الحديث عن تجربة الفنان التشكيلي الفقيد صلاح جياد يعني ضمنا الحديث عن التشكيل العراقي والثقافة بمعناها الأعم، والمخاضات التي نتجت عنها تلك التجربة المرتبطة بالهم الانساني والموضوعات الاجتماعية.
فصلاح من جيل إشكالي على المستوى الانساني والمعرفي والفني، حيث تنصهر ذاته مع الذات الجمعية بتطلعاتها السياسية، وتبنيه مفاهيمها ومتطلباتها، وإقامتها علاقة بين الفن والأدب والايديولوجيا، بمعنى الالتزام الأخلاقي والانساني والالتزام الفني وأضحت القراءة والثقافة من أولوياته الحياتية ليتمكن من معرفة الواقع وتفسير اشكالياته. وكانت تجربته الفنية قائمة على تلك الأسس منذ بداياته المقترنة بقبوله في معهد الفنون الجميلة وابهاره أساتذته آنذاك واكماله مشروعه التواصلي فيما بعد في كلية الفنون الجميلة مع رفيق رحلته الفنان فيصل لعيبي، الذي يصف التمرينات التي رسمها الأثنان بانها لو قدر ربطها ببعضها فأنها تصل بين طرفي بغداد الشمالي والجنوبي. وهذا ينم عن المراهنة والاخلاص الذي كان يعمل به الأثنان من أجل الوصول الى المرامي التي يقصدانها معا.
لكن الظروف كانت تسير بعكس ما اشتهي جياد ورفاقه من الفنانين الذي رسموا احلامهم في خطاباتهم البصرية. فغادر الوطن الذي أحب ، وكانت غربته وهجرته تمثل الهجرة الأولى للمثقفين والفنانين العراقيين، التي تلتها هجرتان في تسعينيات القرن الماضي اثناء الحصار، ثم بعد 2003 بفعل ظروف العنف المحيطة بالذات الإنسانية. وقد اشتملت غربته على المسارات الثلاثة من الهجرات وجمعت بينها .
أما على الصعيد الفني فتصنف تجربة الفنان الراحل باتجاهين، الأول ذو الأصول المجتمعية بمعنى وجوده داخل الحياة وبين الناس وهو يرسم وجوههم ويشاطرهم السعادات والأحزان، من خلال وجوده في شارع المونمارت لكي يرسم بورتريهات وصوراً شخصية لمن في الشارع . ويقترن الاتجاه الآخر بالتجريب في حقل الرسم من خلال تطوير تجربته الفنية على صعيد التمثلات التي تبدأ من الرسم الواقعي مرورا بكل الأسئلة الوجودية التي تثار ازاء أهمية هذا النوع من الرسم ، او التحولات المعرفية التي تقترن بالتجريد أو التعبير التجريدي وتشويه الوجوه في سطحه التصويري والعتمة التي تحيط باشياء اللوحة . وقد تُمثل هموم المجتمع والناس من خلال فلسفة الانتماء للواقع ومعنى الحياة .
وفي ضوء تعدد اشتغالات جياد طبقا للضرورات الجمالية والوظائفية التي تفرضها حاجات اللحظة ومتطلباتها، بما ينسجم مع الهدف العام الذي يتبناه ويؤمن به ، فمن خلال وجوده في الصحافة العراقية منذ بداية سبعينيات القرن العشرين واخلاصه لمهنة الرسم وتصوير القصص الشعبية التي كانت ماثلة في الذاكرة الجمعية، ليحولها الى معادل صوري يمكن أن يلتقطه الطفل، كونها رسومات لمجلات مختصة بهذا الشأن مثل (مجلتي ، المزمار ) فضلا عن الصحف والمجلات الأخرى التي عمل بها مثل ( الف باء ) وجريدة الجمهورية وغيرها .
ويشكل صلاح جياد لحظة مختلفة ومتميزة في مشهد التشكيل العراقي في ضوء الخصائص الذاتية التي تحتويها تجربته دون غيرها ، ففرشاته عنيفة ضاربة حرة وحركاته عفوية تقود الى تلقائية تعد من الخصائص الجمالية في أداء الرسموية. وان خطوطه العنيفة ناتجة عن ألم نفسي عميق وهواجس أو تخيلات تثير القلق ، كما أن عنف الصورة يتمثل بخشونتها التي تحمل تركيزا معنويا ورمزيا يجعل لها لغة خاصة تمتلك نموها الداخلي والخارجي في محاولة لتخطي القيود الموروثة. فاستخداماته المعبرة عن الانفعالات المباشرة بصورة اختبارية تشكل أحدى المكونات الأساسية لعملية الخلق الفني عنده . فصلاح جياد لم ينتقل من البناء الشكلي للموضوع الى التعبير اللاشكلي بشكل حاسم وقاطع ، ولم يخلق قطيعة بين التعبيرية الشكلية التي امتازت بها أعماله السابقة وبين التعبيرية التجريدية.
وفي المرحلة المتأخرة لجأ صلاح الى ايجاد علاقة بين الوجه والقناع بما تحدثه المفارقة والتناقض ، ولكنها في المحصلة النهائية تحدث تواؤما بينهما ولا انفصال بين هذا وذاك. وبدت أعماله وكأنها شبيهة بالأقنعة المضببة التي يستعير فيها ألوان الموشور الضوئي، الذي لجأت اليه الانطباعية من قبل. فيغدو لون سطحه التصويري مائلا الى الرمادي يتوسط قيم السواد والبياض، اشارة الى اختلاط المباديء وسط عتمة المفاهيم التي لا يمكن التفريق فيها بين الحقيقي والمزيف. وهذا ناتج عن القراءات الواعية في تفسير الواقع، والمآلات المعاصرة لحركة التاريخ ونتائجه المخيبة للآمال مقارنة بالمقاصد والمشاغل الأولى، التي كانت ترتجى التغيير على أساس العدالة الاجتماعية، التي وظف فنه لخدمتها، والتأسي بالذين قدموا خدماتهم من أجلها.
اليوم وبعد كل هذا الزمن المسروق من اعمارنا وعمر الراحل الكبير صلاح جياد يفارق احلامه في غربته القسرية دون أن يشهد تحقيق اي من ذلك البياض الماكث في أعماق روحه ودواخله، بعيدا عن احبته وارضه المشتهاة.
لكنه ترك خيارا لمن يريد أن يسير في طريق الجمال ويرتمي في احضان الوطن والناس، ويخلق صورة حلمية تصلح لأن تكون معادلا موضوعيا للوطن المضاع.
ـــــــــــــــــــــــ
* الفنان العراقي الكبير توفي امس في باريس ونعاه الحزب الشيوعي العراقي

عرض مقالات: