حينما يكتب "عالم اجتماع" رواية ستقفز فكرة لا مناص منها الى ذهن القارئ ، إنه سيكون أمام سرد تاريخي لوقائع تاريخية بحتة، سيكون هذا هو الانطباع الأول أو الفكرة الأولى في كون أن ما ستتم قراءته هو تاريخ فقط لاغير، وإذا سلمنا بأن العالم يريد أن يكتب "رواية" فالإعتقاد القريب الى الذهن أننا سنكون ازاء سرد تاريخي يحيلنا الى الروايات التاريخية التي تمتلك اشتراطات خاصة " ربما تبتعد ـ كما أعتقد ـ عن شروط الرواية وجمالياتها " ولكن المظروف الذي وصلني معززاً بإهداء من الدكتور عالم الاجتماع الراحل " سليم علي الوردي " ومؤرخ قبل اسابيع من رحيله حالما فتحته وجدت فيه رواية تحمل عنوان "سيرة ابراهيم " للدكتور سليم الوردي، ترحمت أولا على روحه واستغربت من تأخر وصول الرواية لعام تقريبا، لهذا بدأت القراءة من فوري .. ولم أترك الرواية الا في ظهيرة اليوم التالي وقد اتممت قراءتها.. ووجدت نفسي امام رواية تخترق التفاصيل والتواريخ لتقف وهي تعري سيرة القتل والدم التي عاشها العراق سردا يتمثل بالراوي وهو يسير بجانب بطل الرواية وهو يضع امامنا علامات تتحدث عن سيرة الدم الاولى في الوطن كذلك وجدت نفسي امام رواية تمتلك سحرا يجذب القارئ عبر احداث تمسك به بسرعة.. صحيح ان لدي بعض الملاحظات السردية البسيطة على الرواية لكنها لا تعني شيئا ازاء تماسك السرد فيها وهو يمر على تاريخ الدم العراقي الذي يبدأ كما مؤشر في خارطة الاستهلال الروائي، اللحظة التي يولد فيها " ابراهيم" في اواخر عام 1936يوم انقلاب الفريق بكر صدقي .. الحدث الذي رسم مبكرا ملامح العنف الدامي لمستقبل العراق ..وربما عنى الكاتب المعني بسيرة " ابراهيم " سيرة وطن ، ابراهيم المسيحي الذي أعلن اسلامه على استحياء وعدل عنه بعد ان علم ان من شروط إسلامه " الختان " فيتخلى عن المرأة التي أحبها وأحبته بسبب عملية " الختان " التي تخيفه وترعبه رؤية الدم فكيف اذا كان دمه وفي أكثر اماكن جسده حساسية ، إبراهيم الذي تتصاعد انفعالاته عاليا وتصل به الى حد الغثيان اذا سمع أن شخصاً يصرخ بآخر .. ابراهيم الذي عاصر كل الدم المراق على ارض العراق منذ 1936 وانغماره في الحراك السياسي ولكن بشكل محايد جدا.. وصولا الى الحرب العراقية الايرانية حيث وجد مقتولا وموزعا الى اشلاء ومعلقا على دكان القصاب في منطقة " عقد الاكراد ".. وهنا يثار في ذهن القارئ كمدخل استهلالي للرواية اسئلة تضج عمن قتله؟ ولماذا بهذه الطريقة البشعة؟ " إبراهيم " الذي عاش في مكانين " عقد النصارى " حيث ولد و "عقد الاكراد " حيث عاش ومات وشهد مايمكن أن نطلق عليه " اثر الدم على الفرد العراقي " عبر مدخل خطير وهو انقلاب بكر صدقي على وزارة جعفر العسكري وقتله وعاش بمواجهة عناوين خطيرة استغلها الروائي بذكاء متحاشيا الانغمار الكامل في التاريخ ومختزلا الكثير منها كعلامات وضعها أمام القارئ كحادثة مقتل الملك غازي وحركة رشيد عالي الكيلاني ومعاهدة " بورتسموث " ووثبة كانون وإعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي عام 1949 وانتفاضة 1952 وصولا الى ثورة 14 تموز وهكذا يستشرف كل هذا التاريخ في رواية تبدأ من حيث انتهت ، هكذا كانت فصولها تتوالى عبر عين ساردة ـ راوٍ عليم ـ متمكن من ادواته السردية مع كونه عالم اجتماع من طراز خاص ، والى روح الراحل الكبير عالم الاجتماع الذي غادرنا وكانت في جعبته الكثير من المشاريع ، الرحمة والطمأنينة.. حقا كان المظروف المهدى إليَّ والذي وصلني متأخرا جدا! من الهدايا الغنية التي لايمكن أن تنسى .. فرواية ـ إبراهيم ـ من الروايات التي تستحق القراءة وتسليط الكثير من الأضواء عليها ...ليس كونها تحدثت عن وطن أوغل عميقا في مسالك ومهالك حروب لا ناقة له فيها ولا جمل بل تجد نفسك مجبراً على أن تتعاطف مع ابراهيم المسيحي وابراهيم المسلم وابراهيم العاشق وابراهيم الشيوعي وابراهيم العراقي بامتياز
شكرا عزيزي د. سليم علي الوردي على هذه السيرة الروائية العراقية المذهلة.

 

عرض مقالات: