لعلنا تابعنا خلال خلال الشهرين الماضيين ما حظي به مقطع من فيلم سوفييتي قديم يعود إنتاجه إلى أواسط القرن الماضي ( 1956 تحديداً ) ، ويتناول جوانب من حياة وإسهامات الفيلسوف والمفكر العربي - الإسلامي ابن سينا العلمية ، لا سيما في حقل الطب ؛ من إعجاب  منقطع النظير لدى كل  المشاهدين  الروس والعرب على السواء ، وذلك إثر  تداوله على أوسع نطاق في فضاء التواصل الاجتماعي ؛ فقد تناولته بالإشادة  العديد من الصحف والقنوات الفضائية العربية ، ولا شك أن مبعث الانبهار بمقطع الفيلم  إنما جاء لما لمسوه بما يتمتع به  ذلك العالم الموسوعي الفذ من سعة اُفق ومعرفة علمية طبية معمقة تجلت في التدابير التي دونها وأوصى مجتمعه باتباعها للوقاية من عدوى الأوبئة الفتّاكة ،  كالطاعون أو ما سُمي " الموت الأسود " المنتشر حينها في بلدته  ، فضلاً عن تشخيصه الدقيق لخواص الفيروس وكيفية انتشاره ؛ حيث كان كلاهما -التشخيص وسُبل الوقاية -  شديدي الشبه بما توصل إليه علماء عصرنا بخصوص الأوبئة  ، ومنها الوباء الراهن  " كورونا " وهو انجاز علمي قياساً بمستوى التطور العلمي والتكنولوجي المحدود حينذاك الذي بلغه مجتمعه والعالم وقتذاك ( عاش بين عام 980 م إلى 1037 ) مقارتةً بالتطور الهائل الذي بلغه في عصرنا .  

على أن هذه الشعبية الواسعة التي حظي بها مقطع الفيلم ذاك بقدر ما يثيره من ارتباح في النفس ،  بقدر ما يثيره أيضاً من لواعج من الأسى لما آلت السينما الروسية من تراجع كبير ، ولا نعني ذلك منذ انهيار الاتحاد السوفييتي فحسب، بل وإبان وجوده أيضاً . فلقد كانت السينما الروسية من أعرق السينمات في العالم ،  ولعبت أدوار بالغة الأهمية على مختلف الأصعدة الثقافية والسياسية والإجتماعية منذ نشأتها  أواخر  القرن التاسع عشر ، وإن كان مؤرخو السينما الروسية يعتبرون المحطة التاريخية الأبرز لنشأتها  جاءت خلال عامي 1907 و1908 ؛ حيث أنتج الكسند درانكوف أول فيلم روائي " ستينكا رازين " ، وتأسست حينها أول مجلة سينمائية مختصة بشؤون السينما . وعلى إثر ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى  1917 بقيادة لينين دخلت السينما الروسية طوال ما يقرب من قرن حتى انهيار الاتحاد السوفييتي 1991 مرحلة جديدة من الصعود والهبوط ؛ وكان لينين نفسه قد أدرك منذ البداية الدور الخطير الذي يلعبه " الفن السابع " في الثقافة والتوعية السياسية بين الجماهير ؛ فرفع شعاره الشهير "  السينما هي الأكثر أهمية لنا بين جميع الفنون " ، وكان خير من جسّد هذا الشعار وآمن به بعمق -كرسالة نضالية اشتراكية وإنسانية–  الفنان الكبير والمخرج السينمائي سيرجي ايزنشتاين مخرج الفيلمين الرائعين    " المدرعة بوتمكين و " الإضراب "  ،  وهما أول فيلمين كبيرين اُنتجا بعد قيام الأتحاد  السوفييتي . وبشهادة معظم كبار النقّاد في العالم اُعتبر الفيلم  الأول هو الأجمل على الأطلاق في تاريخ السينما العالمية . ومع أن عدد الأفلام التي أخرجها خلال حياته ضئيل إلا أنها عُدت مهمة وإبداعية  تعكس بصمات ليس مخرجاً  عظيماً  فحسب ؛ بل ومنظّر  استثنائي في فن السينما ، ولا سيما في طرائق الأنتاج الذي وصف أهميته الفائقة بتعبير مكثف :  "  هو الفيلم بأكمله "  .   
على إن هذا الفنان العبقري العظيم لم يحظَ للأسف برعاية رسمية كافية خلال سيرته الفنية القصيرة في ظل الدولة السوفييتية ؛ وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بحاجته كفنان عبقري إلى هامش من الاستقلالية لتحقيق طموحه وأحلامه السينمائية الكبرى التي وأدت بفعل الوصاية الرعناء المتعسفة من قِبل  قيادة الحزب الشيوعي الحاكم ، وبخاصة خلال عهد  " ستالين " ، مثله في ذلك مثل ما تعرض له سائر المبدعين من فنانين وشعراء وروائيين ومثقفين ، فقد تعرضت بعض مشاريع أعماله السينمائية للتضييق  ، من ذلك فيلمه " ايفان الرهيب " الذي صدر جزؤه الأول عام 1945 ،وظل جزؤه الثاني محجوزاً لدى الرقابة حتى عام 1958 ، فيما حال رحيله  المبكر سنة 1948 ( عن  50 عاماً )  دون تحقيق طموحه بإنجاز الجزء الثالث ، وكالعادة لم ينجُ ايزنشتاين من التهم التنميطية الجاهزة ، كالشكلانية والانحراف عن مبادئ الثورة وغيرها  ، و عندها أدرك  فقط أن المطلوب منه تأليه ستالين أكثر من مباديء الاشتراكية وثورة اكتوبر، رغم  أنه نذر حياته النضالية الفنية من أجلها ، هو القائل : " إذا كانت الثورة هي التي قادتني إلى الفن ، فإن الفن أغرقني في الثورة كلياً " . وإلى جانب هذا المخرج برز مخرجون آخرون كبار من نظرائه السوفييت أمثال المخرجة إسفير شوب ، و فسيفولود بودو فكين  ، وبوريس بارنت ، وغيرهم ممن برزوا بعد رحيل ستالين حتى انهيار الاتحاد السوفييتي .

وفي تقديرنا ما كان ينبغي حقيقةً أن يقتصر دعم الاتحاد السوفييتي لبلدان حركات التحرر الوطني على الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية فحسب ، بل أن يشمل في صناعة السينما الجوانب التراثية الفكرية الفلسفية  والعلمية من الحضارة العربية - الإسلامية ؛ لاسيما أن روسيا كانت ومازالت أكثر دولة عظمى في العالم اهتماماً بالاستشراق وتزخر بمئات المستشرقين  والمستعربين الذين قدموا دراسات تاريخية ولغوية موضوعية رصينة بخصوص التراث العربي الإسلامي ؛ بل وفي تقديرنا لولا تلك الدراسات المنشورة بالروسية لما أمكن كتابة سيناريو فيلم " إبن سينا " . صحيح توجد بعض لأفلام الروسية من هذا القبيل لكن على الأرجح رهينة الأرشيف السوفييتي ولم يتم ترجمتها  إلى العربية بعد  بعد . 

ولا شك أن مثل ذلك الدور لو أعتنت الدولة السوفييتية  به لكان من شأنه تعزيز مكانتها لدى فئات الشعوب العربية الإجتماعية ؛ علاوة على تياراتها  السياسية ، وليس اليسارية فقط ؛ وهو ما كان من شأنه تعزيز قوتها  الناعمة في المنطقة . فلئن كان مقطع من فيلم قد تناول  جانباً من منجزات علَم  واحد من أعلام الحضارة العربية الإسلامية قد حقق كل ذلك النجاح والصدى الإيجابي لدى ملايين العرب فلنا أن نتخيّل لو أن الدولة الروسية  التي لديها اليوم مخزون وفير من الأفلام السوفييتية غير المترجمة والتي تتناول التراث العربي ، وهي أفلام تتميز عن السياسية - الدعائية بأنها دائمة المنفعة ولا تتخطاها الأحداث ولا تموت على مر الزمن ؛ قد عنيت بترجمتها ومن ثم يمكنها   إعادة عرضها مرات ومرات كم ستكسب من الأصدقاء العرب إعلامياً . صحيح هي في زمان الاتحاد السوفييتي ماكانت ستحقق الانتشار الذي يتوقع أن تحققه الآن مع التطور الهائل وسائل التواصل الاجتماعي ، لكن كان بالإمكان بدرجة أو اخرى تحقيق مستوى  من الانتشار من خلال عرضها في المراكز الثقافية السوفييتية في عدد من العواصم العربية كالقاهرة ودمشق وبغداد وبيروت ودور السينما التجارية  فيها . 

عرض مقالات: