استطيع القول ، جازماً، أن خلف قضبان السجن يوجد فرحٌ ايضاً ، الى جانب الأحزان.

كنتُ أسأل نفسي: هل تتمتم طبيعة الحياة السجنية بشيء من الفرح..؟

هل يمكن ان تكون مداخلات وجود القيود الفاشية متصاحبة مع مخرجات  عواطف السجناء المقيدين..؟

هل هناك حاجة عميقة لدى السجين ان يكون قادراً بالكلمة الشعرية او الفنية ، ان يستخرج نمطاً من ايقاعً احتفالي بمعالم ساعات نهاره او ليله..؟ 

يفحّط نفسه من يسأل

هل الحب دار البقاء الابدي في الصفات الانسانية ..؟

أبتْ الشيوعية في نقرة السلمان إلّا ان تحرر الرفاق السجناء و جميع أصدقاء الحزب الشيوعي من جميع العقد و البلايا المتصلة بـ(فوضى الحب) وقصصها  القادمة ، من المحلات الشعبية بكل المدن و القرى الراقية ، مثلما اتصلت بنا ، من عصور الاغريق و الجاهلية  وقصور الامراء و الخلفاء في الدول الإسلامية المتعاقبة منذ الدولة الاموية و العباسية و العثمانية ، حتى اليوم ،  حيث  زمان الصعاب و الأهوال الاجتماعية و السياسية ببلادنا ، خاصة في زمان العداء للشيوعية  ،  بعد فترة نهاية الحرب العالمية الثانية و تكوين ( المعسكر الاشتراكي ) ، من شرق اوربا حتى البحر الصيني ، المصحوبة  بتشويه شرعة الحب بين الشيوعيين.  أضاف الرجعيون ، من كل صنفٍ،  الى اتهام الشيوعيين بـ(الكفر) و (الالحاد) اتهاماً جديداً بأن الشيوعيين الروس و غيرهم (يتزوجون شقيقاتهم ) وغير ذلك من موضوعات و مؤتلفات الدعايات المعادية للشيوعية في زمان الحرب (الباردة ) بقصد الإساءة  لنضال الشيوعيين من اجلِ بناءِ مجتمعٍ حرٍ خالٍ من حكومات الحديد و النار . جاءت قصيدة (الريل)   لشاعرها مظفر النواب  مفجرةً طاقات الاشعاع الإنساني عن الحب لتوفي حالة (الصواب الشيوعي)،  فردياً و جماعياً، داحضة ً مثل  هذه الاتهامات – المحالة – إذ  كان محتوى القصيدة قد تضمن من ألفهِ الى يائهِ دفاعاً عن كرامة الشيوعيين و رؤيتهم لفلسفة الحياة الإنسانية  . كانت قصيدة (الريل) نعمةً للعراقيين و للشيوعيين العراقيين ، جميعاً،  لأنها كانت من نوع القصائد الشعرية بمستوى خلاّقٍ عن جمع الحب مع الحب،  جمع الحب مع الوطن،  جمع الحب مع الحرية،  و جمع الحب بين الفرد و الجماعة و جمع الحب بين الفرد و عائلته  و جمع الحب مع الايمان و جمع الحب مع السلم الاجتماعي وجمع الحب مع العدالة الاجتماعية في غاية الدهر الأخير  .

حين تمتد قامة مظفر النواب في ساحات النقرة ، ناشداً قصيدةً او مطلقاً اغنيةً من أعماق نهجهِ ، وحيداً او بالاشتراك مع ( سعدي الحديثي)  أبن فرات مدينة (حديثة)  على حدود   غرب العراق.  هما ، معاً،  قمرٌ و شمسٌ،  يضيئان ظلام السجن و السجناء . يرتقيان بصوتين كأنه صوتٌ واحدٌ،  كما كان يصفهما مصطفى عبود ابن مدينة البصرة ، أبن (عبودها) الأصيل.

لم يكن السجين البصراوي مصطفى عبود مثالي الرؤى ،  لكنه انسان ذو طاقة مرجعية ثقافية لا تتجزأ ،  بالرغم من ان أصولية ثقافته معتمدة على اجادة اللغتين العربية و الإنكليزية  . تيقظ ضميره ، إلى القمة ، كما قال لي ، حين انتمى الى حزب الشيوعيين .. كانت قوة ثقافتهِ  قد انتمتْ الى احكام عمل و صياغة قصيدة (للريل و حمد) حال صدورها ، منشورةً بمجلةٍ اجتذبته بإجمالها و بتفاصيل ابياتها ، بيتاً،  بيتاً،  حيث اثارته و اثارت لديه طاقة ثورية مؤهلة لدراسة الفعل الشعري  المظفري،  دراسةً عميقةً،  خاصة بعد ان وجد ان فترة (النقرة) دفعتْ مدارج الشعر الشعبي المظفري ، نحو الاستقرار الممنهج على خصائص قصيدة الريل .

كان وجود الشاعر مظفر النواب في سجن ( النقرة ) وجوداً يخصّب حركة الشعر عند مجموعة شعراء، سجناء ، من ضحايا  الفاشية  من امثال الفريد سمعان و فائز الزبيدي و خالد الخشان و محمد الجزائري و ناظم السماوي وعزيز السماوي و  مصطفى عبود  و زهير الدجيلي و غيرهم كثيرون ربما لا تسعفني ذاكرتي حاليا من استرجاع اسمائهم الكريمة .  معهم يعيش نقاد او من المهتمين بامور النقد الأدبي متأصلين  بالنضال الشعبي من أمثال المناضلين  فاضل ثامر  و محمد المُلا عبد الكريم  وغيرهما . هناك عشرات من الأدباء – السجناء ،  من الذين يتأملون المستقبل العراقي من خلال  محاولاتهم في بلوغ الوعي  الشعري - الأدبي ، بمستوى نظامه و إيقاعه في مقروءات الأدب الجامعي او في منتديات بيروت و القاهرة و باريس، المرئية في المجلات الواصلة الى السجن او من خلال ما تنقله النشرة الصحافية ، اليومية ، السجنية.   

احاط الفرح الحقيقي، بيومٍ واحدً،   باثنين من رفاق السجن . الاول  صالح الشالجي . سيطر عليه فرح غامر حين وافقتْ منظمة الحزب الشيوعي في  ( النقرة) على اقتراحه بالتفرغ التام لرعاية السجين المريض  ، الكهل ( يحي قاف)  بعد ان اصبح في القاووش رقم ٢ إنساناً عاجزاً عن رعاية نفسه بنفسه . معنى ذلك اصبح من الحتمي ان يتفرغ الشاب صالح الشايجي  من العمل السجني بكل اشكاله ، الموزع بموجب نظام يومي بين جميع السجناء لتمشية أمور دولتهم الشيوعية ، الاولى من نوعها في عالمٍ غريب ، المشيدة في ( النقرة) . لقد تفرغ صالح الشايجي من عمله  مترجماً، في هيئة تحرير النشرة الصحفية ، السجنية،  اليومية ، مانحاً وقته و جهده ، كليهما، ليكون نوراً و عنصراً من عناصر كل حركة يحتاجها  المناضل المصلاوي (يحي قاف)   في ما تبقى له من ايام دهره في السجون . كان سرور الشاب الشيوعي النشيط ( صالح الشايجي) طاغياً جداً على سلوكه ، ذاك اليوم، كأنه نال جائزة في الفلسفة اليونانية

نفس الفرح عّم وجه البصراوي ، المتحرك بأناةٍ و المتكلم بأناة ، مصطفى عبود ، حين ابلغ  بالموافقة على ضمه الى هيئة التحرير بديلاً عن الرفيق الشايجي. انا ، ايضاً ، وجدتُ نفسي مسروراً، داخل وجودي محرراً ،  لأن مقام مصطفى عبود ، في الصحافة و الترجمة لا يمكن تقديره بثمن. ففي جعبة هذا الرفيق مشتملٌ  جميل جداً من البناء الصحفي الكفء  ،خاصة و ان قلمَه مدرعٌ بالقدرة الكتابية ، الدقيقة و عالية الجودة،  باللغتين العربية و الانكليزية.  

بآهات كثيرات اجد نفسي ، في هذه اللحظات التي اكتب فيها عنه ، حزيناً جداً وانا اتذكر صديقي البصراوي ، القديم ، (مصطفى عبود ) الذي غادر الحياة ،  سريعاً . قضينا معاً سنوات طويلة في مدينة البصرة ، أصدقاء اولاً ثم انصرفت نحو التمكن ،  بتؤدة ،  حين صرت مسؤولاً عن تنظيم المثقفين البصراويين ، كان الرفيق مصطفى حاديهم و علامتهم المحكمة ، الاولى  ، في ذلك التنظيم ،  وكان من أكرم الفتيان .  كما قضينا وقتاً مشتركاً في كرنفالات يومية حول وجبات الطعام اليومية الثلاث ، حيث كنّا بمجموعة خماسية واحدة في سجن نقرة السلمان حسب التنظيم الإداري في سجن النقرة  .

ثم قضينا وقتاً مشتركاً حين كان يعمل و يسكن في بغداد بعد إطلاق سراح السجناء السياسيين على وجبات قليلة منذ عام ١٩٦٤ كانت الوجبة الأكبر و الاخيرة  من السجناء الشيوعيين و السياسيين  الذين اطلق سراحهم ، بعد نجاح صعود حزب البعث الى دست الحكم ، للمرة الثانية ، عام ١٩٦٨  . كنت أتردد على زيارته في بيته ، كرادة خارج،( المسبح)  لتناول العشاء مع سلطة الخيار و الزيتون و ما بينهما من كؤوس  تصاحب احاديث متنوعة  و متواصلة عن الشاعر مظفر النواب . كنا متواصلين بالاحاديث ، السياسية و الثقافية ،  كما جمعتنا ( نقرة السلمان) بعد انقلاب شباط عام ١٩٦٣ .

في داخل ( النقرة) بقينا مقتربين مع بعض ، مثلما كان وضعنا بالبصرة و العشار . شعرنا بالحاجة الى مترجم في هيئة تحرير النشرة السجنية اليومية . اقترحت عليه هذا الرأي فلم يمانع ، ثم قدمت الاقتراح الى المنظمة الحزبية . في الحال تم صدور قرارها بالانضمام الى هيئة التحرير لترجمة بعض المقالات من مصدر إذاعي او اخباري مضبوط. في السجن و في  خلال الاشتراك بعمل النشرة السجنية اكتشفت ان جميع وعود مصطفى عبود تبدأ بكلمة ( سأبدأ الآن ) ولم اسمع منه أي طلب بتأجيل عمل ( اليوم) إلى ( الغد).. سنابك خيول حركته و حركاته لا تعرف التأجيل من اليوم الى الغد ، او من الصباح الى المساء،  لذلك كان أسرع  شيوعي وجدته ، بحياتي الحزبية ، منفذاً لمواعيد يحددها بنفسه لنفسه

 بعد ان التقينا ، خارج النقرة ، في مكان عمله ، في معمل ألبان ابي غريب ،كنّا نتناول  وجبة (الغداء ) حين ضحكتْ الاقدار أمامه بنجاح  حصوله على مقاولة استئجار  مطعم المعمل لسنة واحدة ، كان خلالها، متلهفاً ان يتغلب على ضيق زمانه، بأرباح المقاولة و المطعم)  بشراء سيارة . انتهت سنة كاملة، سنة المقاولة ، لكنه  لم يستطع  ان يحقق حلمه. كان يضحك كثيراً وهو يردد:  ليتني أعطيت جهدي لترجمة قصيدة ( للريل و حمد).

كان قد درس القصيدة مفكراً في ترجمتها الى الانكليزية. سمعته يسمي هذه القصيدة (بشجرة الدفلى). و أحياناً يستدعي مصطلحاً عسكرياً في تسميتها: الجحفل، او القصيدة المجحفلة.  

كنّا    نتحدث ، كثيراً، عن مظفر النواب و عن اشعاره ، خاصة عن قصيدة ( الريل) .   كان شديد الإعجاب بالقصيدة . يعتقد بأن ترجمتها الى الانكليزية يمكّن قراء اللغة الانكليزية أن يجدوا فيها  شكلاً شعرياً ،  نبيلاً ، من أشكال الحب في زمانٍ عراقيٍ غير نبيل . ربما تجد ترجمة القصيدة ارتياحاً كبيراً  عند جميع الباحثين عن مكانة المرأة العراقية في القارة الاوربية . كما كان يطمح الى لقاء ضروري مع مظفر النواب في حالة سفره الى خارج العراق ، ذات يوم، للبحث عن أصول امرأة القصيدة ، المرأة  الموصوفة بالخلق و الطهر و الحياء و الصدق و هي من دعائم الحب النبيل ، النادر وجوده ، بزمان القارة الاوربية ، كلها، الصاعد نصفه – تقريباً -  نحو الرأسمالية الاحتكارية

كنت أظن و ربما أتواصل ، مع هذا الظن ،  حتى الآن ، ان المرافعة الوحيدة ، بنزعة تحليلية ، لا اتذكر تفاصيلها الان ، كانت موزونة بأحسن صورها عن قصيدة الريل و حمد ، متوفرة بأفضل و أكمل  مواصفاتها ، لدى الصديق مصطفى عبود . و ليس لدى غيره بالرغم من ان الكاتب البصراوي (محمود عبد الوهاب)..  كان يعتبر القصيدة لحظة مميزة في الشعر الشعبي العراقي . بينما أسرع الشاعر اسعد الشبيبي الى حفظ القصيدة ، عن ظهر قلب،  بعد بضع ساعات من نشرها ، معتبراً إياها محركاً لقاطرة الشعر الشعبي في المستقبل الأدبي العراقي.. لم أكن اخالفه الرأي ، لكنني كنت اعتبره متطرفاً في حب القصيدة و تأويلها . كان يراهن ان ترجمة القصيدة الى اللغة الانكليزية ، مع كتابة مقدمة و هوامش تعريفية مختصرة عن مفردات القصيدة و أخلاقياتها الشعبية في العراق تشكل ضرورة تميز مظاهر و سلوكيات المواطن العراقي و عيناً رقابية حول جميع مفارقات الحب بين الاحبة العراقيين ، المحتاجين الى صياغة تأليف علاقات العشق و المحبة و المودة ،  اعتماداً على وقائع حكاية  ( الريل)، وأحاديثها، التي سجلها الشاعر مظفر النواب بأبيات قصيدته كحقوق جوهرية للمرأة  او حتى التعبير الشكلي  المتمكن من   تذويب مشاكل الحب و المحبين ، برفضِ كلِ نزعةٍ ليست أخلاقية،  مثل نزعات الغدر و الخيانة بمختلف مستويات ظروفها ، العامة و الخاصة .

اتذكر ، الان ، ان مصطفى عبود كان قد وضع خطته الواعية في التعرف على القيمة الواقعية لمبادئ قصيدة ( الريل)  ..

في علاقات الحب حوارات كثيرة بين المحبين .. صراع كثير . لكن أخطر حكايات الحب و حوادثها هي في تحوّل العلاقة بين اثنين الى كراهية . الكراهية او حتى بعض الكراهية لا يبقي شيئاً ولا يذر، بينهما . بعضها يؤدي الى كسوف الشمس ، بنظر المرأة، و الى خسوف القمر ، بنظر الرجل

كان هذا هو واحد من آراء مصطفى عبود حين أكد ان  قصيدة مظفر النواب عن حكاية ( الريل) صوّرت المرأة ، في بلاد الرافدين الجميلين ، جوهرة بشرية في صبرها و حملها و تقبّل صدمات حبيبها . لم يذكر الشاعر شيئاً عن طول هذه المرأة  ولا عرضها ولا سعة عينيها و جمال شفتيها  ولا عن جمال ساقيها او ردفيها . كان ينظر اليها كائناً انسانياً منتجاً ، ينظر إليها نظرة الهيبة الكلية ، نظرة العلو و السمو . لم يظهرها لنا خائفة من السحاب او المطر رغم ان ما يعلو فوقها ليس سوى دخان القهر و الآلام

هكذا أطل بالقصيدة الشعرية الريلية كالشمس يفتق غيوم المرأة المهمومة بزفرات تخلي  حبيبها (حمد ) عنها و  عن حبها. لم يرَ فيها و في أخلاقها عيباً بالرغم من ان  ذكريات حبها بقرية أم شامات  جعلتها رفداء، عمشاء

في رأيه ، تلك قصيدة ليالٍ لم يغفلها ( قطار الليل) .. قصيدة كان يريد شاعرها ان يستخدم ، فيها،  الاكتشافات الانسانية العظمى ،  لكل من ماركس  و أينشتاين و فرويد و مكسيم غوركي و دوستويفسكي و المهاجر من وطنه العربي ميخائيل نعيمة  ،  في زمانٍ تميّز به العرب،  كل العرب ، بأن قلوبهم صارت مشتتة بعد اختلاف آرائهم حول الدنيا و  الدين  و حول تظليم  المرأة العربية ، من دون ان يتجاوز الكوابيس الحسّاسة في أفكار الكاتب التشيكي كافكا ( ١٨٨٣- ١٩٢٤)  حين  اشغل نفسه بأفكارٍ كتبها في  ١٤٩ رسالة الى حبيبته ( ميلينا) ، كاشفاً ،  برسائلهِ،  ان كل شيء يأتي بوقته و يذهب بوقته الى مصيره ، مثلما تتهدّم  روحية العاشق السعيد إذا بكى أو ناحَ بمحطات  المحبة اليائسة . وجد مصطفى عبود  ان مظفر النواب أراد أن يجعل وجودَ امرأةِ القطار،  وجوداً حقيقياً، بل  في اعلى درجاته،  بالرغم من وجود فوضى الشعور الكافكوي  في رؤياها .  كما وجد ان  موسيقى الطفولة المشتركة بين ( حمد) و ( حبيبته)  قد دفعتْ الشاعر مظفر النواب الى الرمزية البودليرية ، حيث انطباعات الشاعر الفرنسي شارل بودلير و غيره من الشعراء الكلاسيكيين  عن استخدام الرمزية الشعرية .  

طرد مظفر النواب العقل المحافظ ، بعد تأمّلِ بهجتهِ،  نهاراً و ليلاً،   مبتكراً في مجادلةٍ مع الشعر وفي مشورة قصيدته ،  حق المرأة و حريتها و تسامحها  في ( الحب) المتبددة ذراته مع رياحٍ،  ربما احتشد ضِيقها بين أثنين،  احدهم غرسَ كلاماً  باطلاً او زرعاً ضاراً في بستان الحب  .

كان مصطفى عبود يخشى ان  لا يجيد ترجمة اللازمة الشعرية المظفرية : ( هودر هواهم و لك حدر السنابل كطا).. كان  يؤكد ان اصعب مواجهات المترجم - كل مترجم - هو الضعف في ترجمة الوقائع و الأحاسيس التلقائية في اندفاع الشاعر باللازمة  المعينة المتكررة ، اكثر من مرة ، بالقصيدة الواحدة . كان يعتبر  (هودر هواهم) مناداةً شعريةً ليس لها اختصاص محدد

في أواخرِ  ايامٍ فائقة السواد  العراقية ، أواخر سبعينات القرن العشرين، حيث راح نظام الحكم الصدامي – الفاشي  يبقر بُطُون الشيوعيين و الشيوعيات ، علمتُ ان مصطفى عبود  قد ترك العمل العلني في جريدة طريق الشعب و  ادغم نفسه، سرّاً،  الى المهاجرين العراقيين في أوربا الشرقية . بقيتُ انتظر ان يتخذ قراره الأخّاذ بترجمة قصيدة (الريل)  او (ديوان) اشعار مظفر النواب ( للريل و حمد )..  كما كان قد وعدني

علمتُ ، ذات يوم ، من ايام وجودي بمعرض القاهرة الدولي للكتاب ،في منتصف الثمانينات ،  ان الصغير و الكبير، من بعض زائري المعرض يتحدثون عن كتاب  مترجم عنوانه ( تحت أعواد المشنقة)  و هو عبارة عن ذكريات - يوميات الشيوعي التشيكي ( يوليوس فوتشيك) ترجمها الى العربية الشيوعي العراقي مصطفى عبود . تجولت في رياض المعرض و اجنحته حتى حميت حقيبتي اليدوية بنسخةٍ من كتاب صديقي ، الذي كان يحب مراقبة القمر و النجوم في الليالي الصيفية بالبصرة وهو يقرأ على السطوح صيفاً وخلال الشتاءات المشمسة.  

قرأتُ ذلك الكتاب مرتين، في فندق الشيراتون بالقاهرة  .

صار الكتاب عزيزاً جداً في عيني ،

و سألتُ نفسي : هل يأتي يومٌ عظيمٌ آخر ينجح فيه مصطفى عبود ،  في الكتابة المترجمة  عن اشعار مظفر النواب ، بمستوى نجاحه بالكتابة – المترجمة  عن اعدام الصحفي التشيكي .  

بقيتُ بانتظار ان يسحر مدينة براغ بترجمة ديوان الشاعر مظفر النواب او قصيدة كان محمل عنوانها : للريل و حمد

ما نفى لي احد ، حتى الآن، ان مصطفى عبود لم يفعل ما وعدني به

لكن خرزةً دخلتْ إلى  عيني ، ذات يوم ،  بعد شعوري ان مؤخرَ رأسي قد ضُرب بحديدٍ ، بخبرٍ غير منتظر ، يوم وصولي الى بيروت بمنتصف ثمانينات القرن العشرين ، أيضاً. قيل لي ان مصطفى عبود قد رحل الى عالم الخلود ، حاملاً معه ميمون قصيدة الشاعر مظفر النواب

 ظلّت القصيدة مثل قاربٍ ما زلتُ أحب ركوبه  ، وحيداً.

هذا أنا ،  

أسرع نحو خير مظفر النواب في ( هودر هواهم) .

ارغب في أن لا اغضّ النظر عن قياس حجم النخلة او مساحة الغابة المزروعة بالنخيل ، الحامل بالموقر من اشعار مظفر النواب و بالعضيد من  مسميات اجتماع الحب مع الحب في اللازمة الشعرية المظفرية : هودر هواهم

في المفهومين العام و الخاص أتمكن من القول ان مظفر النواب في لازمتهِ الشعرية (هودر هواهم و لك حدر السنابل كَطا) ، اراد ان يقول لقرائه :

افعلوا محامد الانسانية و ابتعدوا عن مقابحها .. 

الحب هو وتد الانسان مشدوداً به ..

الحب هو الحبل المشدود من طرفين، 

الحب هو عروة الشدّ  الإنساني الوثقى . 

هذه هي عرى (المحامد الحمر)  أثنت نفسها بأمان الحالم عن مستقبل (الحب)  في قصيدةٍ مظفريةٍ ،  متآخية مع حركة (الريل)  في  فاركَونٍ  عابرٍ حدودِ أم شامات.. 

قرية ام شامات موضع الشاهد الأكبر في خيانة اويس لهبانة..! 

خيانة حمد لحبيبته

كنت انتظر نداء المترجم ، مصطفى عبود، يقول كلاماً للعالم ، كله، ان دواهي الحب  رماها حمد ، فأدان  رميتها  الشاعر النواب ، لأنها خيانة من نوعٍ خاصٍ ، بقصدٍ لا يخلو من خباثة و اعوجاج ، 

لأنها بلا استقامة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع

عرض مقالات: