في سنوات عمره التي تمتد إلى خمسة عقود ونيف من السنوات، تبدو حياة الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي أنطونان أرتو Antonin Artaud (1896 - 1952) لوحة مأساوية ما كان العذاب الذاتي والجسدي ليفارقها إلّا وجاء عليها بالتيه والضياع وبالتالي الموت المؤلم، وهو ما كان يدركه؛ بل يعيشه أرتو نفسه حتى وجد في مسرح القسوة ضالته للتعبير عن حسِّه المأساوي بالوجود.

عاش أرتو على ما يرزح في كينونته الآدميّة من متاعب؛ قسوة لسانه الثقيل تلعثماً عندما كان طفلاً يافعاً، وقسوة التشرُّد التي عاشها بمرارة حتى لحظات رحيله الأبدي؛ فقد طارده الالتهاب السحائي منذ طفولته، ونخرت دودة السرطان معدته، وكان المشي في أثناء النوم يصيبه بالهلع منذ شبابه، لكنَّها أسرَّة المستشفيات العقلية والنفسية هدَّت قواه ليصبح جسده هزيل الحال متشرداً هنا أو هناك حتى يداهمه الرحيل الأبدي دونما أمل شافٍ بالحياة سوى الهزيمة.  

ضد السرياليّة

في تأريخها، لم تشهد الحركة السرياليّة تمرداً مثلما شهدته مع تجربة الشاعر والمسرحي الفرنسي أنطونان أرتو، الذي انتمى إليها في سنة 1924، وتزعّم مركزاً للدراسات ضمنها، لكنّه سرعان ما اختلف مع مؤسس السرياليّة أندريه بروتون (1869 - 1966)، الذي أصدر "بيان" الحركة الأول في السّنة نفسها، وكان من تداعيات الاختلاف أنْ كتب أرتو بياناً صارخ الطيّة كشف فيه عن اختلافه الفكري؛ بل الوجودي مع الحركة بعد أن توجّه أتباعها نحو الثورة؛ حتى إنه تساءل مرة فيما إذا كانت السرياليّة ستبقى. (عدنان محسن: المغامرة السرياليّة، ص 117).

يُعد بيان أرتو "أكذوبة السرياليّة" أيقونة فلسفيّة لما تضمّنه من موقف صريح بشأن موجوديّة وخطاب وأداء هذه الحركة كاشفاً فيه عن رؤيته الفكريّة للحياة والروح والعالَم؛ فهو يعترف قائلاً بأنّ "جوهر خلافي معهم وتفاقم السّخط بيننا يدور حول كلمة ثورة" (ص 124).

وفي هذا السياق، يوضِّح أرتو رؤيته للثورة قائلاً: "ليس ثمّة ثورة حقيقية غير تلك التي تكون مُجدية؛ لي ولأناس من أمثالي. إنّ القوى الثوريّة لأي حركة هي تلك التي يكون بمقدورها أنْ تساهم بإخلال التوازن في جوهر الأشياء، وفي تغيير زاوية الواقع" (ص 125). 

ويذهب إلى أكثر من ذلك عندما يصف رؤية السرياليين إلى الثورة بأنّها أقرب إلى  الخيال كونها بعيدة عن جوهر إحساس الذات الإنسيّة بهذا العالَم: ويتساءل: "ماذا تفعل لي ثورات العالَم كلها لو أنّي بقيت على الدوام موجوعاً وبائساً في ركام جسدي؛ على المرء ألّا يعوِّل على أبعد من حساسيّته العميقة؛ على أبعد من أناه الحميميّة، هذا هو معنى الثورة الحقّة في رأيي" (ص 124).

لقد كان فهم السرياليين للثورة ذي توجُّهات مصلحيّة، وهو انحراف مشين - بحسب أرتو - إذ عملوا على "إضفاء معنى نفعي وعملي لكلمة الثورة" (ص 121). ويتساءل أرتو: "ماذا عن الآخرين الذين انضمّوا إلى الشيوعيّة؛ ماذا حصلوا وبأي ثمن؟ لمْ تجعلهم الشيوعيّة أنْ يتقدّموا خطوة واحدة!" (ص 121).

لا يني أرتو يكشف في "بيانه" عن اختلافه مع نظرائه السرياليين الذين يصفهم بأنّهم "يحبون الحياة بقدر احتقارهِ لها" (ص 121). ويرى بأن تفاوتاً حالّاً فيما بينه وجماعته؛ فما كان يتوجّب عليهم هو إثارة الاهتمام الروحي بالعالَم لكنّهم عدماً يحاولون، كونه يؤمن بوجود "قانون للروح لا يقود إلى التخلي فيه عن الواقع إلّا إلى الأشباح" (ص 120)؛ بل وفي قصيدته (مُوجّه للبابا) كشف عن كراهيّة الآخرين للروح في ظل اعتقاده بأنه "لا توجد كلمات توقف الروح"، وأكثر من ذلك، نراه يعتقد أنَّ العالَم مفعم بالروح؛ سيما وهو القائل: "العالَم هو هاوية الروح". وموقف كهذا من الروح يعني أنّ السرياليين أفرطوا في الانغماس في العالَم المادي المحايث ونسوا الجوانب الروحية التي هي عماد التواصل الخلاق مع العالَم لكنهم بقوا يحومون دوماً "فوق المظاهر" (ص 121) حتى تراهم في تناس من أمر الروح التي كانت منطلقاً لهم وإن بلغة غير مطلقة، فهم لا يتردَّدون ينغمرون بالمتعة الآنيّة، ما جعلهم يفقدون اتجاهاتهم الأُولى، وتلك القدرة الباهرة على الانفلات من الواقع والتي كنّا نحسب أنّهم يمنحونا أسرارها" (ص 126)، لكنّهم سقطوا في فخ روح مرتبكة "قائمة على الفوضى والمماحكة البائسة التي قادتهم إلى تمزيق بعضهم البعض" (ص 126).

بهذا البيان الشجاع يودِّع أرتو السرياليّة ويقف على الضد منها ومن أداء رجالاتها لينصرف إلى شؤونه الإبداعيّة دون ملل ولا تردد على الرغم من آلامه وأوجاعه الصحيّة؛ وبعد تحصَّله على قسوة غريبة جراء تجربته مع السرياليين، تلك القسوة التي كانت تتبلْور في دواخله حيث أوجاعه الجسميّة التي تكملها أوجاعه النفسيّة وجراحه الوجوديّة.

ومع كل ذلك الحيف الجسمي والنفسي والوجودي الذي عاشه، ما كان أرتو ليستسلم من دون قول كلمته في الحياة وهو الشاعر مرهف الحس؛ فبلسان "بياتريس" في مسرحية (آل سنسي)، قال أرتو: "لم يعد هناك أي جزء صغير في جسدي يمكن أن أرتكن إليه" (ص 66). قال ذلك وسط شعور مرٍّ بالهزيمة الروحية يحدوه في رحلة عذاب منقطعة النظير؛ حتى إنه كتب في نص (يوميات الجحيم) عن شعوره قائلاً: "أشعرُ أن عناصر جديدة تتدخّل في إفساد نفسي، وهي تبدو لي كما لو أنَّها وعي جديد بضياعي الحميميّ"، ثم يقول: "الشلل يداهمني ويمنعني أكثر فأكثر من أن أدور حول نفسي" (حسونة المصباحي).

لقد جعل أرتو من ضياعه الحميمي أسطورة جمالية، ففي قصيدته (من أنا؟) قال: "أنا أنطونان أرتو، يتطاير جسدي في كل الجهات، ثم يتلملم ثانية بعشرة آلاف هيئة معروفة، سترون جسداً جديداً، لن يكون بوسعكم أبداً نسيانه" (عدنان محسن: المغامرة السرياليّة، ص 236).

إن هذا الشعور بالتشظِّي الذي كان يداهم أرتو لم يكن يمنع ذاته الداخليّة من أنْ تعيش نسْق خطابها الداخلي؛ إذ بقي على رؤاه الفكرية والفلسفيّة بشأن المادية الضحلة، والشيوعيّة المبتذلة، وهجرة الروح، وضرورة التعبير عن قسوة الآخر، خصوصاً الأنظمة الشموليّة.

تعرية اللاهوتيين

تمتَّع أرتو بروح نقديّة مثابرة عندما عرى السرياليين ليفترق عنهم، لكنه فعل ذلك أيضاً بشأن تعرية الخطاب الدِّيني متمثلاً برمزها "البابوي". وفي هذا الإطار كتب قصيدته (مُوجَّه للبابا) خاطب فيها شخص "البابا" وبضمنه "المؤسسة الدِّينيّة" قائلاً: "أيّها البابا، لستَ أنتَ كرسي الاعتراف إنّما نحن" (ص 236)،  واتهمه بأنّه يدفع "إلى بيع الأرواح وسحق الأجساد" (ص 237)، وأضاف مجازفاً: "إنّنا لا نكترث بشرعِك الكنسي، بمحرماتك، بخطاياك، بكرسيِّ اعترافكَ، بقطيع كهنتكَ" (ص 237).

على نقيض الروح التي يدّعي، بقدر ما يدعو إليها البابوات، بأنه الحق الناصع في الوجود، يقلب أرتو المعادلة؛ فتلك الروح مثقلة بالكراهيّة القميئة حتى يخاطب البابا قائلاً له: "من أقصى مهزلتك الرومانيّة حتى أدناها، ما ينتصر هو كراهيّة الحقائق المباشرة للروح وكراهيّة النيران فيها" (ص 237).

وعلى أن هذا الاصطفاء النقدي سيجد مقابله الموضوعي في نص مهم من نصوص مسرح القسوة؛ المتمثل بمسرحية (آل سنسي) التي تجري أحداثها في القرن السادس عشر، والتي أفرد فيها أرتو نقداً لاذعاً للشخصية البابوية بوصفها فصيلة ملعونة من البشر؛ بل وللنظام الأخلاقي البابوي برمته؛ ففي هذه المسرحية يمثل "سنسي، كما صوره أرتو، استدعاءً عصرياً لصورة الإله اليوناني، والأب القاسي، الشهواني، الفاسق، المتحكم في أبنائه بوصفه يمتلكهم ملكية خالصة له، يفعل بهم ما يشاء، ويتصرف فيهم كما أراد مُعلناً من دون خزي أو خشية بأن العائلة التي يحكمها هي مجتمعه الوحيد" (أسامة أبو طالب).

تبدو حياة أنطونان أرتو، كما شعره ومسرحيته اليتيمة "آل سنسي"، نشيداً شعرياً مؤسي الكينونة؛ بل عابق الأثر في المشهد الإبداعي الفرنسي لعل للعرب حظوة أنهم يقرأون الترجمة العربية الأولى لمسرحيته التي ترجمها إلى العربية الدكتور سعيد كريمي، والصادرة في الكويت مؤخراً، ولجزء من حياته وشعره كما ظهر في كتاب الصديق عدنان مُحسن (المغامرة السرياليّة) الصادر عن دار الجمل هذا العام، ومن ذي قبل آثر حسونة المصباحي ترجمة جزء من قصائد "يوميات الجحيم".

عرض مقالات: