لماذا  وجدتْ قصيدة مظفر النواب ( للريل و حمد) و ما  بعدها ، من قصائده الشعبية الأخرى، سرعةً  في تجاوبِ القرّاء و النقـّاد معها ..؟ 

هذا سؤالٌ مهم ، تتساوى أهميته مع أهمية القصيدة.

سؤالٌ لا يخلو البحث عن جوابهِ من علةٍ و إرهاقٍ،  

كما لا يخلو من ازمةٍ مركّبةٍ من تناقضِ  و ازدواجيةِ قيم العاشقين وجحود الغشاشين ..!

حين نقرأ القصيدة ، لأول مرة او نعيد قراءتها ، فأن كلَ واحدٍ منّا يشعر أنه حقّق نصراً ما . حقق نصراً واقعياً قد يصل الى حدٍ عالٍ أو إلى درجةٍ عاليةٍ . كلُّ شيءٍ في ابياتها مفهومٌ . لا يغامر أي واحدٍ من القرّاء بوقتهِ أو بجهدهِ، عبثاً أو مضطراً الى تحريفٍ معينٍ في  بعضِ كلماتِها او تفسيرها بمكيالين او اكثر  . لا يحتاج القارئ  الى تأويلِ او تفسيرٍ او قاموسٍ او ترجمانٍ،  كما لا يحتاج الى أي وحيٍ من السماء لأن مظفر النواب انجب قصيدةً تفيضُ بالوضوح المستحدث ،  كما تفيض بفرح الحب الموروث من ام شامات،  التي حفرت حفرة حب عميقة في قلب حبيبة لم تلتمس شعراً من   شاعرٍ .

كل كلمةٍ  شعريةٍ جاءت  بقلم الشاعر متناسقة مع الأخرى ، قبلها او بعدها. قدّم لنا  موضوعاً مهماً عن  ( الداغش حمد) .. قدّمه ، لنا ، الشاعر مظفر النواب بواقعيةٍ وجدانيةٍ عن خيانةِ ( حمد) بتخليهِ عن وعودهِ و عهودهِ بالزواج من حبيبته .  الشاعر أظهر ( الدغش )  خيانةً و (الداغش) خائناً،  الى حدٍ لا يمكن (للمدغوش به) أن يعيش مع  (الداغش)  او مع ذكراه .

 انه حمد ،

 شخصية سطحية او شخصاً مسطحاً،

 لمْ  و لنْ يصعد الى العلا،

 الدغش  روح حيوانية تعيش بأعماقهِ .

كان (حمد) يتصور أن  وجوده الذكري يمنحه مقاماً حصيناً،  ليكون وليّ السياط  المسلطة على حبيبته الانثى .  انه ذكرٌ لا يتردد من فرض دعائم  وجوده على انثاه،  مهما كان (الدغش) تعباً ، لكن  تظل الاناث تعاني من ذكورية     الدغاشين .  

الدغش..  فعلٌ يصمت له الناس لأنه قد يحمل دمار الغش في العلاقة بين الناس.

الدغش كلمة عامية و فصحى متساوية في معناها العامي و الفصيح.

كلمة عامية واحدة لها أصول فصحى كانت كافية جداً في ادانة (جريمة حمد) ، حيث لم يستطع المجرم إنجازها إلّا حين ارتعشت قدماه و ارتجفت جميع عظام بدنه في التعامل مع انثاه ، مع حبيبةٍ اتخذها أملاً منذ أيام الطفولة و الصبا ،  منذ اتكّل على متع نهديها و شفتيها ، كل الاتّكال . ازهر دغشه ، معها ، الى قطعِ صلةِ وصلهِ بحبها ،  حين مات حبه مع انثى ، ظلّت تحاول ارتقاء المرتفعات كي ينتصر (الحب) بوميضِ شعاعهِ،  لديها،  حيثُ ما زالتْ تسبّح بكلامٍ : (حبّي بعدّ ما مات)   .  

فهمتُ  ، بكلِ قياسٍ ، و من كل موقف ان شخصية مظفر النواب  هي شخصيةُ شاعرٍ  فذٍّ بثيابٍ لا يضرّها ندىً و لا مطرٌ لأن عقله الشعري منسوبٌ قياسه الى (الحركة) في معرفة الناس و نوعيات مراتب اخلاقيتهم  ..يملك تجاربَ شعريةً، غزيرةً و مفردات لغوية كثيرة ، ممّا أهّله ان يجري نظامية أبياته الشعرية ، بعد ارتداء نظاراتٍ ليست ملّونة،  تمكّنه من رؤية حقائق الآخرين ، مهما كانت مقابحهم مؤذية او فاجرة . كانت رؤيته الشاعرية (محايدة) بنظرةٍ واقعيةٍ قد تكون مخالفة للحقيقة . كما فعل مخرج نمساوي في  فيلم ( العيش في عالم معكوس)  لاحظ ان مظاهر الرؤية لدى الانسان  النمساوي  ليست واحدة  عند كل الشخصيات الأوربية  . منهم من لا يمكن الاعتماد عليه و الوثوق به ، إذا لا يستطيع السير بخطٍ مستقيمٍ مع الاخر . استطاع مظفر النواب ،  هنا،  في انتاج و اخراج  قصيدة ( الريل) ان يكتشف حقيقة (حمد) المحبوس في الجنون الذكوري ، مما جعله مخروعاً من نفسه و من شدةِ  اخلاصِ حبيبتهِ. اكتشفتْ شاعريته الحيادية أن (حب حمد) كان حباً منسوباً الى صيف قائظ ، كما البهائم في فصل الخريف. هنا ، يصل الشاعر  النواب الى حقيقةٍ سامقةٍ،  هي : ان حمد لا يحب حبيبته لأنها حسنة الخلق،  حيث ما زال قلبها يحمل حبها له  ، من وجهة نظر القصيدة..!.

أسمه ( حمد)  لكن ميراثه ليس حمداً و لا محمودا.ً

لم ينل حمداً و لا محموداً حتى من حبيبته المبتهجة،   برعوده عليها  الملتهبة بشرار نار ملتهبة منه عليها .

انه مربوع بـ(الذكورية)، كما ظهرت اجلالية  حمدهِ،  من دون مجد،  و بانتْ مسبوكيته  التسلطية ، من دون عز، على امرأة  تحبه ،  بعد ان حكتْ له قصتها.  لا يمكن أن ينسجم ( حمد)  مع اخلاقيةِ امرأةٍ ، مخلصةٍ،  رقيقة افكارها عن رفاه الحب،  و قوية عظامها في مواجهة بؤس الحب. ربما كان (حمد) قد شهد حالة والدته  على فراشها في اثناء احتضارها. لم تدمعْ عيناه لأن أمّه الراحلة مجرد (أنثى) لا يمكن تذكارها إلّا في المطبخ و الفراش. بنظر الذكر (حمد) ان المرأة ، كل امرأة ، تولد و تعيش و تموت ، مثل الحيوان. 

جاء مظفر النواب من بغداد، جالساً ، من دون جبرٍ و لا اختيار ، في  أحد فاركَونات الريل  .  ثم صعدتْ  امرأة ، بعد ساعات  ،  بقلبٍ خالصٍ  يخفي جراحَ حبٍ احدثها موقف ( حمد) منها ، فهي  حبيبته..  ربما تحمل قلباً يبكي،  صامتاً ، بمرارةٍ  .

جلست المرأة إلى جنب الشاعر ، من دون جبر و لا اختيار.  

سمع الشاعر صوتَ دموعِ امرأةٍ تخطاها موقفٌ مهينٌ من حبيبها .   لم يجد مظفر النواب سلاماً و اماناً في عهدة امرأة  فاركَون يتحرك فوق سكةٍ من محنةِ حبٍ ارتكبها و صنعها (حمد)  حبيب هذه المرأة الجالسة بجانبِ الشاعرٍ، بإحساسٍ عظيمٍ من سلمٍ و امانٍ،  إذ لم تشعر ان بليةً قد تغشاها من إنسانٍ بمظهرِ هذا الجالس   الى جانبها . اخبرتها عيناها أن هذا الانسان من نوعِ رجالٍ ابتدعوا مدار علاقاتهم الإنسانية لنصرةِ كل مظلومِ . 

حدّثها وجدانها : هذا رجلٌ سيصغي الى كلامها وينصت الى نهداتها و سيكون لها غيثاً..    اخبرها قلبها  ان الشاعر لا يتملق منها شفتيها ،  و لا يريد ان يدفعها الى شرك معين . اخبرتها عينا الشاعر انها اكتشفتْ انساناً، لا اثم في معرفته و لا نفاق ، بل هو رجل من رجال الخير في هذا الزمان الشرّاني .

نفثتْ له ، بلسانٍ صادقٍ،  عن خصومتها مع حبيبها ،

أو عن خصومة حبيبها معها.

في لحظةٍ من لحظاتِ الشوقِ الى الابداع ظنّ الشاعر مظفر النواب ان هذا الفاركَون سيجد ابداع قصيدة شعبية عن  حبٍ من نوعٍ عظيمٍ . أظنّ ، انا، لو ركب ، على هذا الفاركَون،  الاديب  الايرلندي جيمس جويس لكان هذا الكاتب قد خلّد  (الريل العراقي)  برواية مهووسة بالحب ، حتى  يجعل أسنان القارئ تصطك من الألم .

هذا الموقف يجب ادانته ، شعرياً.

لن يكون غير الشاعر مظفر النواب قادراً على إدانة آلام الحب .

كان شوق الشاعر مظفر النواب الى ان يسمح لقلبه ان يتدفق ، شاعرياً، في منتصف الليل، حين مرّ قطار الليل بقرية ام شامات و هو يؤنبها تأنيباً شعرياً ، بمحاذاة نهر الفرات ، مفكراً بمصير الحبيبة . 

أقنعتْ القصيدة  جميع  من قرأها عند صدورها . ربما وصلتْ نسخة منها الى الشاعر الإنكليزي الحديث بشعره وأناقته و توتر أعصابه ت . س . إليوت او الى الشاعر العربي القديم ، النابغة الذبياني،  الذي عاش في زمانٍ كان فيه العيش غليظاً و كان مكر الثعلب مسيطراً على العلاقة بين الناس ، حيث كل شيء كان مفرطحاً مثل خنثى البقر و ذكر الفيل، و ما زال التفرطح مستمراً ، حتى اليوم. 

جاءت قصيدة النواب مخصصة ( للريل و حمد) في زمان التباطؤ و الحماقة  و الاضطراب و القمع .. في زمانِ عدم الاستحياء من جلطِ حقوقِ المرأة و بلطِ هبوبِ رياحِ الحبِ في قلبها. تخشّعتْ القصيدة بيدِ شاعرِها ، مكفكفةً دموع المقهورين من آلام الحب. لا يشكون حزناً غير انكسار الحب بسوط من حمد . حب ناقص لم يكتمل ، لا في صولته بقلب حمد و لا بين جناحي حبيبته الموعودة بالهزيمة و الانكسار. 

لم تعبر القصيدة عن حالة نفسية خائرة ، لدى امراة ما مات حبها. لم تجعل الشاعر مظفر النواب ، شاعراً متطيراً، بكلماته الشعرية . كان قد وجد في الحب ذكريات الخير بنجدة الطفولة و طيبة المجد في ايام الشباب . لم يسر مظفر في أبيات شعرية مظلمة ، انما ظلّ ولاء قصيدته الى خيرٍ اشمٍ ،  يكرر فيه قولته الشعرية ، اللازمة : هودر هواهم و لك حدر السنابل كطا. 

 أية قدرةٍ شاعريةٍ هائلة امتلكها مظفر النواب ، كي يبرهن  على الطعنِ بالحبِ لمجرد إيراده كلمة واحدة . جاء مدغدغاً بها ثقافة اللغتين العامية و الفصحى. هذه الدغدغة لا تحتاج الى شرحٍ و لا إلى تفسيرٍ .

كلمة ( دغش) في اللغة الفصحى تصبّ في نفسِ مصبِ اللغة العامية،

 أصل الدغش هو الغش .

حين تقول هذه الكلمة، ذاتها،  في سوق التمور او الدبس في مدينة البصرة فإنها لا تخالف و لا تفسد معنى  بيعة كيس من الزبيب الأسود المغشوش ، باعه تاجرٌ نجفيٌّ في السوق الكبير إلى  تاجرٍ صغيرٍ من أهالي الشامية . كما  ان داغشياً هندياً باع  شاياً هندياً على اعتبار انه من النوع السيلاني ، فأن البائع ، هنا ، دخل الى مدخل الغش مع المشتري.

استخدم النواب كلمة واحدة ذات معنى مريب ، في الفصحى و العامية. محققاً دخولاً فيه قوة و بأس شديدين، بورجوازيين ،  الى الشعر الشعبي. 

في مشهد السياسة و إدارة الدولة و أموالها ، يوجد داغش و مدغوش به ، إذا لم يكن الوزير و المدير و السفير و عضو مجلس النواب ، قادرين  على استيعاب النظرية الميكافيلية .

كما ان التطرف الحزبي يجعل الحزبيين ، قيادةً و قاعدةً، معرضين للدغش وتغذية المراهقة السياسية ، المدغوشة   في دنيا السياسة الهائجة .   

لا يوجد مسكنٌ و لا بلدٌ و لا مدينةٌ و لا حزب و لا غابة ، محصنة أو غير محصنة ،  لا يمكن ان يتطاير فيها الدغش، مثلما تطاير في أم شامات .

حتى الحب يمكن ان يحرقه الدغش .

الرجل الجالس في عرش عال فوق الأرض  يمكن ان يمارس الدغش. كما الرجل الساقط  ،  تحتها ،  يمكن ان يكون ضحية الدغش او من المنتمين الى دياره .

دغش .. كلمة واحدة محصنة بثلاثة حروف فقط،  اختارها مظفر النواب ، كي يغمز ، شعرياً ، اخلاق الحب ،  غير البهيج ، في قلب (حمد) ،  لكنه محبوس بكل انواع المختلس من الكلام ، حين يعبّر  عن  نفسه و عن حبه امام حبيبته و هو مُعذّب بالدغش ليدغشها ..! 

حتى النيران فيها دغش يمكن ان يحرق لهيبها الخيرين من الناس ، بدل الشريرين. يمكن ان تلتهب النيران بدغشٍ مسمى ( تم الحريق بفعل فاعل مجهول..) أو بسبب ( ارتفاع درجة الحرارة صيفاً و البرودة شتاءً) أو بسبب علمي من أسباب علوم الهندسة الكهربائية  اسمه : ( تماس كهربائي مجهول النسب..!) او غير ذلك من مبررات دغشاوية.  

الداغشيون يفرحون بدغشهم مهما كان اثمهم.  نعم..  الداغشيون ذرّية كبيرة تعيش بين الأمم . تتناوب جيلاً بعد جيلٍ، حتى   تذمّر منها شاعر قصيدة الريل و حمد.  

جاء مظفر النواب بمناسبة صعوده الى أحد فاركَونات الريل  . كان فاركَون امرأة يخفي جراحَ حبٍ احدثها موقف ( حمد) من حبيبته . كان الموقف مهيناً للمرأة .  هذا الفاركَون لو ركبه الشاعر – الكاتب الايرلندي  جيمس جويس لكان هذا الكاتب قد خلّد  الريل  برواية مهووسة بالحب ، حتى  يجعل أسنان القارئ و القارئة  تصطك من الألم . هذا الموقف أوجب  ادانته ، شعرياً. كان شوق الشاعر مظفر النواب متجهاً  ان يسمح قلبه لقلمه  بالتدفق ، شاعرياً، في منتصف الليل، حين مرّ قطار الليل بقرية أم شامات و هو يؤنبها تأنيباً شعرياً ، بمحاذاة نهر الفرات مفكراً بمصير حبيبة (حمد)غير المحمود  . 

أقنعتْ القصيدة كل من قرأها عند صدورها . ربما وصلت نسخة منها الى الشاعر الإنكليزي الحديث بشعره وأناقته و توتر أعصابه ت . س . إليوت او الى الشاعر العربي القديم  النابغة الذبياني،  الذي عاش في زمان كان فيه العيش غليظاً و كان مكر (الثعالب) هو المسيطر على العلاقة بين (الناس) ،  حيث كل شيء كان مفرطحاً مثل خُنثى البقر و ذَكَر الفيل. 

جاءت قصيدته مخصصة ( للريل و حمد) في زمان التباطؤ و الحمقى و الاضطراب و القمع و عدم الاستحياء من جلطِ حقوقِ المرأة و بلطِ  رياح الحب في قلبها. تخشّعت القصيدة بيد شاعرها ، مكفكفةً دموع المقهورين من آلام الحب. لا يشكون حزناً غير انكسار الحب بسوطٍ من حمد . حب ناقص لم يكتمل ، لا في صولته بقلب حمد و لا بين جناحي حبيبته الموعودة بالهزيمة و الانكسار. 

مرة أخرى أقول : لم تعبّر قصيدة ( للريل و حمد)  عن حالةٍ نفسيةٍ خائرةٍ ، لدى امرأة ما مات حبها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع

عرض مقالات: