تقدم لنا رواية "طائر التلاشي"لمحمد رشيد الشمسي تنظيراً خياليا غرائبيا فنطازيا عن جزيرة لجزيرة متخيلة اسمها "تخالو". جزيرة يحوم حولها طائر غريب طيب الطعم والمذاق فيتخذونه غذاء يوميا لهم، إلا انه يسبب لهم مرض غريب ايضا وهو مرض التقزم ومن ثم التلاشي وغياب الموت عنهم،رغم ان الموت هو الحقيقة الثابته عند جميع الاحياء. الى جانب استخدام الايحاء والترميز في سرد روايته باسلوب فنطازي امتد على جسد مكونها المحكي.
يصور الكاتب حال السكان اثناء الضمور والتقزم حدّ التلاشي،ولم يسمع السكان لصوت العقل والحكمة المتمثل بصوت الحكيم "تخاخا" الذي دعاهم لتغير نهج واسلوب حياتهم حتى لايصابوا بهذا الداء وأن يجهدوا انفسهم بايجاد بديل اخر لمأكلهم وعيشهم وكما اشار الكاتب بترك الاقتناء في اكلهم اليومية على هذا الطير حتى لايصابوا بهذا الداء وعليهم ان يجهدوا لكسب الطعام والعيش في الجزيرة مليئة بالخيرات من البحر المحاذي لها وارضها الخصبة، وعدم البحث في التوسع لجزر اخرى ودخولها بالقوة الى عدم شن الحروب غير المجدية والمهلكة، ودعا السكان بعدم التشبث والاستبداد بآرائرهم المتخلفة البالية دون الرجوع لصوت العقل والفكر البناء، وبدلا من الاستلقاء على الظهر تحت النخيل نجدهم يفتحون افواههم آملين تساقط التمر فيها بل الالتفات لمصادر الديمومة والحياة.
تقول الرواية وعلى لسان الحكيم "تخاخا" (لاتتعب تفسك...نحن نريد ان يدخل جوفنا الطعام دون عناء...ربما يأتي يوم لانستطيع فيه ان نمد ايدينا ونطعم انفسنا) لنجد الناس وقد تركوا ما تجود به ارضهم ومياههم واعتمدوا الاكل لحم هذا الطائر المدجن وهم لا يفقهون انه سبب هلاكهم ولم يفكروا بهذه العواقب ولم يسمعوا صوت العقل والحكمة بل تصدوا لها واتهموها بشتى الاتهامات والتهكم والرفض،وهذا ما يتعرض له الحكماء واهل العقل والمصلحين على مدى التاريخ في سيرة الشعوب المنتفظة من اجل الانعتاق من التخلف والتجديد الحياتي والمجانب للتحرر من حكامها المتسلطين.ليتعرض قادتهم للاعتقال والموت والنفي من قبل السلطان كما في شخصية صاحب العقل المغير الحكيم "تخاخا".
وتصور سردية الرواية الملل والضجر الذي يصيب السكان وتنظيم التظاهرات المطالبة بايجاد الحلول اللازمة لظاهرة التلاشي كما في (نريد حلاً نريد حلاً...) الا ان حماة السلطة لجأوا لتفريق المظاهرات بالقوة والعمل على وضع حلول ترقيعية لاسكاتهم مثل دعوتهم لتقليل النسل وترشيد الاستهلاك وزج الشباب بحروب عبثية مفتعلة لتوجيه الانظار بعيدا عن ازمتهم الحقيقية، وفي اشارة ذكية من الكاتب لما تقوم به الانظمة الدكتاتورية ضد المظاهرات في تسويف المطالب الاساسية لها وعدم سماعهم لعقلاء المتظاهرين الذي يتسم بالحكمة والعقل ليكون السجن مصير المحتجين.
وهنا ككتابات عالمية استخدمت الخيال والفنطازيا للدلالة على الثيم المراد ايصالها للقاريء كرواية –طبل من الصفيح- للكاتب "غونتر غراس " الحائز على جائزة نوبل عام 1999، حيث يقوم بطل الرواية المتقزم "اوسكار" للتعبير عن غضبه على سلطة الفاشست و رجالهم المتحذلقين من خلال الضرب على طبله الذي يهشم زجاج الشبابيك والابواب بمجرد الضرب على الطبل بعصاه وهو يحدث اصواتاً تهز الجميع ليروح بعدها متخفيا في منصات خطبهم اوتحتها حين لاتعجبه خطبهم الرنانة هذه.
هنا يستوحي الكاتب طبل الصفيح والقزم "اوسكار" كي يكون رمزا للتحدي ضد الفاشية. وفي رواية "مائة عام من العزلة" للروائي العالمي غابريل ماركيز اعتمد اسلوب اللامعقول والمفارقة ،حيث يعاني سكان مدينة - موكاندو- من العزلة لمدة مائة عام، فهم لايموتون ولا توجد مقبرة لهم في مدينتهم وينتهي نسلهم بولادات مشوهة بسبب عدم احترامهم للعلاقات المحرمة.
وفي رواية "فرنكشتاين في بغداد" للروائي العراقي احمد السعداوي التي تصور "فرنكشتان" المارد التي انتجته المختبرات التجريبية العالمية يعبث في شوارع بغداد المهجورة في الايام الاولى من الاحتلال ناشرا الرعب والدمار والضحايا فيها،هذا الخيال وظفه الروائي لابراز فكرته عن وجود ايادٍ صنعت وتلاعبت كثيراً لتثير الرعب والقتل والدمار.
وفي رواية "طائر التلاشي" اعتمد "محمد الشمسي" على خياله الجامح والخصب لجمع ثيمة روايته وبيان نظرته للحياة ومن خلال تصويره لمعاناة السكان مع ظاهرة التلاشي وفق اسلوب فنطازي ملؤه المفارقات والغرابة، حتى صيرت الرواية اصوات السكان بانهم لا يسمعون ولا يستطيعون ممارسة حياتهم الطبيعية مع انهم احياء وليسوا امواتاً بل احياء يتمنون الموت ولا يحصلوا عليه لان اجسامهم تتقزم وتتلاشى واخذوا يلومون انفسهم بأنهم من صنع هذا الوضع المأساوي ليفقدوا الامل ويصيبهم القنوط ليقولوا (هذا ما وجدنا عليه اجدادنا وكفى).
هكذا نرى الشعوب التي تستكين وتخضع للظلم راضية لتخلفها وسلاطينها المنعمين والمتمتعين بخيرات البلد،عكس الشعوب الاخرى الرافضة والمنتفضة على واقعها المر لتتطور وتسير في ركب التقدم والرقي.
و تشير الرواية الى ترحيل الاشخاص الذين بان عليهم الاضمحلال والتقزم الى جزر اخرى،وقد طلبوا ان ياخذوا معهم رمل من جزيرتهم ليتنفسوا رائحة الوطن كلما اشتاقوا وعدم التفكير بالرجوع ، وقد غادروا وهم ينشدوا الوطن واعدين بالعودة مهما طال الزمن والفراق.
وبعد ظهور التلاشي على الحاكم والقاضي الاول بدأ السكان يندبون حظهم واخذوا يشعرون ان افكارهم تكبلهم ليس بوسعهم الفكاك منها، حيث اصبح بإمكان الطفل ان يرفع ويعلق جده من ردائه وهو يستغيث ولا يسمعه احد وبالكاد يرونه وينزلوه.
ويستمر الكاتب بالتعمق والتوسع واطلاق خياله ليصف كيف يتسلق الوالد صدر ولده او كيف يبحث الابن عن امه التي اصبحت بحجم قملة تختفي في شعر الراس او بين الملابس،ليصبح الاطفال يسخرون منهم.
ذهب التلاشي بالبعض لتسلق الاشجار والاختباء باعشاش الطيور واصدار اصوات مزعجة في الليل كنوع من الاحتجاج، ولفت نظر الاخرين خاصة السلطات لما وصلت اليه حالتهم. ليرد الحكام بطريقتهم في حفر قبور يسكنها هؤلاء المتلاشين فيها، ويذهب الكاتب لتوسيع خياله ليضع للقبور مواصفات و درجات خاصة، فيضع الاقارب الحكام ميزة تختلف في مواصفات عن قبر السكان الاخرين ليصل التلاشي الى دور الحاكم ليجد امه تتلاشى ايضاً.ويعني ان الحكام يلاقيهم التلاشي ايضا اسوة بسكان الجزيرة.
ايقن سكان الجزيرة أن التلاشي يلاقيهم اينما يذهبون ويحلون، وكلما يتقدم بهم العمر يصبح حجمهم بقدر قملة يبحثون عن ما يلائمهم من ارض لاتخاذها، اذ يشير الكاتب (أن شكل الخلق هي التي تخلق شكل الوطن. هناك اوطان جميلة .فهي جميلة بجمال روح ناسها،وهناك اوطان قبيحة هي قبيحة بقبح ناسها...)ص67.
يعي الروائي "حمد الشمسي" ان جمال الوطن هو من جمال الروح والفكر الذي يحمله ناسها ويسألون (ماذا نعمل كي نملك وطناُ جميلاً؟)ص67 وكان الجواب ان يعملوا بنصيحة الحكيم "تخاخا"ويسمعوا كلام العقل الراجح ويحللوا القول النافع و يعملوا به...
تدعوا الرواية في خطابها الادبي المفعم بالخيال ،الى حضور العقل واستخدامه لخير المجتمع، وان رفض الواقع المتدني هو الطريق نحو الحرية و هي البوابة المثلى لبناء الانسان والوطن رغم مجانبته للتضحيات حين يغلق الحكام سمعهم للتغير ويصدم السكان بالقتل لكن هناك من الباقين للتغير كما في حالة الحكيم "تخاخا" و والده الذي تم قتله من قبل السطلة.
توضح سردية الرواية في محكيها ايضاً طبيعة حكام الجزيرة في توريث ابنائهم للحكم وهذا ما معمول به في بلدان المنطقة وكأنهم مالكين للبلاد حتى باهلها وتقرير مصيرهم، وهي اشارة من الكاتب "محمد شمسي" للانظمة الشموليه في المنطقة.
يختصر الكاتب مايريد قوله على لسان "تخاخا" في قوله (ان الانسان لايتعظ بما يمر به إلا حين يقع في التهلكة ويحاول ترميم ماقد هدم...فهو يهدم بيد ويبني بالثانية ولو رمم بالاثنين معا لكان في احسن حال).
ان الانسان في الجزيرة لايزال به حاجة الى تفعيل الفكر وفهمه في قراءة الاحداث المتغيرة مع الزمن من اجل تطور المجتمع وكما اشار ماركيز (القراءة مفتوحة التأويلات تتجدد وتتنوع بتجدد الازمنة وحراكها وتنوع القراء وتنوع ثقافاتهم) ونؤكد ذلك اذا كانت المادة المقروءة خصبة الخيال تتحدث عن بغداد والمدن العراقية في انتفاضة تشرين و موقف السلطة بعدم الاستجابة للمطاليب وتسويفها بظاهر قرارتهم بل ذهب لتشويه المظاهرات السلمية وترهيبها بشتى السبل.

 

عرض مقالات: