كثيرا ما يجري الحديث عن دور المثقف الطليعي في توجيه الجماهير عند الازمات الوطنية، وبفعل المرحلة الفاصلة في تاريخ العراق الحديث فإن هذا السؤال يبرز الى الواجهة دالاً على مساهمة المثقف العراقي في صناعة الحدث المحلي الراهن أو توجيهه نحو المسار الصحيح الذي يجب أن يكون عليه. ولعل الاجابة على هذا التساؤل لا يمكن أن تكون دقيقة جدا ومنضبطة بالنسب والأعداد، لأنها مرهونة بطبيعة الحراك ومرجعياته المتعددة والظروف الموضوعية المؤثرة فيه، وسوف يكون من ضمنها توجه المثقف الأخلاقي والأيديولوجي أيضا أو قناعاته الشخصية بالإيمان بهذا الحراك من عدمه أو الوقوف عند المصالح الشخصية ومصالح الوطن والشعب والانحياز لأي منهما. كل هذا دعاه الى أن يتخذ موقفا محايدا في بعض التقديرات ، او قيام البعض بتسويق نفسه بوصفه يتبنى مواقف الناس وهمومهم في حين نجده يؤسس لمصلحته الخاصة ويقف على الضد من هذا الحراك في جوهر قناعاته، وقد وجد هذا البعض بشكل أفراد أو ضمن هيئات ونقابات مهنية . لكن هذا لا يلغي أدوارا مهمة لصورة المثقف المنتمي الى قضايا الناس التي استند اليها المحتجون من خلال الدعم اللوجستي أو المشاركة الفعلية معهم، واستطاع هذا المثقف النوعي أن يعلن عن صوته الحقيقي ويؤسس لعلاقة جديدة بين عموم الجماهير وصوت العقل الواعي المستند الى معرفة حقيقية بتحليل أنساق الواقع وامكانية الرجوع اليه في المتبنيات المطلبية الرئيسة للحراك الجماهيري وإن كان تواجده نوعيا في بعض المفاصل ، لكنه فاعلا في المحتوى المضموني.
ولذلك لا تصح المقارنة على صعيد الكم بين المثقف والمحتج العام ، لقلة اعداد المثقفين مقارنة بالأعداد الهائلة من الجموع المشاركة ، ومن هنا نصل الى توصيف مشاركة المثقف وفعاليته ضمن هذا الحراك الجماهيري من خلال الكيف والنوع ، بوصفه ضمير ولسان حال الشعب ويستطيع تلمس حاجات الجماهير والتعبير عنها ، وهذا يحيلنا أيضا الى طبيعة المثقف وأرى في هذا ان المثقف المنتمي الى تطلعات الشعب هو المثقف العضوي وغيره لا يمكن تصنيفه ضمن هذا الأساس، حيث ينأى بعض المحسوبين على الثقافة من منتجي الخطاب الابداعي وعدد كبير من اساتذة الجامعة بأنفسهم عن المشاركة الفعلية وإن كان داعما معنويا لها وذلك لعدم توافر الأرضية التي تدفع هؤلاء الى الالتحام مع مطالب الجماهير سواء كانت هذه الدوافع ذاتية أو موضوعية. وهذا لا يلغي المشاركة الفعالة للمثقف العراقي فردا أو جماعة تنضوي تحت خيمة المؤسسات والنقابات الثقافية، اذ انبثق من ذلك تجمع ثقافي عراقي تحت خيمة الاتحاد العام للأدباء في العراق يتخذ من نصب الحرية مقرا له يدعم الجماهير بالاستشارات إن احتاجت ذلك ويتضامن معها بإقامة فعاليات نوعية متعددة الاتجاهات والتخصصات ، فضلا عن مشاركات من قبل جمعية الفنانين التشكيليين واقامتها معرضا وسمبوزيوما للرسم في ساحة التحرير وآخر في مقرها واستمر لمدة اسبوع كامل يتخذان من الحدث العراقي عنوانا لهما مع مشاركة الفنانين في رسوم نفق التحرير .
وفضلا عن هذا فإن مشاركة المثقف كانت جادة وحقيقية من خلال الاستمرار في البحث عن لحظة جديدة للتعبير والتواجد الدائم مع المحتجين وتقديم الدعم المعنوي في النصح والتوجيه وتقديم رؤى تفسر وتشرح مستقبل هذا الحراك والخطوات الواجب اتخاذها من اجل تحقيق الاصلاح العام شارك فيها مفكرون وأدباء وفنانون واعلاميون وخلق رأي عام لتبني تلك المطالب ، فضلا عن الادارة الثقافية الناجحة التي قام بها البعض لإيصال صوت المحتجين للعالم من خلال صحيفة معبرة عن طبيعة هذا الفعل الاحتجاجي وانشاء اذاعة محلية خاصة بهذا الفعل، مما حقق اعادة الثقة بالمثقف العراقي وفاعليته الاجتماعية المطلوبة. وطبقا لتطور نظم الاحتجاجات تطورت الفعالية الثقافية ونقلت بعض الاتحادات والمؤسسات الثقافية نشاطاتها اليومية الى ساحات الاحتجاج، وجرى فعل مماثل في ساحات احتجاج المدن العراقية لما اقيم في بغداد مثل الرسوم الكرافيتية في البصرة والنجف ، او فعاليات اتحاد الادباء في البصرة والناصرية والنجف بمشاركة الأعضاء والجماهير المحتجة من اجل توسيع رقعه الاحتجاج بالمشاركة العامة، فضلا عن الفعاليات النوعية القائمة على المساهمة الفكرية في تفكيك صورة الاحتجاج ومرجعه الاجتماعي ، والخطوات اللاحقة التي يجب أن تتبناها الجماهير المحتجة لما يؤسس لعلاقة جديدة مثمرة بين المثقف والشعب تعيد ترميم العلاقة القديمة التي انتابها الكثير من الالتباس. وهذا يمكن تلمسه من خلال احتضان الجماهير في ساحات الاعتصام للمثقف بتخصصاته المختلفة واللجوء اليه احيانا للمساعدة في تقييم طبيعة هذا الحراك أو حثه على التواجد من اجل تصحيح المسار وحسن الاختيار للموقف الذي تتطلبه اللحظة الراهنة.

عرض مقالات: