يقال: إن رصانة الفحوى لأيِ كتابٍ قد تأتي من (ثرياه): عنوانه، وتلك ليست دلالةً للتوجه النقدي ووضع اليد على الأهمية من خلال ذلك! إنما سمتها للتأكد من صحتها من خلال الكتاب الذي بين يديّ بتصميمهِ الفريد والغريب! فقد ضمَّ بين دفتيهِ مجموعتينِ شعريتين.
"قلالي"
قُللٌ وقُلال: تعني كلّ شيءٍ أعلى الرأس. ومفردُها: (قُلّة) التي تعني (الرعدة). وإذا أُضفيتْ إلى معرفةٍ تعني بعضَ أجزائهِ فمثلاً: (قُلّة) السيفِ: ما على طرفِ مقبضهِ من فضّةٍ أو حديد! وقد تعني: النهضة من الفقر. و(قلال) في نهاية الأمر: أعمدةٌ ترفعُ بها الكرومُ عن الأرض. فهلْ تتناسب هذهِ المعاني مع ما أفضتْ بهِ هذه اللوحة وبما يفضي بهِ المتن؟!
ينطلقِ الشاعرَ مما لم يره الآخرونَ ويتجاوزُ بقراءته تلك الحدود نحو الكلّي ثم الجزئي الذي يحاولُ بهِ ترتيبَ بناءٍ خاص في مواجهةِ الواقع.
مقداد مسعود في (قلالي) رتبَ وحداتهِ الشعرية المرقمة حسب مخاضها الزمني فجاءت متواليةُ الحزنِ مرتبّةً، تعمّقُ جدلاً ضمنياً مع الواقع المؤلم! وتأخذُ مدياتها المرسومة بعنايةٍ للكشف بصورة غير مباشرةٍ. ينتقلُ من دائرةٍ إلى أخرى، بأفكار تتسمُ صياغتُها بنفسٍ سردي، تأخذُ اللغة فيه منحىً استرسالياً وتمنحها كينونةً قابلةً للتأويل والاستنطاق!:
(ضحكتْ بخفةِ فراشةٍ، ثمَّ باحتْ: ما الذي جعلنا نرى في الشيِ كلَّ الأشياء و لا نرى الشيءَ ذاتَهُ ؟ يسألها بدوره: هل الحياة بأسرها: فاصلٌ إعلاني؟ أم محطّة؟ وتسألهُ وهي تفركُ يديها بقشرةٍ ليمونةٍ معصورةٍ للتوِّ: هلْ ركضُنا يشبهُ حركةَ مروحةٍ سقفيةٍ بكلِّ سرعتها.. قصدك؟ تسألهُ: ألسنا نحنُ ضمنَ دورةِ المياه في الطبيعة؟...)
إن الشاعرَ في وحداتِهِ الشعرية لا يتنبأُ ولا يضع ُحلولا قسرية للتساؤلِ وإنّما – هو يعرفُ أنّ هذهِ ليستْ مهمة ِالشاعر – يؤشرُ وقد يوخز لتقصي الحلولَ الغائبة: (الآنَ في العام الثامن عشر من الألفية الثانية.. إلى اينَ وصلنا. – قصدُكِ الى أينَ ما نزالُ نتدحرجُ. - هل ثمةَ حل...؟)
ان الكتابةُ تمثّلُ لمقداد مسعود معدلاً موضعياً للحياةِ المشوّهةِ، غير القادرة على تمثيل حلمهِ الى واقعٍ ملموسٍ بفعل اجراءاتٍ خاطئة: (اريدُ التفرغَ للاعتناء بمشاعري. سأنتقلُ منْ قليّةٍ إلى قلية، أرسمُ شفراتٍ وجيزة ً على جدرانها.)
من هنا نجد المشهد الحياتي واضح ٌ وحاضرٌ في كل شيء، تحت وطأة الشعور بالمرارة في كل الأمكنة وفضاءاتها: (اسمعيني جيداً، وتذكري معي ما جرى: الوضوحُ يرقب ُ المشهد، بأضوائه ِ وأصواته وناسه.
"قسيب"
عنوان المجموعة الثانية في الكتاب: وهو عنوانٌ له وقعٌ يشعرُنا بالمضي قُدُماً في تفسيرهِ القاموسي. ف (قَسيبُ الماءِ): جريه مع صوت! وقد تعني قسيّبُ: الطويلُ الشديدُ منْ كلِّ شيءٍ. ولأَنَّ المفردةَ غيرُ محرّكةٍ، سنعتمدُ الأولى مقياسُنا في الاستنطاق. فها هو يقولُ في اهدائهِ:
(يا مهيارُ....
يا كلّ كليّ في تدفقِكَ اللذيذِ
انتَ قسيبُ العائلة)
وهو ولوع ٌ باستنطاق المفردات من عدّةِ زوايا. فها هو يعطينا معنى ماضيها الآخر في وجهه القاموسي. ف(قَسَبَ): غرب. قَسَبت الشمسُ: أخذت في المغيب والشاعرُ يناجي ولدَهُ الراحل (مهيار):
(فكيفَ يا قرةَ قلبي
قَسَبتْ شمسُك وانتَ
انت ضحاها).
ومن خلال تاريخهِ الطويل في الكتابة والمتابعة تأسستْ عنده رؤيةٌ فنّيةٌ متفرّدةٌ في تقصي اثرَ الهدفِ من إبداعه الكتابي وملامسة روح (الصدق) الفني في التجربة حتى لو كان تأويلاً: ومن ذاكَ دأبَ على التجريب بغية الوصول الى تفرد يرضيه هو قبل غيره.
ان رؤية الشاعر للعمل تشكلت على وفق دراية بالسياق الفني وهو يحاول أن يصل بتجريبه الى النقطة القصوى التي تمنحه التألق مع الهدف من الكتابة.
فمثلما (قلالي) ضمت (قسيب) (77) وحدة شعرية، لكن الترقيم هنا يتحرك تنازليا فهو يبدأ من الوحدة 77 ويتوقف عند الوحدة (صفر) يليها خمس وحدات تبدأ هكذا (الميم) (الهاء) (الياء) (الألف) (الراء) وهكذا ينتهي كتاب (قسيب)، تساويهما يعني تعادلا في موضوعية الطرح الذي ينضح مرارة واشكالات واقع!، واختلافا في التكنيك الفني. كل الوحدات الشعرية تمثلت مهيمنات حياتية، نزفت روحه ألما في صياغتها في بيانات تتوضح فيها المتناقضات واشكالياتها الحياتية!
ومن كل تلك المهيمنات تبرز على السطح روحه الحزينة على فقدان ولده. الحزن الذي أوشك أن يكون العلامة الفارقة للمجموعتين!
(سجاياك مثل عمرك
وكلاهما بطراوة أفئدة الطير
يا مهيار يا أجمل اقمار الله بعيني)
وما انفك يهوم على مدركاته في الاسترسال الكتابي، ولا يجرؤ على ازاحة هذا المهيمن:
(أراكَ عالياً..
أراكَ ولا أَنوشك،
هل صرتَ سماءً ؟!)
ومن تلك الوحدة الشعرية نفسها (13) يدعوهُ، وهو بهذا يستدعي المستحيل، ويهبُ نفسَه كينونة المتخفي بالخلود : (اجمعني بقبلةٍ منك. لا دمعةً تغلفُ عينيَ... اجمعني لأستردّك َ فيَّ يا كلّ كلّي... )
الشاعر يلوّح في بعضِ وحداتِهِ الشعرية الى (السعي) والعمل من بين ركامِ تلك الآلام ويغالبُ انفعالاتِهِ العاطفية!، ويسخّر كل ذاك الى مخاضٍ جديد، يبتعد فيه عن الوقوف في دوحةِ الاحلام وترتيل الاحزان: (لنْ أمتثل للرضا. ولنْ اصغي إلاّ لنبضي. لم تعد السماء شرفةً تطلّ علينا وترشقنا بالقرنفل، او بالمناديل لتنشفَ دمعنا او لهاثنا اليومي خلف الخبز) ص31. وحدة (57)
في (قلالي) و(قسيب) مقداد مسعود يضعنا أمامَ متناقضات الحياة ومترادفاتها في حراك يستلهم ُ صراعاً جدلياً يبين كلّ تلك الظواهر، واستطاعَ انْ يتعامل مع اللغة بالبساطة المتجددة في إجرائية الافكار!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*مقداد مسعود / قسيب – قلالي / دار المكتبة الاهلية / توزيع دار الرافدين بيروت / ط1 / 2019

عرض مقالات:

مقالات اخری للكاتب