اللغة ــ كما نعرفها ــ هي أداة توصيل الأفكار والرغبات والمشاعر ومكون رئيس في تشكيل هويات الشعوب، ومن اللغة ولدت اللهجات المتعددة لتكون طريقة من طرق أدائها وايصالها الى الآخر، ولأن اللهجة بنت البيئة المحيطة، فانها وعبر سنوات من التداول اصبحت جزءاً من الهوية المحلية وكاشفة لمرجعية المتحدث بها، فنجد لهجة مميزة لابن الريف والبادية والصعيد، ولدينا في العراق ما يدعم هذا التنوع، حيث تجد للموصلي لهجته وكذلك للأنباري والبغدادي والجنوب بشكل عام، وهذا الأمر تسلل الى حقول الابداع فظهرت ألوان من الغناء والشعر خاصة بكل بيئة، فظهر شعر النبط ــ ويسمى ايضا القصيد ــ الذي شاع استخدامه في منطقة شبه الجزيرة العربية، وعلى صعيد الشعر الشعبي نجد انه من النادر ان تقرأ لشاعر جمع بين لهجتين مختلفتين وكتب فيهما نصوصا شعرية مثل ما انطوت علية تجربة " مظفر النواب " الشعرية التي انفردت بخاصية في استخدام المفردة، فقد تعامل النواب مع المفردة الشعبية وتوظيفها في عموم شعره بشكل يثير الدهشة والتأمل وذلك من خلال مزجه بين لهجات مختلفة يدل على استلهامه الارث العراقي الغني بالدلالات، فهو وان كان ابن بيئة وحاضنة مدنية ــ بغداد ــ الاّ ان قاموسه الشعري حفل بالعديد من رموز الريف العراقي ومفردات الوسط والجنوب واستحوذ الهور ومعالمه الساحرة على مساحة غير قليلة من منجزه الشعري فكان المشحوف والجبيشة والمردي والقصب حاضرة وبقوة في قصائده، وقد أجاب النواب عن هذه المفارقة(الكثير من الناس يستغربون كيف أستعمل لغة الجنوب وأنا لم أعش فيه، وفعلا لم أعش حياة الهور بل كنت أزور المنطقة لخمسة أيام او ستة أيام، ولكن لحساسية المفردة هناك وموسقتها والانفعالية التي بها فقد سيطرت عليّ سيطرة تامة)، ياترى كم شاعر عاش هذه الحساسية وتمكن من ترجمتها لصالح نصه الشعري مثلما فعل النواب ؟ فانك حينما تقرأ اشعاره تكاد لا تصدق ان هذا الشاعر المنحدر من عائلة ارستقراطية قد تربى في بغداد وتلقى تعليمه العالي في مدارسها وذلك بسبب ما يظهر عليه من تماهي مع حياة الجنوبيين الفقراء وانغماسه التام في تفاصيل حياتهم وحكاياتهم ولهجتهم فتجد قاموسه الشعري حافلا بالمفردات القريبة من حياة ونفسية الجنوب العراقي (أحاه، إشاه، ملهاش، كضك، لساع، حسك، عطابه، الكيظ، دخيلك، غرشه، افيش، شدهني، جثير،شكد، تجزي، نكضني، مسبوجه سمج، التفك) وهذا غيض من فيض والملفت للنظر هو استخدامه المفردة الجنوبية (جا) التي تشكّل هوية ابن الجنوب واللازمة في حديثه عندما يتحدث بها امام ابناء المدن الاخرى، حيث وظفها النواب في قصيدة "حسن الشموس" على لسان الأم وهي تستفز غيرة ابنها الثائر:
جا هو لعب دم الشعب يبني ... ؟
جا هو الشرف شكلين .. جاوبني
واستخدمها كذلك في قصيدة "على كد البريسم"
موش حلفنه وكلنه نموت
ومانتفارك
جا ليش بساع تفاركنه
يظل الحديث عن المنجز الشعري للنواب الكبير حديثا متجددا وممتعا

عرض مقالات: