في المجموعة الشـعرية "جمهورية البرتقال" للشـــاعر الراحل ابراهيم الخياط، نعثر علـــــــى التجربة الحســـية المنبثقة من مرجعية: سـوسـيولوجية – ســياسية – ايديولوجيـة – تاريخيــة، الملتحمة مع بعضها لتشكل تجربة ذاتية في قصيدة النثر العراقي، وعليه يجب أن تكون قــراءتنا  للنص الشعري بناءً على الحفر المعرفــي للمرجعيات، ومدى تشـــظيها وانتشـــارها في تجربة القصيدة المكتوبة، فالخياط يعطي الأولوية للتجـربة الحـــسية ويكتب بدافع المراجعة المتلبســــة بالدهشـــة، الدهشــــة المقتحمة للمختلف لتؤســـس المتغير اليومي، ولتكشـــف واقـــع ما وراء المألوف، وولوج الـذات/اللغة عالم المغايرة مـع الآخر/المألوف في رؤية تتشــكل صيرورتها مــن خلال الفعــــل الكتابي، لكي ينهج طريقاً مغايراً في كتابة القصيدة للآخر، والتوغل عميقاً في مدارات الاختلاف  والاصرار على تكريس روح المغايرة: لغةً وفكراً وعملاً.. والنبــش بتكريــس الاختلاف للتعويض فــي كـــسر التابوات عـــن طريق الكلمة وليس عــن طريق آخر، فان المغايرة تتموضع (داخل عمل يقوم هو بقيادته من خلال ســـلسلة من المفاهيم و"الالفاظ" الاخرى وكذا من خلال تمظهرات نصية مغايرة)(1).

نقرأ عبارة "سـلام الــشعر" في بداية المجموعة، موضوعة  قبل الاهداء الذي يقول "إلى التي أسرت أول الكاظمين"، وهنا يستوقفنا سؤال، ويضعنا في مواجهة دلالة تحتاج الايضاح: لماذا شعر السلام الملحق بالأسر؟ اذا ثمة ما هـو خارج النص! ثمة تاريخ، ثمة ســــلطة، كمــا يقول فوكـــو، ثمة تداخل، ثمة تعالــق، عندئذ تتضح الصورة، وندلف منها الـى اللاوعي القابع وراء الجملتين، المفترقتين ظاهرياً والمتداخلتين فعلياً، انها الشفرة التي تنتج الاشـــارات لكي توصلنا الى سبب ترابطهما، ان كان ذلك بقصد أم لا.

إن (القصيدة الخياطية) تبتعد عن الغموض والتعقيد، وتقترب كثيراً مــن اليومي العراقــــي، وتبتعد عن الزخرفة الشكلية، والتلاعب اللفظي، انه شعر خارج من الحزن، ولكنه شعر يتناسل منه الســلام والسعادة رغم روحه الحزينة:

"كانت المدينة تسورني بالتماعاتها

وتأمرني بالبكاء

ـ وانا المجبول دمعاً ـ

إذن كيف أوهمونا ان للمدن ذاكرة؟ ،ص 25"

وحتى عنوان المجموعة "جمهورية البرتقال" وضع من قبل الخياط بقصدية ملغومة، لوضع القارئ امام مفترق طرق مربكة، تجعله يتريث، ويحفز المخيلة في فك مدلولاتها الجمالية والابستمولوجية، فالجمالية تقع ضمن خانة التذوق واللغة الشعرية، اما الابستمولوجية فتقع ضمن خانة الــسياقات الــسوسـيولوجية والسياسية والايديولوجية والتاريخية، وهذه العملية التي تحدث عند ابراهيم الخياط في قصيدته المحفزة للفكر تشـــبه العملية التي تحدث في المـــسرح البرشتـي – الملحمي، وأول ما يتبادر الى ذهن المتلقي/القارئ، ان جمهورية البرتقال هي ديالــى، لكثرة بساتين البرتقال فيها، بينما الشاعر له وجهة نظر اخرى او:

"شاعراً

اطلقت قلبي

وسميت عشقي

 برتقالا، ص 16".

هنا يحصل التقاطع عند المتلقي، مع التباس الرؤية، وتعدد التأويلات، وهذا يدعو الى التأمل والمراجعة فيما قرأنا، فهل جمهورية البرتقال = عشق البرتقال = الوجد البلدي = الحب – السلام – الوطن – الرفاق، ام هي جمهورية الحلم التي "لم تكن ثمة جمهورية أو برتقالات حتى"(2)، وهذا بدوره يعيدنا الى "سلام الشعر" و "الى التي أسرت":

"قلبي، أول الكاظميِن، ومسك الختام، ص 92".

ويقوم الخياط بتوظيف الانا/ضمير المتكلم بشكل تناسقي، دون ان يترك فراغات فــــي البنية التي تشكل الصورة، بل هذه الانا تتوحد مع الطبيعة، مع المعالم الانسانية، بل تصل لتتوحد مع انا الشاعر "انا الفنار":

 "مرة      

 صاحبت القناطر،

ألفتها ،

فما عادت الانهار تجهلني

بت انا الفنار الذي تراوده عن نفسه

ولا أقول ... ، ص 19".

  حتى في اشتغاله على التناص المستل من الكتب المقدسة، يجعل هذا التناص مغايرا فـــــــي  المعنى والمحتوى، ويعمل على نحت صورة شعرية جميلة، لأنه ينظر الى الدين باعتباره يقوم على افتراض وجود تجربة روحية، او اختبار روحي يخوضه ويعيشه الانسان، وهذه التجربة تشكل فك شفرة علامة استفهام بلحظتها التاريخية وبالنمط الثقافي:

(تقدّ قميصي

– كلّ ليلة –

من الجهات أربعها

ولا أقول: "ربّ السجن أحبّ إلي" ، ص 19".

صور تضج بدلالة رمزية - تأويلية، مبنية على الواقعية - الحسية للذات الكاتبة، معتمدة على  الحكاية القرآنية "ســورة يوسف"، فــي الغواية والاغراء، ولكن هنا اختلفت الصورة وتغيرت، واصبح الاغواء جزءا مهما من الصورة الشعرية بالاضافة الى القميص الممزق كل ليلة مــــــن جوانبه الاربعة مـن  شدة الوجد والعشق، انه الداخل الى الغواية/التجربة بإرادته، والمستمتع بها بجسده، بالضد من الخارج/الهارب من تجربة الغواية، والرافض لها، بحيث تمنى السجن ولا الخوض فـــــي كهذه تجربة / فعل.

يجب ان لا تكون قراءاتنا محــكومة بآراء مســبقة واحكام جـاهــزة والا ستكون واقعة تحــت وطأة السطحية وضيق الافق الايديولوجي وســلطة القراءة المغلقة، كما فعل البعض في قراءتهم للمجموعة (3)، فمثلا اعتبر هذا البعض البيتين السابقين واقعين في خانة المباشرة الفجّـة، فقد (كان يجب على نقد المفاهيم الواقعية للتحليل النفسي الواصف الفرويدي أن يكون في كليته غـــــير ظاهراتي. ولا تستطيع أية ظاهراتية مختصة بالوعي أن تضبط النقد، والا فإنها ستعود الى الخلف) (4)، نعـــم لقد تميزت واتسمت المجموعة بالحزن المتأتي من الحروب والخراب والدمـــار نتيجة تســــلط مافيات ملتفة بعباءة الميتافيزيقيات، لـــذا فان فضاء المجموعة الشــــعري هــو مـــــرآة للفضاء الواقــــعي المأساوي الناتج عن لقاء بين المخيلة الشعرية الاصيلة وبين الهمّ والانــكسار والتردي العربــــي، والالم والوجع الوطني، وخوفا من ان تغرق ذاتية الشــــــاعر فــــــي الواقع المطوق بالمأساة والمعرضة للنسيان والضياع، يهرب ذاته الى الكتابة الشعرية، لكي تلتحق بمرافئ الذاكرة الانســـانية، ذاكرة بروميثيوس، ولتكشف فيها عن ذاته، وليتعرف فيها الــــــى ذاته، وليعبر عن ذاته:

"ذات حرب ٍ

غفوت تحت شرفة الحدود

ومن غفلتك

او إغفاءتك

غادرتك الاحلام المســعدة

 فأحلامك الانيقة  لم تعد على رفّ الذاكرة

والفراشات – كقصائدك – تبكي ، ص 81 -82". 

واذا عرفنا ان جدلية الحرب ماهي الا جزء من جدلية الموت، اذا هـذا يصبح فــــــي المنظور السـياقي الدلالي اعتياديا وطبيعيا، وخاصة عندما يكتوي انســـــان بثلاثة حــروب ضروس، انها محملة بالرمزية – القصدية مع صورة شعرية جمالية موجهة نحو القارئ لكــــــي يفـــك رموزها وشفراتها، واستخراج الدلالات والمعاني التي توجد في النص لان (العمل الفني يمكن ان يفهم باعتباره بنية ذات طبقات من الرموز والمعاني المستقلة تمام الاستقلال عن العمليات التي تدور في ذهن الكاتب اثناء التأليف(5).:

"ساحت بحربين زئبقة أيامي

عشرون عاما وانا ابكي

عشرون عاما وانا

اغزل رئة ثالثة 

فالأولى للقطران

والثانية للشهيق

وهذي الشفيفة للبارود الجميل

أنط من حرب الى أخرى

- كما الحلزونات الذكية – ص 25".

وفي مقطع آخر. أشد قسوة، وأعمق تأثيرا، يتساءل الخياط كم يحتاج البلد لمقابر مثل مقبرة السلام:

" أيوب -

هي القيامة قد قامت

وفيها واحـدة لا تكفي

فكم "نجف" تحتاجين بلادي

في ازدحامات الحروب ، ص 42".

ويستحكم الالم الانساني بانتشار الموت المجاني، وتبعثر الجثث، فهذه الصور الشعرية اصبحت الشاهد الوحيد على احــتراق الوطــن، ونحر السلام، ومسخ الانسان:

"في زوايا المخافر والمدافن والحانات

وعند انقلاب الحرائق

أحاور الجثث

أغازل النعش المتجول في بساتين قلبي

أخبئ القمر المستورد في لفافة الرمل

عشرون عاما وانا أدور واهاجر وأنكفئ، ص 36- 37".

  هنا المفردة – الشعرية، أسست صورة بصرية ســـردية، وقامت بفتح بوابات التــأويل كافة، مع مفارقة ذكية، في محاورة الجثث التي غادرتها الحياة، ومغازلة النعوش الموضوعة فيها الجثث وتأتي المفردة في نهاية القصيدة لرسم صورة سريالية لحزننا، وتحويل المألوف الى اللا مألوف.

وعلى الرغم من السـجون، وامراء الحروب، والاغتيالات على الهوية، يبقى الخياط حالما من الطراز الاول، يحلم وعيونه مفتوحة، يحلم وهو يحلم، أي كما قال عنـــه الناقد فاضل ثامر ومثبت على الغلاف الاخير: "شاعر مهموم بالحياة.. مهموم بالقضية.. مسكون بحب الوطن بحب الارض، ولذا تجده دائما يقيم هذه الحوراية بينه وبين المستقبل، بينه وبين الآخر، بينه وبين الانســان فــــي تدفق شعري قلما تجده بين  مجايليه من الشعراء".

"وان حلمت !!؟

 فهل

  تكتمل قصيدة يغلفها الحلم، ص59".

 ورغم أن المجموعة تحتوي على خمس وعشرين قصيدة منفصلة، وكل قصيدة لها كيانـــــــها الخاص بها، وبنيتها المتماسكة، الا انها تكون ملتحمة بحبل سري مع بعضها البعض، كأنها قصيدة واحدة متكاملة ذات محتوى واحد، محققة لوحة بانورامية عريضة، ان هــــــــذا الالتحام والتربط بين القصائد شبيه بأسلوب فن الكولاج.

واخيراً اقول ان مجموعة  "جمهورية البرتقال" لـــ ابراهيم الخياط، هي مشروع قراءة مفتوح امام النقاد والقراء، لاستنباط ما هو مخبوء فيه من بؤر اشعاع مضيئة بجمالية شفافة ... انها تجربة قصيدة .

عرض مقالات: