لا مفاجأة بالنسبة لي وكذلك لمن يعرفون من كثب المربي الفاضل / مدرّس الرياضيات الأستاذ عبد الزهرة حسب : فهو قارىء دؤوب لفن الرواية منذ فترة طويلة وهو قارىء موسوعي أيضا، وتشهد له صحيفة (طريق الشعب) من خلال قصصه القصيرة المنشورة في صفحة ثقافة منذ سنوات . ولا مفاجأة بالنسبة لي روايته البكر هذه (الأنهار لاتنبع من المدن) فمنذ إطلاعي على  مخطوطاته القصصية والروائية، وتكرار كتابته لنصوصه لتخليصها من الفائض اللغوي : أشهد أن (أبو عادل) يتحدى وجع عينيه، ونورهما الحسير، ويمسك فوق نظاراته الطبية مقبض عدسة مكبرة مدورّة ويكتب ويشطب ويعيد ثم يعيد، ثم يسلّمني مخطوطته، ثم يسلمني سواها، ويعتبرها نسخة أخيرة، ولا تكون الأخيرة، فهو مثل بعض المبدعين : لا يقتنع بنسخة ٍ أخيرة حتى بعد الطبع

(*)

حين نتراسل مع عنوان الرواية( الأنهار لا تنبع من المدن) نرى أن المثبّت(المدن) هو المحذوف، والمثبّت هو الذي ربما ينتج سؤالا : إذن مَن أين تنبع الأنهار ؟  تجهزنا الرواية بمرجعية عنوانها في الصفحات الأخيرة : (الحقيقة يجب أن تقال أن القرية في أنتفاضة 1991 وفرت الأمان لسكان المدينة .مثلما وفرت الأنهار التي لا تنبع من المدن،الماء اللازم للحياة فأ بعدت الخوف من الموت عطشا عن سكانها) .. مابين القوسين يحتمل مسألة خلافية، سترجأها قراءتنا هذه

(*)

يمكن تنضيد (الأنهار لا تنبع من المدن) ضمن الرواية التي تستعمل الريف فضائها الروائي، و تتجاور الرواية من أسلوبية الحكاية في الغالب، لكن قوة العمل هي حيازته على عنصر التشويق الذي يجعل القارىء   متلهفا لمعرفة ما سوف يجري.

(*)

إذا كانت السيادة المكانية للريف، فأن السيادة الشخوصية : هي لشخصية عزت، أما بقية الشخوص، فأن طرف خيط حركيتها الروائية بيد (عزت): إذن عزت هو الشخصية المحورية في الرواية، ولهذه الشخصية محورها التي تدور حوله، وهذا المحور لا يملكه عزت،بل اقترضه من ميكافللي (الغاية تبرر الوسيلة ) وهو لا يريد سوى أن ينال أثنتين (الثروة والقوة) لكن كيف ينالهما؟ وهو لا يجيد الدفاع عن نفسه حين يؤذنوه أترابه. والجيد في عزت أنه يعي خوائه الشخصي (أرى حياتي شجرة في صحراء يحرقها الصيف ويعريها الشتاء. تمر عليّ الأيام ومراحل حياتي متشابهة. صباي كطفولتي وشبابي كصباي وبالتأكيد لو سارت الحياة كما تسير الان لمت طفلا)..

(*)

يبدأ السطر الأول من الصفحة الأولى، بشخص فتح عينيه في فجر يوم الجمعة، من خلال المسطور في الفصل الأول وهو بسعة صفحة ونصف الصفحة  ستتكشف لنا الأبعاد الرئيسة لهذه الشخصية، وسنعرف بعد ذلك أن اسمه (عزت) وفي الفصل الثاني سنكون  أمام  سارد عليم بالريف ومفاتنه النباتية (حين يمعن الفجر الخريفي بتمزيق ثوب الليل،والديكة تصيح في بيوت القرية، ويردد صوت المؤذن في ندائه الأبدي( الله أكبر) وتنضم زقزقة العصافير. تؤلف جميعا لحنا يتردد في جميع انحاء القرية ليتشكل نداء يقظة والاستعداد للعمل.. وماهي إلا لحظات  حتى يملأ الفلاحون شوارع وأزقة القرية متوجهين إلى مزارعهم مع الأغنام وعدد العمل ) ..هؤلاء يوحدهم العمل وهؤلاء بعد صفحات من الرواية توحدهم مدفأة الشتاء (عندما يجلس الجميع حول مدفأة الشتاء يبدون جسما واحدا متعدد الرؤوس، تضفي المدفأة دفئا على الجالسين فينسيهم البرد القارص المطارد لهم اثناء النهار. يزداد تطلعهم للحياة والميل للحديث مع بعضهم. تتصارع فيه ذكريات الماضي وأحلام المستقبل وأماله وللأطفال نصيبهم من الحكايات الجميلة )

(*)

مشكلة (عزت) لا يريد المشاركة في صناعة حياته فعندما يقترح عليه أبوه العمل في المدينة يرفض، وكان مقترح الأب من أجل تحفيزه للزواج ، أما الأب فقد وفرّ لولده كل متطلبات الزواج .وإذا كانت الصدمة الأولى في حياته غياب جرأته خلال فترة الطفولة فأن رفض (وفيّة) ستكون صدمته الثانية ويجيء رفض وفيّة مواجهة مع أم عزت، ستكاشفها وفيّة قائلة (لم أر عزت يوما ما قادما من الحقل، وعلى كتفه مسحاة وبيده منجل .ولم يذهب للمدينة طلبا ً للعمل. كلما وقعتْ عيني عليه وجدتُ إلى جانبه سيد كاظم وهو من أخوان يوسف) وتنهي وفيّة كلامها قائلة :(عندما يصبح رجلا معتمدا على نفسه سيجد من جميلات القرية من تقبل به زوجا، أما أنا فلا استطيع خداعي نفسي واقبل به) ..أم عزت وهي في طريق عودتها سترى ما قالته وفيّة هو الصحيح لكن عزت سيكون رفض وفية،له (صاعقة هزت كيانه وحولته جسما يتحرك بلا شعور)

(*)

يجد عزت ضالته عند سيد كاظم الذي سيوصله إلى غايتيه الصغرى والكبرى، الأولى الزواج من مظلومة أبنة رئيس الجمعيات الفلاحية في القضاء والمشرف الأول على الجمعيات التعاونية الزراعية في القرية. وهكذا سيكون تحقيق الأملين في لحظة واحدة وسيجمع عزت  الثروة والقوة وسيكون كلب صيد الحكومة

(*)

يولي السارد العليم أهمية خاصة للمرأة في رواية (الأنهار لاتنبع من المدن)، يتجسد ذلك في الشخصيات النسوية الثلاث : (وفيّة ) و(مظلومة) و(نزيهة) ويكون تركيزه الأكبر على المرأتين المتميزتين بتحصيلهما العلمي، وبتفوّق وفيّة على مظلومة بسعة وعمق وعيها الاجتماعي، وهي الحافز في إخراج مظلومة من عزلتها بعد طلاقها من عزت، وبتشجيع وفيّة ستنال مظلومة أعلى الشهادات الأكاديمية

(*)

لا تخلو الرواية من استفادتها من الحبكة البوليسية، في الإيقاع بشخصية (عزت) ويكون نسيج الحبكة على يد حفيدة شهرزاد (وفيّة ) التي تعرف كيف تروض الوحش الأنتهازي (عزت) وتنصب له الفخاخ

(*)

تتضمن الرواية مرجعيات أدبية ، مقتطفة من كتب يعلن عنها السارد العليم وكذلك مقتبسات من الذكر الحكيم، وأحيانا هذه التضمينات والمقبوسات، تكون مقحمة ..

(*)

هذه الملاحظات  لا تقلل من جماليات هذه الرواية التي اعتمدت النمط التقليدي في السرد، وحسمت كثيرا من الاشكالات في العلائق الاجتماعية، مثلما يحسمها فن الحكاية ..

---------------------------------------------------------------------------------------

*عبد الزهرة حسب/ الأنهار لا تنبع من المدن/ دار نينوى/ 2019

عرض مقالات: