم مع تقنيات جمالية فوق الخشبة، حيث يظهر كرسيّ الوالي (داوود باشا) العثماني، وحين تتابع الإضاءة هذا الوالي في مشهد جديد يجلس على كرسيه وهو يلعب (الشطرنج)- مثّل الدور (ابراهيم جلال) - غافلاً عمّا يتهدد (بغداد) من خراب، وكأنه مثل (نيرون) يعزف على قيثارته وروما تحترق.

كان ابراهيم جلال  أول من اجتهد في المسرح العراقي في تقديم الإسلوب الاخراجي البرختي، مطبقاً ذلك على أكثر من نص لعادل كاظم، ولم يكتفِ (عادل) بالتأليف فقط، بل إنه حاول أعداد مسرحية (دائرة الطباشر القوقازية) تحت عنوان (دائرة الفحم البغدادية) التي قُدمت لمرّة واحدة، ومُنعت بحجة ترويجها لآيدلوجية بريخت الشيوعية.

قدّم ابراهيم عند تعامله مع نصوص عادل لأول مرة، مسرحية (عقدة حمار) التي مثّل فيها أيضاً لأول مرة (عادل كاظم) بعد ان كان قد مثّل مع القليه جي، وأخرج (مقامات أبي الورد) التي اتخذت موضوعها من التاريخ الاسلامي الوسيط في بغداد ببعد برختي أيضاً، يرصد مجريات ثورة الشعب ضد المحتل.

وتعامل مخرجون آخرون مثل (سامي عبد الحميد) مع نصوص عادل، بإخراج مسرحية (الخيط) وكأنها تدور في اجواء (بيكيت) العبثية ولكن كانت النقاشات التي يخوضها جرّار الخيط، تمثّل ما يودُّ عادل ان يطرحه على شكل أسئلة ليُحفّز التعاطف مع المسحوقين الممثلين ب: شعيط وصاحبه: معيط.

ونرى في الجانب الآخر شخصية (أبو فلانة) الذي يحرّك دمى السلطة وكأنه يتلهى في خيوط لعبته السلطوية.

قام د. طارق حسون، بتأليف موسيقى العرض، بإبتكار من تلحينه.

أما في (نديمكم هذا المساء) الذي أخرجه (محسن العزاوي) فهو يخص سيرة (جعفر لقلق زادة) بإسلوب احتفالي كوميدي مثّله سامي عبد الحميد مضفياً على شخصية “لقلق زادة” صفة الوعي الوطني والنضالي، ضد الاحتلال الانجليزي.

أما مسرحية (الأسود والأبيض) التي أخرجها ابراهيم جلال، فهي تخص أحد الظرفاء، تدور أحداثها بأجواء فانتازية، ويرتحل البطل الرئيس من بغداد الى الهند والسند بطريقة مرتجلة مثّلها مقداد عبد الرضا وكنتُ واحداً من بين الممثلين.

لقد ترك عادل كاظم نصوصاً جديدة وكذلك أضفى لمسات جديدة على نصوصه القديمة، ولا ننسى مسلسلاته في التلفزيون، مثل (حكايات المدن الثلاث) التي مثلتُ فيها دور الشاعر (عبد المحسن الكاظمي)، و(الذئب وعيون المدينة)، و(النسر وعيون المدينة)، و(الايام العصيبة) وهي تعكس التاريخ الوطني للعراق.

يقول عادل: “ان حرّيتي الإبداعية تقترن بإكتشاف ذاتي وتحوّلاتي الثقافية“  كما أخبرني في آخر لقاء جمعني معه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتب ومخرج وناقد مسرحي، عميد كلية الفنون الجميلة بغداد -سابقاً

عرض مقالات: